العدد : ١٧٢٩١ - السبت ٢٦ يوليو ٢٠٢٥ م، الموافق ٠١ صفر ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٢٩١ - السبت ٢٦ يوليو ٢٠٢٥ م، الموافق ٠١ صفر ١٤٤٧هـ

الثقافي

الرمزية في المجموعة القصصية «أصغر من رجل بعوضة»

قراءة الكاتبة - بديعة النعيمي.

السبت ٢٦ يوليو ٢٠٢٥ - 02:00

تُعدّ‭ ‬الرمزية‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬سمات‭ ‬التعبير‭ ‬في‭ ‬فن‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة‭ ‬جدا،‭ ‬حيث‭ ‬يُفرض‭ ‬على‭ ‬الكاتب‭ ‬بحكم‭ ‬طبيعة‭ ‬هذا‭ ‬الفن‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬الكثير‭ ‬بالقليل،‭ ‬أن‭ ‬يصنع‭ ‬من‭ ‬الإيجاز‭ ‬أداة‭ ‬للإيحاء،‭ ‬ومن‭ ‬التكثيف‭ ‬مدخلاً‭ ‬للتأمل‭.‬

وفي‭ ‬مجموعة‭ ‬‮«‬أصغر‭ ‬من‭ ‬رجل‭ ‬بعوضة‮»‬‭ ‬يتجلى‭ ‬هذا‭ ‬المنحى‭ ‬بوضوح،‭ ‬حيث‭ ‬تتحول‭ ‬‮«‬القصة‭ ‬القصيرة‭ ‬جداً‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬مرآة‭ ‬لعوالم‭ ‬رمزية‭ ‬متشابكة،‭ ‬تحفّز‭ ‬القارئ‭ ‬على‭ ‬قراءة‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬السطور،‭ ‬لا‭ ‬الاكتفاء‭ ‬بظاهر‭ ‬النص‭.‬

والكاتب‭ ‬حسن‭ ‬البطران‭ ‬في‭ ‬مجموعته‭ ‬‮«‬أصغر‭ ‬من‭ ‬رجل‭ ‬بعوضة‮»‬‭ ‬لا‭ ‬يلجأ‭ ‬إلى‭ ‬استخدام‭ ‬الرمز‭ ‬بوصفه‭ ‬زينة‭ ‬بلاغية،‭ ‬وإنما‭ ‬يوظفه‭ ‬كوسيلة‭ ‬فنية‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬القلق‭ ‬الوجودي،‭ ‬والسخرية‭ ‬المبطّنة،‭ ‬والمفارقة‭ ‬الساخرة،‭ ‬وتفكيك‭ ‬الواقع‭ ‬المأزوم‭.‬

فالنصوص‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المجموعة،‭ ‬تبنى‭ ‬على‭ ‬رمز‭ ‬مكثف،‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬شيئا‭ ‬ماديا‭ ‬بسيطا‭ ‬كـ«ثقب‮»‬‭ ‬في‭ ‬قميص،‭ ‬أو‭ ‬موقفا‭ ‬مركبا‭ ‬كـ«الطابور‮»‬،‭ ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬الرمز‭ ‬لا‭ ‬يبقى‭ ‬في‭ ‬معناه‭ ‬المباشر،‭ ‬بل‭ ‬يتجاوز‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬أعمق،‭ ‬إلى‭ ‬المجاز،‭ ‬إلى‭ ‬التأويل،‭ ‬إلى‭ ‬الأسئلة‭ ‬المفتوحة‭.‬

فعلى‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬في‭ ‬القصة‭ ‬الموسومة‭ ‬بـ«حكم‮»‬،‭ ‬تتحول‭ ‬أداة‭ ‬التنفيذ‭ ‬القضائي،‭ ‬أي‭ ‬الكرسي‭ ‬الكهربائي،‭ ‬إلى‭ ‬دلالة‭ ‬على‭ ‬فشل‭ ‬السلطة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تملك‭ ‬حتى‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬تنفيذ‭ ‬أحكامها‭. ‬وانقطاع‭ ‬الكهرباء‭ ‬ليس‭ ‬مجرد‭ ‬عرضا‭ ‬عابرا،‭ ‬بل‭ ‬يتجاوز‭ ‬دوره‭ ‬السردي‭ ‬ليصبح‭ ‬تعبيرا‭ ‬عن‭ ‬منظومة‭ ‬بأكملها‭ ‬تعاني‭ ‬من‭ ‬الشلل‭. ‬وموت‭ ‬القاتل‭ ‬من‭ ‬الضحك‭ ‬لا‭ ‬يُفهم‭ ‬على‭ ‬مستواه‭ ‬الظاهري‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬يتجاوزه‭ ‬إلى‭ ‬ذروة‭ ‬سخرية‭ ‬سوداء‭ ‬تُدين‭ ‬ذلك‭ ‬الواقع‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يجيد‭ ‬حتى‭ ‬القتل‭ ‬بنظام‭.‬

وهذا‭ ‬التوظيف‭ ‬للرمز‭ ‬يستمر‭ ‬في‭ ‬القصة‭ ‬الموسومة‭ ‬بـ«موت‭ ‬مؤجل‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬يقول‭ ‬السارد‭ ‬إنه‭ ‬نجا‭ ‬من‭ ‬الموت،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬‮«‬عمره‭ ‬تأجل‮»‬‭. ‬فالفعل‭ ‬هنا‭ ‬يشتغل‭ ‬كرمز‭ ‬للقدر‭ ‬الغامض،‭ ‬للفاصل‭ ‬الغائم‭ ‬بين‭ ‬الحياة‭ ‬والموت،‭ ‬للسخرية‭ ‬التي‭ ‬تصاحب‭ ‬الهروب‭ ‬من‭ ‬النهاية‭. ‬والضحك‭ ‬في‭ ‬القصة‭ ‬يحمل‭ ‬دلالة‭ ‬عميقة‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬أنه‭ ‬ليس‭ ‬فرحا‭ ‬بل‭ ‬مصالحة‭ ‬خادعة‭ ‬مع‭ ‬خوف‭ ‬دفين‭.‬

أما‭ ‬في‭ ‬القصة‭ ‬الموسومة‭ ‬بـ«ثقب‮»‬،‭ ‬فتتجلى‭ ‬قدرة‭ ‬الرمز‭ ‬على‭ ‬التكثيف‭ ‬الفلسفي‭. ‬فعبارة‭ ‬‮«‬خلع‭ ‬قميصه‭ ‬فطار‭ ‬من‭ ‬ثقب‭ ‬فيه‮»‬‭ ‬تبدو‭ ‬للوهلة‭ ‬الأولى‭ ‬غير‭ ‬منطقية،‭ ‬لكنها‭ ‬تفتح‭ ‬أفقا‭ ‬واسعا‭ ‬للتأويل‭. ‬فالثقب،‭ ‬الذي‭ ‬قد‭ ‬يفهم‭ ‬كعطب‭ ‬مادي‭ ‬بسيط،‭ ‬يتحول‭ ‬إلى‭ ‬رمز‭ ‬لهشاشة‭ ‬الكيان‭ ‬الإنساني،‭ ‬لنقطة‭ ‬انهيار‭ ‬محتملة‭ ‬فيما‭ ‬يبدو‭ ‬متماسكا‭. ‬الإنسان‭ ‬يطير،‭ ‬يتلاشى،‭ ‬يفنى،‭ ‬لا‭ ‬بسبب‭ ‬مأساة‭ ‬ضخمة،‭ ‬بل‭ ‬بسبب‭ ‬تفصيل‭ ‬صغير،‭ ‬وتعتبر‭ ‬هذه‭ ‬رؤية‭ ‬وجودية‭ ‬شديدة‭ ‬الإيحاء‭.‬

ويستمر‭ ‬هذا‭ ‬المنحى‭ ‬الرمزي‭ ‬في‭ ‬قصة‭ ‬البطران‭ ‬الموسومة‭ ‬بـ«إحصاء‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬يُسأل‭ ‬الكمبيوتر‭ ‬العملاق‭ ‬عن‭ ‬عدد‭ ‬السكان،‭ ‬فيجيب‭ ‬بسؤال‭ ‬زمني‭ ‬‮«‬قبل‭ ‬أم‭ ‬بعد‭ ‬عشر‭ ‬دقائق؟‮»‬‭ ‬هنا‭ ‬يتعرى‭ ‬الواقع‭ ‬أمام‭ ‬التقنية،‭ ‬ويتحول‭ ‬الكمبيوتر‭ ‬إلى‭ ‬أداة‭ ‬للضبط‭ ‬والدقة،‭ ‬إلى‭ ‬شاهد‭ ‬على‭ ‬الفوضى‭. ‬الزمن‭ ‬نفسه‭ ‬يتغير‭ ‬بوتيرة‭ ‬سريعة،‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬تصبح‭ ‬فيه‭ ‬الإحصاءات‭ ‬عاجزة‭ ‬عن‭ ‬مواكبة‭ ‬حجم‭ ‬الفقد‭. ‬والرمز‭ ‬هنا‭ ‬مزدوج‭.. ‬جهاز‭ ‬العقل‭ ‬والمنطق‭ ‬يصطدم‭ ‬بواقع‭ ‬غير‭ ‬عقلاني،‭ ‬يموت‭ ‬فيه‭ ‬الناس‭ ‬أسرع‭ ‬من‭ ‬إمكانية‭ ‬عدهم‭.‬

أما‭ ‬القصة‭ ‬الموسومة‭ ‬بـ«نكتة‮»‬،‭ ‬فهي‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬النصوص‭ ‬رمزية‭ ‬وشحنة‭ ‬وجدانية‭.‬

‮«‬يضحك‭ ‬الناس‭ ‬كل‭ ‬يوم،‭ ‬وحين‭ ‬يموت‭ ‬يبكونه‭ ‬كل‭ ‬يوم‮»‬‭.. ‬الضحك‭ ‬هنا‭ ‬يتحول‭ ‬إلى‭ ‬استنزاف،‭ ‬إلى‭ ‬أداء‭ ‬وظيفي‭ ‬يُطلب‭ ‬من‭ ‬شخصية‭ ‬تتهاوى‭ ‬داخليا‭. ‬والرمزية‭ ‬هنا‭ ‬تحيل‭ ‬إلى‭ ‬مأساة‭ ‬الفنان‭ ‬أو‭ ‬المهرج،‭ ‬الذي‭ ‬يضحي‭ ‬بنفسه‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الآخرين،‭ ‬ثم‭ ‬يندم‭ ‬عليه‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬يُستهلك‭. ‬هذه‭ ‬القصة‭ ‬تختزل‭ ‬معاناة‭ ‬الإنسان‭ ‬الذي‭ ‬يُطلب‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬واجهة‭ ‬للبهجة‭ ‬بينما‭ ‬ينهار‭ ‬داخليا‭.‬

وتبلغ‭ ‬الرمزية‭ ‬ذروتها‭ ‬في‭ ‬القصة‭ ‬الموسومة‭ ‬بـ«جثة‮»‬،‭ ‬حين‭ ‬تقف‭ ‬الجثة‭ ‬في‭ ‬الطابور‭ ‬ويصفق‭ ‬لها‭ ‬الواقفون‭. ‬هذا‭ ‬المشهد‭ ‬مشهد‭ ‬كافكوي‭ ‬بامتياز،‭ ‬حيث‭ ‬الميت‭ ‬يشارك‭ ‬الأحياء،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬الأحياء‭ ‬صاروا‭ ‬كالأموات،‭ ‬والطابور‭ ‬يتحول‭ ‬من‭ ‬رمز‭ ‬للانتظار‭ ‬إلى‭ ‬رمز‭ ‬للانقياد‭ ‬الجمعي‭. ‬التصفيق‭ ‬لا‭ ‬يُقرأ‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬احتفاء،‭ ‬بل‭ ‬انقياد‭ ‬غير‭ ‬واع‭ ‬لحالة‭ ‬من‭ ‬الجمود‭ ‬أو‭ ‬الموت‭ ‬الرمزي‭. ‬إنه‭ ‬مجتمع‭ ‬يحتفل‭ ‬بالموت،‭ ‬أو‭ ‬لا‭ ‬يفرق‭ ‬بين‭ ‬الميت‭ ‬والحي،‭ ‬في‭ ‬تجسيد‭ ‬مخيف‭ ‬لحالة‭ ‬من‭ ‬الضياع‭ ‬القيمي‭. ‬إن‭ ‬ما‭ ‬يميز‭ ‬الرمزية‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المجموعة‭ ‬التي‭ ‬بين‭ ‬أيدينا‭ ‬هو‭ ‬قدرتها‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬عميقة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬معقدة‭. ‬الرمز‭ ‬لا‭ ‬يُغلق‭ ‬المعنى،‭ ‬بل‭ ‬يفتحه‭. ‬لا‭ ‬يشرح،‭ ‬بل‭ ‬يُلمح‭. ‬وهذه‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬التلميح،‭ ‬على‭ ‬تقديم‭ ‬المشهد‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬تفسير،‭ ‬تُفعّل‭ ‬دور‭ ‬القارئ‭ ‬بوصفه‭ ‬شريكا‭ ‬في‭ ‬إنتاج‭ ‬المعنى‭ ‬وبالتالي‭ ‬إنتاج‭ ‬نص‭ ‬جديد‭. ‬فالرمز‭ ‬ليس‭ ‬كاملا‭ ‬بذاته،‭ ‬بل‭ ‬ينتظر‭ ‬أن‭ ‬يكمله‭ ‬المتلقي‭ ‬بخبرته‭ ‬وثقافته‭ ‬وفهمه‭ ‬الخاص‭ ‬ويملأ‭ ‬الفراغات‭ ‬التي‭ ‬تركها‭ ‬له‭ ‬حسن‭ ‬البطران‭.‬

كما‭ ‬أن‭ ‬الرمزية‭ ‬لدى‭ ‬كاتب‭ ‬مجموعة‭ ‬‮«‬أصغر‭ ‬من‭ ‬رجل‭ ‬بعوضة‮»‬‭ ‬ليست‭ ‬محايدة،‭ ‬بل‭ ‬تنحاز‭ ‬إلى‭ ‬قضايا‭ ‬إنسانية‭ ‬مثل‭ ‬العدالة،‭ ‬المصير،‭ ‬القمع،‭ ‬الهشاشة،‭ ‬العجز،‭ ‬الانقياد،‭ ‬العبث‭ ‬وغيرها‭. ‬لكنها‭ ‬لا‭ ‬تفعل‭ ‬ذلك‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الوعظ‭ ‬أو‭ ‬المباشرة،‭ ‬بل‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬صور‭ ‬مركبة‭ ‬ومكثفة،‭ ‬تحوّل‭ ‬التفصيل‭ ‬إلى‭ ‬علامة،‭ ‬والمشهد‭ ‬العابر‭ ‬إلى‭ ‬رؤية‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يمنح‭ ‬المجموعة‭ ‬طاقة‭ ‬سردية‭ ‬كبيرة‭ ‬رغم‭ ‬قصر‭ ‬نصوصها‭.‬

في‭ ‬النهاية،‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬الرمزية‭ ‬في‭ ‬‮«‬أصغر‭ ‬من‭ ‬رجل‭ ‬بعوضة‮»‬‭ ‬لا‭ ‬تؤدي‭ ‬وظيفة‭ ‬جمالية‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬تؤسس‭ ‬لرؤية‭ ‬فكرية‭ ‬تزعزع‭ ‬الثابت‭ ‬وتعيد‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬المسلمات‭. ‬رمزية‭ ‬تصنع‭ ‬المفارقة،‭ ‬توقظ‭ ‬الذهن،‭ ‬وتترك‭ ‬أثرا‭ ‬طويلا‭ ‬في‭ ‬المتلقي‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا