في أول يوم تدريب له في إحدى شركات القطاع الخاص، قال طالب جامعي لوالدته وهو يصف تجربته: يمه أول يوم تدريب عدى بسرعة غريبة، كأن الكمبيوتر يشتغل بدالي. سألته: شلون يعني؟ رد: الذكاء الاصطناعي.
هذا الموقف لم يكن مجرد انطباع طالب متدرب، بل انعكاس لبيئة عمل تغيرت فيها المعايير.. بيئة لا تُقاس فيها الإنتاجية بكثرة الخطوات ولا بحجم الجهد بل بسلامة القرار وسرعة الإنجاز وجودة النتائج.
في هذا السياق، تتجلى الحاجة إلى إطار ينظم العلاقة بين الإنسان والأداة.. علاقة لا تجعل الأداة بديلاً عن التفكير، ولا تجعل الإنسان تابعاً للتقنية.. العلاقة تحتاج إلى حوكمة متوازنة تحمي القرار من الإفراط أو التفويض الكامل وتبقي السيطرة في يد من يفهم الغاية ويُحسن التقدير.
وقد تجسد هذا التوجه في مبادرات تأهيلية هدفت إلى تطوير الكفاءات الوطنية في مجالات الذكاء الاصطناعي من خلال برامج تخصصية تركز على الاستخدام المسؤول للتقنيات الحديثة، هذه الجهود تنطلق من الإيمان بدور الإنسان في توجيه الأداة نحو تحقيق الأثر لا من الانبهار بها.
وفي هذا الإطار، شملت هذه الجهود أيضاً المؤسسات التشريعية، حيث أطلق مجلس الشورى بالتعاون مع مؤسسات تعليمية مبادرة الابتكار الرقمي في العمل البرلماني، في خطوة تعكس أن الذكاء لا يختصر على الجانب التنفيذي بل يجب أن يزرع في عقل المؤسسة من الداخل.
ورغم هذا الحراك، لا تزال هناك فجوات تنظيمية وتشريعية. أبرزها الحاجة إلى إطار قانوني مرن يواكب تسارع التقنية ويمكّن الجهات من اعتمادها بثقة من دون تعارض مع الضوابط المؤسسية. كما أن التعليم لم يلتحق بعد بمسار التحول إذ لا يزال الذكاء الاصطناعي يُدرس كمجال تقني ضيق بينما الحاجة ملحة الى توظيفه كأداة تفكير وتحليل في مختلف التخصصات، لسد الفجوة بين مخرجات التعليم وواقع العمل.
تُضاف إلى ذلك تحديات ثقافية لا تقل أثراً، أهمها النظرة السلبية تجاه الموظف الذي يُحسن استخدام أدوات الذكاء. حيث يساء أحياناً فهم هذا الاستخدام وكأنه تقصير أو تهرب من الجهد ما يدفع البعض إلى استخدامها بتحفظ خشية الاتهام أو التشكيك. وقد أشار تقرير «حوكمة الذكاء الاصطناعي من أجل الإنسانية» إلى هذه الظاهرة بوصفها إحدى نتائج ثقافة تنظيمية تقيم الأداء بالشكل لا بالأثر.
وأتفق مع موقف الحكومة في تحفظها على مشروع قانون تنظيم استخدام الذكاء الاصطناعي، الذي رفض بعد تقييم موضوعي لمضمونه. فقد أشارت إلى أن المجال لا يزال في تطور متسارع، وأن التشريع المبكر قد يؤدي إلى تداخلات تنظيمية أو قيود غير محسوبة.. كما أكدت أن الأطر القانونية الحالية مثل قوانين حماية البيانات والمعاملات الإلكترونية توفر أساساً ملائماً في هذه المرحلة مع ضرورة بناء قانون مرن قائم على التجربة والمعرفة التخصصية وهو توجه أراه واقعياً خاصة في ظل الحاجة الى تشريعات تواكب التغير من دون أن تقيده أو تربك المسار المؤسسي.
في ظل هذا التحول المتسارع، تبرز أهمية تبني موقف إداري واقعي ومتزن لا يبالغ في الانبهار ولا يتوجس من التغيير.. موقف يعيد تعريف العلاقة بين الموظف والأداة بما يحقق الاستخدام الأمثل من دون أن تفقد المؤسسة بوصلتها في خضم الانبهار بالتقنيات.
وتتجسد فكرة التوازن في استعارة دقيقة لطالما عُرفت في الفكر العربي بـ«شعرة معاوية» بين القرار والمخرجات، بوصفها توصيفاً بالغ الدقة للتوازن المطلوب، خيط رفيع لا يُرى، لكنه يُحس في كل لحظة يُمارس فيها القرار بوعي؛ فإن ارتخى ضاع الانضباط، وإن شُد بجهل انقطع وبه تبقى المؤسسة مرنة من دون تفريط، منضبطة من دون تزمّت لا تتوه في زخم التحول.
فمستقبل الأداء المؤسسي لا يتحدد بما نملكه من أدوات، بل بكيفية استخدامنا لها ومتى ولماذا. فالذكاء يجب أن يكون في خدمة القرار البشري.. لا العكس.. والحوكمة هي ما تضمن بقاء زمام المبادرة بيد الإنسان الذي يدرك أن بين العقل والأداة شعرة معاوية لا تحتمل الإفلات.
مهتمة بالحوكمة وتطوير الأداء المؤسسي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك