لقد تطرقنا في العديد من المرات إلى موضوع تنامي الدين العام العالمي ومخاطره على آفاق النمو الاقتصادي، لكن أهمية العودة إلى الحديث عن هذا الموضوع تكمن في مواصلة ارتفاع هذا الدين إلى مستويات غير مسبوقة وسط بيئة اقتصادية عالمية هشة يسودها حالة عدم اليقين.
وبحسب توقعات أحدث عدد من تقرير «الراصد المالي» يمكن أن يرتفع الدين العام العالمي إلى 100% من إجمالي الناتج المحلي العالمي مع نهاية العقد الجاري حال استمرار الاتجاهات الحالية. ويعكس تزايد نسبة الدين العام إلى إجمالي الناتج المحلي تجدد الضغوط الاقتصادية، فضلا عن عواقب الدعم المقدم من المالية العامة. ويثير هذا الاتجاه مخاوف جديدة بشأن استدامة المالية العامة على المدى الطويل، في الوقت الذي تواجه فيه الميزانية تحديات متزايدة في العديد من البلدان.
ويوضح التقرير أن مستويات الدين العام في حوالي ثلث البلدان، التي تشكل 80% من إجمالي الناتج المحلي العالمي، أكثر ارتفاعا مقارنة بما قبل جائحة كورونا وأسرع تزايدا. كذلك تفاقمت أعباء الدين العام حاليا في أكثر من ثلثي الاقتصادات البالغ عددها 175 اقتصادا التي يغطيها التقرير مقارنة بما قبل انتشار جائحة كوفيد-19 في عام 2020.
وتجاوز نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي العالمي حاجز 100% يُثير من دون شك مخاوف من تأثيرات سلبية على الاستقرار المالي والنمو الاقتصادي، وخصوصًا في الدول النامية والناشئة التي تواجه صعوبات متزايدة في تمويل عجز الموازنات وسداد التزاماتها. ويُتوقع أن تتفاقم هذه الأوضاع مع استمرار التوترات الجيوسياسية وتباطؤ التجارة العالمية. الدول العربية ليست استثناءً من هذه الديناميكية العالمية؛ فقد سجلت مستويات الدين العام في عدد من الدول العربية ارتفاعًا ملحوظًا خلال السنوات الأخيرة، مع استمرار الاعتماد على الاقتراض لتمويل العجوزات المتكررة في الميزانيات العامة. ووفقاً لبيانات صندوق النقد العربي لعام 2025 تجاوز متوسط نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي في الدول العربية 65%، فيما وصلت النسبة في بعض الدول، مثل لبنان والسودان ومصر، إلى مستويات حرجة تفوق 85%.
ويتنوع مصدر هذا التنامي في الدين العام بين ارتفاع الإنفاق الجاري، وتراجع الإيرادات الحكومية، وتنامي فاتورة الدعم الحكومي، إلى جانب ضعف النمو الاقتصادي في عدد من البلدان. كما أن ارتفاع كلفة التمويل الخارجي نتيجة رفع الفائدة عالمياً أضاف ضغوطًا كبيرة على موازنات الدول العربية، ولا سيما تلك التي تعاني من ضعف تصنيفها الائتماني. أحد أبرز التحديات المرتبطة بالدين العام هو مزاحمته للاستثمار في القطاعات الإنتاجية، حيث تذهب حصة كبيرة من الإنفاق الحكومي إلى خدمة الدين، ما يقلل من فرص الإنفاق على البنية التحتية والتعليم والصحة. كما أن ارتفاع الدين يُضعف من قدرة الحكومات على التصدي للصدمات الاقتصادية الطارئة ويزيد من تبعيتها للتمويل الخارجي. يرى الخبراء أن معالجة أزمة الدين العام تتطلب حزمة متكاملة من السياسات، تشمل ضبط الإنفاق من خلال مراجعة فعالة للدعم الحكومي وترشيد المصروفات الجارية، كذلك توسيع قاعدة الإيرادات عبر إصلاح الأنظمة الضريبية وتفعيل أدوات الجباية العادلة، وتحفيز النمو الاقتصادي بدعم القطاع الخاص، وتحسين بيئة الأعمال، وجذب الاستثمارات. إن تنامي الدين العام يشكل تهديداً مباشراً لاستدامة المالية العامة والنمو المستقبلي، ولا سيما في الدول ذات محدودية الموارد المالية والاقتصادية. وعلى الدول العربية، في ظل هذا الواقع، أن تتحرك بحذر وبجدية، وأن تتبنى إصلاحات جذرية لوقف نزيف المديونية، قبل أن تتحول الأزمة إلى قيد دائم على التنمية والازدهار.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك