تُعدّ الرمزية من أبرز سمات التعبير في فن القصة القصيرة جدا، حيث يُفرض على الكاتب بحكم طبيعة هذا الفن أن يقول الكثير بالقليل، أن يصنع من الإيجاز أداة للإيحاء، ومن التكثيف مدخلاً للتأمل.
وفي مجموعة «أصغر من رجل بعوضة» يتجلى هذا المنحى بوضوح، حيث تتحول «القصة القصيرة جداً» إلى مرآة لعوالم رمزية متشابكة، تحفّز القارئ على قراءة ما بين السطور، لا الاكتفاء بظاهر النص.
والكاتب حسن البطران في مجموعته «أصغر من رجل بعوضة» لا يلجأ إلى استخدام الرمز بوصفه زينة بلاغية، وإنما يوظفه كوسيلة فنية للتعبير عن القلق الوجودي، والسخرية المبطّنة، والمفارقة الساخرة، وتفكيك الواقع المأزوم.
فالنصوص في هذه المجموعة، تبنى على رمز مكثف، قد يكون شيئا ماديا بسيطا كـ«ثقب» في قميص، أو موقفا مركبا كـ«الطابور»، لكن هذا الرمز لا يبقى في معناه المباشر، بل يتجاوز إلى ما هو أعمق، إلى المجاز، إلى التأويل، إلى الأسئلة المفتوحة.
فعلى سبيل المثال في القصة الموسومة بـ«حكم»، تتحول أداة التنفيذ القضائي، أي الكرسي الكهربائي، إلى دلالة على فشل السلطة التي لا تملك حتى القدرة على تنفيذ أحكامها. وانقطاع الكهرباء ليس مجرد عرضا عابرا، بل يتجاوز دوره السردي ليصبح تعبيرا عن منظومة بأكملها تعاني من الشلل. وموت القاتل من الضحك لا يُفهم على مستواه الظاهري فقط، بل يتجاوزه إلى ذروة سخرية سوداء تُدين ذلك الواقع الذي لا يجيد حتى القتل بنظام.
وهذا التوظيف للرمز يستمر في القصة الموسومة بـ«موت مؤجل»، حيث لا يقول السارد إنه نجا من الموت، بل إن «عمره تأجل». فالفعل هنا يشتغل كرمز للقدر الغامض، للفاصل الغائم بين الحياة والموت، للسخرية التي تصاحب الهروب من النهاية. والضحك في القصة يحمل دلالة عميقة تكمن في أنه ليس فرحا بل مصالحة خادعة مع خوف دفين.
أما في القصة الموسومة بـ«ثقب»، فتتجلى قدرة الرمز على التكثيف الفلسفي. فعبارة «خلع قميصه فطار من ثقب فيه» تبدو للوهلة الأولى غير منطقية، لكنها تفتح أفقا واسعا للتأويل. فالثقب، الذي قد يفهم كعطب مادي بسيط، يتحول إلى رمز لهشاشة الكيان الإنساني، لنقطة انهيار محتملة فيما يبدو متماسكا. الإنسان يطير، يتلاشى، يفنى، لا بسبب مأساة ضخمة، بل بسبب تفصيل صغير، وتعتبر هذه رؤية وجودية شديدة الإيحاء.
ويستمر هذا المنحى الرمزي في قصة البطران الموسومة بـ«إحصاء»، حيث يُسأل الكمبيوتر العملاق عن عدد السكان، فيجيب بسؤال زمني «قبل أم بعد عشر دقائق؟» هنا يتعرى الواقع أمام التقنية، ويتحول الكمبيوتر إلى أداة للضبط والدقة، إلى شاهد على الفوضى. الزمن نفسه يتغير بوتيرة سريعة، إلى حد تصبح فيه الإحصاءات عاجزة عن مواكبة حجم الفقد. والرمز هنا مزدوج.. جهاز العقل والمنطق يصطدم بواقع غير عقلاني، يموت فيه الناس أسرع من إمكانية عدهم.
أما القصة الموسومة بـ«نكتة»، فهي من أكثر النصوص رمزية وشحنة وجدانية.
«يضحك الناس كل يوم، وحين يموت يبكونه كل يوم».. الضحك هنا يتحول إلى استنزاف، إلى أداء وظيفي يُطلب من شخصية تتهاوى داخليا. والرمزية هنا تحيل إلى مأساة الفنان أو المهرج، الذي يضحي بنفسه من أجل الآخرين، ثم يندم عليه بعد أن يُستهلك. هذه القصة تختزل معاناة الإنسان الذي يُطلب منه أن يكون واجهة للبهجة بينما ينهار داخليا.
وتبلغ الرمزية ذروتها في القصة الموسومة بـ«جثة»، حين تقف الجثة في الطابور ويصفق لها الواقفون. هذا المشهد مشهد كافكوي بامتياز، حيث الميت يشارك الأحياء، أو أن الأحياء صاروا كالأموات، والطابور يتحول من رمز للانتظار إلى رمز للانقياد الجمعي. التصفيق لا يُقرأ على أنه احتفاء، بل انقياد غير واع لحالة من الجمود أو الموت الرمزي. إنه مجتمع يحتفل بالموت، أو لا يفرق بين الميت والحي، في تجسيد مخيف لحالة من الضياع القيمي. إن ما يميز الرمزية في هذه المجموعة التي بين أيدينا هو قدرتها على أن تكون عميقة من دون أن تكون معقدة. الرمز لا يُغلق المعنى، بل يفتحه. لا يشرح، بل يُلمح. وهذه القدرة على التلميح، على تقديم المشهد من دون تفسير، تُفعّل دور القارئ بوصفه شريكا في إنتاج المعنى وبالتالي إنتاج نص جديد. فالرمز ليس كاملا بذاته، بل ينتظر أن يكمله المتلقي بخبرته وثقافته وفهمه الخاص ويملأ الفراغات التي تركها له حسن البطران.
كما أن الرمزية لدى كاتب مجموعة «أصغر من رجل بعوضة» ليست محايدة، بل تنحاز إلى قضايا إنسانية مثل العدالة، المصير، القمع، الهشاشة، العجز، الانقياد، العبث وغيرها. لكنها لا تفعل ذلك عن طريق الوعظ أو المباشرة، بل عن طريق صور مركبة ومكثفة، تحوّل التفصيل إلى علامة، والمشهد العابر إلى رؤية. وهذا ما يمنح المجموعة طاقة سردية كبيرة رغم قصر نصوصها.
في النهاية، يمكن القول بأن الرمزية في «أصغر من رجل بعوضة» لا تؤدي وظيفة جمالية فحسب، بل تؤسس لرؤية فكرية تزعزع الثابت وتعيد النظر في المسلمات. رمزية تصنع المفارقة، توقظ الذهن، وتترك أثرا طويلا في المتلقي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك