العدد : ١٧٢٩٦ - الخميس ٣١ يوليو ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٦ صفر ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٢٩٦ - الخميس ٣١ يوليو ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٦ صفر ١٤٤٧هـ

مقالات

من يصنع القرار.. الإنسان أم الخوارزمية؟

بقلم: عبير محمد دهام

الثلاثاء ٢٩ يوليو ٢٠٢٥ - 02:00

قبل‭ ‬أيام‭ ‬من‭ ‬صدور‭ ‬السياسة‭ ‬الوطنية‭ ‬للذكاء‭ ‬الاصطناعي،‭ ‬كنت‭ ‬قد‭ ‬طرحت‭ ‬في‭ ‬مقالي‭ ‬السابق‭ ‬‮«‬بين‭ ‬العقل‭ ‬والأداة‭: ‬شعرة‭ ‬معاوية‮»‬‭ ‬تساؤلاً‭ ‬عن‭ ‬موقع‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬تصاعد‭ ‬دور‭ ‬التقنية‭ ‬داخل‭ ‬المؤسسات‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬المقال‭ ‬انعكاس‭ ‬لحظة‭ ‬عابرة،‭ ‬بل‭ ‬محاولة‭ ‬لفهم‭ ‬التحول‭ ‬السريع‭ ‬في‭ ‬طبيعة‭ ‬القرار‭ ‬المؤسسي‭ ‬الذي‭ ‬بات‭ ‬يتأرجح‭ ‬أحياناً‭ ‬بين‭ ‬الفهم‭ ‬والتفويض‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬إدراك‭ ‬كافٍ‭ ‬لما‭ ‬يفقد‭ ‬على‭ ‬الطريق‭.‬

إعلان‭ ‬السياسة‭ ‬الوطنية‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬إجراءً‭ ‬شكلياً‭ ‬أو‭ ‬وثيقة‭ ‬تنظيمية‭ ‬تضاف‭ ‬إلى‭ ‬رصيد‭ ‬الدولة،‭ ‬بل‭ ‬خطوة‭ ‬تعبّر‭ ‬عن‭ ‬تغيير‭ ‬في‭ ‬طريقة‭ ‬تفكير‭ ‬الدولة‭ ‬تجاه‭ ‬المستقبل،‭ ‬وتجاه‭ ‬دور‭ ‬الإنسان‭ ‬داخل‭ ‬المؤسسة‭. ‬هذا‭ ‬الإعلان‭ ‬لم‭ ‬يأت‭ ‬ليُضيف‭ ‬أداة‭ ‬تقنية‭ ‬جديدة‭ ‬وإنما‭ ‬ليفتح‭ ‬باباً‭ ‬واسعاً‭ ‬لمراجعة‭ ‬حقيقية‭ ‬تبدأ‭ ‬من‭ ‬طريقة‭ ‬استخدام‭ ‬المؤسسات‭ ‬لأدواتها‭ ‬وتصل‭ ‬إلى‭ ‬نماذج‭ ‬التفكير‭ ‬التي‭ ‬تُبنى‭ ‬بها‭ ‬قراراتها‭ ‬اليومية‭.‬

الرسالة‭ ‬كانت‭ ‬واضحة‭ ‬ومتجاوزة‭ ‬للانبهار‭ ‬بالأدوات‭ ‬الذكية،‭ ‬مفادها‭ ‬أن‭ ‬امتلاك‭ ‬التقنية‭ ‬لا‭ ‬يكفي‭ ‬لتحقيق‭ ‬التقدم‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يُقترن‭ ‬هذا‭ ‬الامتلاك‭ ‬بقدرة‭ ‬حقيقية‭ ‬على‭ ‬استخدامها‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬يحترم‭ ‬الغاية‭ ‬ويحفظ‭ ‬المعنى‭. ‬لأن‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬المؤسسات‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬تتحرك‭ ‬بهياكل‭ ‬ونظم‭ ‬صممت‭ ‬لزمن‭ ‬مختلف‭ ‬تماماً‭ ‬عن‭ ‬الحاضر،‭ ‬يصبح‭ ‬من‭ ‬الضروري‭ ‬أن‭ ‬تبدأ‭ ‬كل‭ ‬مؤسسة‭ ‬بمراجعة‭ ‬صريحة‭ ‬لنفسها،‭ ‬لأطرها‭ ‬التنظيمية،‭ ‬لآليات‭ ‬اتخاذ‭ ‬القرار‭ ‬فيها،‭ ‬ولطريقة‭ ‬قياسها‭ ‬للإنجاز‭.‬

هذه‭ ‬المراجعة‭ ‬لا‭ ‬تنبع‭ ‬من‭ ‬رغبة‭ ‬في‭ ‬التغيير‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬وعي‭ ‬بأن‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬ليس‭ ‬برنامجا‭ ‬يُضاف‭ ‬إلى‭ ‬نظام‭ ‬العمل،‭ ‬وإنما‭ ‬مدخل‭ ‬يعيد‭ ‬تشكيل‭ ‬النظام‭ ‬من‭ ‬جذوره‭. ‬لكن‭ ‬النصوص‭ ‬وحدها‭ ‬لا‭ ‬تغير‭ ‬واقعاً‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬تجد‭ ‬من‭ ‬يفعلها‭ ‬بفهم‭ ‬ومسؤولية‭. ‬فالمؤسسة‭ ‬لا‭ ‬تنهض‭ ‬بأنظمتها‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬كوادر‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬إدراك‭ ‬متى‭ ‬تستدعي‭ ‬الأداة،‭ ‬ومتى‭ ‬تراجعها،‭ ‬ومتى‭ ‬تتجاوزها‭ ‬حفاظاً‭ ‬على‭ ‬الغاية‭ ‬الكبرى‭.‬

وفي‭ ‬بيئة‭ ‬العمل،‭ ‬لا‭ ‬يُقاس‭ ‬الاستعداد‭ ‬بكمّ‭ ‬المعلومات‭ ‬التقنية‭ ‬التي‭ ‬يمتلكها‭ ‬الموظف‭.. ‬بل‭ ‬بمنظومة‭ ‬القيم‭ ‬التي‭ ‬تحكم‭ ‬قراراته،‭ ‬وبقدرته‭ ‬على‭ ‬مواجهة‭ ‬التوتر،‭ ‬وبعينه‭ ‬التي‭ ‬ترى‭ ‬الصورة‭ ‬كاملة‭ ‬وسط‭ ‬ضغط‭ ‬اللحظة‭ ‬وسرعتها‭. ‬الموظف‭ ‬المستعد‭ ‬لعصر‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬يحسن‭ ‬قراءة‭ ‬السياق‭ ‬لا‭ ‬من‭ ‬يحفظ‭ ‬الأوامر،‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬يدرك‭ ‬أن‭ ‬التقنية‭ ‬ليست‭ ‬عقلاً‭ ‬بديلاً،‭ ‬بل‭ ‬مرآة‭ ‬تعكس‭ ‬وضوح‭ ‬عقله‭ ‬هو‭.‬

وهنا‭ ‬يظهر‭ ‬دور‭ ‬القيادة‭ ‬الواعية،‭ ‬القائد‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يتوارى‭ ‬خلف‭ ‬الأنظمة‭ ‬الجاهزة‭ ‬ولا‭ ‬ينجر‭ ‬خلف‭ ‬كل‭ ‬جديد‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬تمحيص،‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬يرى‭ ‬خلف‭ ‬الأرقام‭ ‬ويتنبه‭ ‬لما‭ ‬لا‭ ‬تظهره‭ ‬الشاشات،‭ ‬ويضع‭ ‬الأثر‭ ‬نصب‭ ‬عينيه‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يصدر‭ ‬قراره‭.‬

ضمن‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬تتعاظم‭ ‬أهمية‭ ‬دور‭ ‬وزارة‭ ‬التربية‭ ‬والتعليم‭ ‬في‭ ‬تشكيل‭ ‬وعي‭ ‬الأجيال‭ ‬تجاه‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭. ‬لأن‭ ‬بناء‭ ‬المستقبل‭ ‬لا‭ ‬يتم‭ ‬بالسياسات‭ ‬فقط‭ ‬وإنما‭ ‬بالتنشئة‭.. ‬نأمل‭ ‬أن‭ ‬تتبنى‭ ‬الوزارة‭ ‬منهجاً‭ ‬وطنياً‭ ‬متدرجاً‭ ‬يبدأ‭ ‬من‭ ‬الصفوف‭ ‬الأولى‭ ‬وينمو‭ ‬مع‭ ‬الطالب‭ ‬حتى‭ ‬يصبح‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬جزءاً‭ ‬من‭ ‬نظرته‭ ‬الى‭ ‬العالم‭ ‬لا‭ ‬مجرد‭ ‬مادة‭ ‬دراسية‭. ‬المبادرة‭ ‬التي‭ ‬أعلنتها‭ ‬المملكة‭ ‬العربية‭ ‬السعودية‭ ‬بشأن‭ ‬إدراج‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬مراحل‭ ‬التعليم‭ ‬العام‭ ‬اعتباراً‭ ‬من‭ ‬العام‭ ‬الدراسي‭ ‬2025‭ -‬2026‭ ‬توجه‭ ‬يحسب‭ ‬لها‭ ‬ويعكس‭ ‬إدراكاً‭ ‬بالضرورة‭ ‬التربوية‭ ‬والاستراتيجية‭.‬

ولا‭ ‬يمكن‭ ‬تجاهل‭ ‬الدور‭ ‬المحوري‭ ‬الذي‭ ‬تقوم‭ ‬به‭ ‬هيئة‭ ‬المعلومات‭ ‬والحكومة‭ ‬الإلكترونية،‭ ‬فهي‭ ‬لم‭ ‬تكتف‭ ‬بإطلاق‭ ‬السياسة‭ ‬الوطنية‭ ‬بل‭ ‬كانت‭ ‬سبّاقة‭ ‬في‭ ‬تبني‭ ‬الميثاق‭ ‬الاسترشادي‭ ‬لأخلاقيات‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬دول‭ ‬مجلس‭ ‬التعاون،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يعكس‭ ‬وعياً‭ ‬مبكراً‭ ‬بأن‭ ‬التقنية‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تُضبط‭ ‬بمعايير‭ ‬أخلاقية‭ ‬لا‭ ‬أن‭ ‬تترك‭ ‬مفتوحة‭ ‬على‭ ‬احتمالاتها‭. ‬هذه‭ ‬الثقة‭ ‬نابعة‭ ‬من‭ ‬سجل‭ ‬الهيئة‭ ‬المؤسسي‭ ‬ومن‭ ‬قدرتها‭ ‬على‭ ‬تحويل‭ ‬الرؤية‭ ‬إلى‭ ‬تدريب‭ ‬وتأهيل‭ ‬وتغيير‭ ‬حقيقي‭ ‬يبدأ‭ ‬بالعنصر‭ ‬البشري‭ ‬قبل‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬آخر‭.‬

اليوم‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬السؤال‭ ‬عن‭ ‬جاهزية‭ ‬المؤسسات‭ ‬لتبني‭ ‬التقنية،‭ ‬بل‭ ‬عن‭ ‬استعدادها‭ ‬لإعادة‭ ‬تشكيل‭ ‬ثقافتها‭ ‬حولها‭ ‬وعن‭ ‬مدى‭ ‬وعيها‭ ‬بأن‭ ‬الذكاء‭ ‬ليس‭ ‬بديلاً‭ ‬عن‭ ‬القيادة‭ ‬ولا‭ ‬عن‭ ‬القرار،‭ ‬وإنما‭ ‬ضوء‭ ‬يساعدنا‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬نرى‭ ‬أوضح‭ ‬لا‭ ‬أن‭ ‬يُملي‭ ‬علينا‭ ‬الطريق‭.‬

انطلق‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬من‭ ‬الإنسان،‭ ‬ويعمل‭ ‬بواسطته،‭ ‬ويعود‭ ‬أثره‭ ‬إليه،‭ ‬والمؤسسة‭ ‬التي‭ ‬تُدرك‭ ‬هذا‭ ‬الترتيب‭ ‬لن‭ ‬تخاف‭ ‬من‭ ‬الأداة‭ ‬ولن‭ ‬تُفرط‭ ‬في‭ ‬العقل‭.‬

 

مهتمة‭ ‬بالحوكمة‭ ‬وتطوير‭ ‬الأداء‭ ‬المؤسسي

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا