قبل أيام من صدور السياسة الوطنية للذكاء الاصطناعي، كنت قد طرحت في مقالي السابق «بين العقل والأداة: شعرة معاوية» تساؤلاً عن موقع الإنسان في ظل تصاعد دور التقنية داخل المؤسسات. لم يكن المقال انعكاس لحظة عابرة، بل محاولة لفهم التحول السريع في طبيعة القرار المؤسسي الذي بات يتأرجح أحياناً بين الفهم والتفويض من دون إدراك كافٍ لما يفقد على الطريق.
إعلان السياسة الوطنية لم يكن إجراءً شكلياً أو وثيقة تنظيمية تضاف إلى رصيد الدولة، بل خطوة تعبّر عن تغيير في طريقة تفكير الدولة تجاه المستقبل، وتجاه دور الإنسان داخل المؤسسة. هذا الإعلان لم يأت ليُضيف أداة تقنية جديدة وإنما ليفتح باباً واسعاً لمراجعة حقيقية تبدأ من طريقة استخدام المؤسسات لأدواتها وتصل إلى نماذج التفكير التي تُبنى بها قراراتها اليومية.
الرسالة كانت واضحة ومتجاوزة للانبهار بالأدوات الذكية، مفادها أن امتلاك التقنية لا يكفي لتحقيق التقدم ما لم يُقترن هذا الامتلاك بقدرة حقيقية على استخدامها في سياق يحترم الغاية ويحفظ المعنى. لأن كثيراً من المؤسسات لا تزال تتحرك بهياكل ونظم صممت لزمن مختلف تماماً عن الحاضر، يصبح من الضروري أن تبدأ كل مؤسسة بمراجعة صريحة لنفسها، لأطرها التنظيمية، لآليات اتخاذ القرار فيها، ولطريقة قياسها للإنجاز.
هذه المراجعة لا تنبع من رغبة في التغيير فقط، بل من وعي بأن الذكاء الاصطناعي ليس برنامجا يُضاف إلى نظام العمل، وإنما مدخل يعيد تشكيل النظام من جذوره. لكن النصوص وحدها لا تغير واقعاً إذا لم تجد من يفعلها بفهم ومسؤولية. فالمؤسسة لا تنهض بأنظمتها من دون كوادر قادرة على إدراك متى تستدعي الأداة، ومتى تراجعها، ومتى تتجاوزها حفاظاً على الغاية الكبرى.
وفي بيئة العمل، لا يُقاس الاستعداد بكمّ المعلومات التقنية التي يمتلكها الموظف.. بل بمنظومة القيم التي تحكم قراراته، وبقدرته على مواجهة التوتر، وبعينه التي ترى الصورة كاملة وسط ضغط اللحظة وسرعتها. الموظف المستعد لعصر الذكاء الاصطناعي هو من يحسن قراءة السياق لا من يحفظ الأوامر، وهو من يدرك أن التقنية ليست عقلاً بديلاً، بل مرآة تعكس وضوح عقله هو.
وهنا يظهر دور القيادة الواعية، القائد الذي لا يتوارى خلف الأنظمة الجاهزة ولا ينجر خلف كل جديد من دون تمحيص، هو من يرى خلف الأرقام ويتنبه لما لا تظهره الشاشات، ويضع الأثر نصب عينيه قبل أن يصدر قراره.
ضمن هذا السياق تتعاظم أهمية دور وزارة التربية والتعليم في تشكيل وعي الأجيال تجاه الذكاء الاصطناعي. لأن بناء المستقبل لا يتم بالسياسات فقط وإنما بالتنشئة.. نأمل أن تتبنى الوزارة منهجاً وطنياً متدرجاً يبدأ من الصفوف الأولى وينمو مع الطالب حتى يصبح الذكاء الاصطناعي جزءاً من نظرته الى العالم لا مجرد مادة دراسية. المبادرة التي أعلنتها المملكة العربية السعودية بشأن إدراج الذكاء الاصطناعي في جميع مراحل التعليم العام اعتباراً من العام الدراسي 2025 -2026 توجه يحسب لها ويعكس إدراكاً بالضرورة التربوية والاستراتيجية.
ولا يمكن تجاهل الدور المحوري الذي تقوم به هيئة المعلومات والحكومة الإلكترونية، فهي لم تكتف بإطلاق السياسة الوطنية بل كانت سبّاقة في تبني الميثاق الاسترشادي لأخلاقيات الذكاء الاصطناعي على مستوى دول مجلس التعاون، وهو ما يعكس وعياً مبكراً بأن التقنية يجب أن تُضبط بمعايير أخلاقية لا أن تترك مفتوحة على احتمالاتها. هذه الثقة نابعة من سجل الهيئة المؤسسي ومن قدرتها على تحويل الرؤية إلى تدريب وتأهيل وتغيير حقيقي يبدأ بالعنصر البشري قبل أي شيء آخر.
اليوم لم يعد السؤال عن جاهزية المؤسسات لتبني التقنية، بل عن استعدادها لإعادة تشكيل ثقافتها حولها وعن مدى وعيها بأن الذكاء ليس بديلاً عن القيادة ولا عن القرار، وإنما ضوء يساعدنا على أن نرى أوضح لا أن يُملي علينا الطريق.
انطلق الذكاء الاصطناعي من الإنسان، ويعمل بواسطته، ويعود أثره إليه، والمؤسسة التي تُدرك هذا الترتيب لن تخاف من الأداة ولن تُفرط في العقل.
مهتمة بالحوكمة وتطوير الأداء المؤسسي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك