العدد : ١٧٢٨٧ - الثلاثاء ٢٢ يوليو ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٧ محرّم ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٢٨٧ - الثلاثاء ٢٢ يوليو ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٧ محرّم ١٤٤٧هـ

مقالات

بين العقل والأداة.. شعرة معاوية

بقلم: عبير محمد دهام

الثلاثاء ٢٢ يوليو ٢٠٢٥ - 02:00

في‭ ‬أول‭ ‬يوم‭ ‬تدريب‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬شركات‭ ‬القطاع‭ ‬الخاص،‭ ‬قال‭ ‬طالب‭ ‬جامعي‭ ‬لوالدته‭ ‬وهو‭ ‬يصف‭ ‬تجربته‭: ‬يمه‭ ‬أول‭ ‬يوم‭ ‬تدريب‭ ‬عدى‭ ‬بسرعة‭ ‬غريبة،‭ ‬كأن‭ ‬الكمبيوتر‭ ‬يشتغل‭ ‬بدالي‭. ‬سألته‭: ‬شلون‭ ‬يعني؟‭ ‬رد‭: ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭.‬

هذا‭ ‬الموقف‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مجرد‭ ‬انطباع‭ ‬طالب‭ ‬متدرب،‭ ‬بل‭ ‬انعكاس‭ ‬لبيئة‭ ‬عمل‭ ‬تغيرت‭ ‬فيها‭ ‬المعايير‭.. ‬بيئة‭ ‬لا‭ ‬تُقاس‭ ‬فيها‭ ‬الإنتاجية‭ ‬بكثرة‭ ‬الخطوات‭ ‬ولا‭ ‬بحجم‭ ‬الجهد‭ ‬بل‭ ‬بسلامة‭ ‬القرار‭ ‬وسرعة‭ ‬الإنجاز‭ ‬وجودة‭ ‬النتائج‭.‬

في‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬تتجلى‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬إطار‭ ‬ينظم‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الإنسان‭ ‬والأداة‭.. ‬علاقة‭ ‬لا‭ ‬تجعل‭ ‬الأداة‭ ‬بديلاً‭ ‬عن‭ ‬التفكير،‭ ‬ولا‭ ‬تجعل‭ ‬الإنسان‭ ‬تابعاً‭ ‬للتقنية‭.. ‬العلاقة‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬حوكمة‭ ‬متوازنة‭ ‬تحمي‭ ‬القرار‭ ‬من‭ ‬الإفراط‭ ‬أو‭ ‬التفويض‭ ‬الكامل‭ ‬وتبقي‭ ‬السيطرة‭ ‬في‭ ‬يد‭ ‬من‭ ‬يفهم‭ ‬الغاية‭ ‬ويُحسن‭ ‬التقدير‭.‬

وقد‭ ‬تجسد‭ ‬هذا‭ ‬التوجه‭ ‬في‭ ‬مبادرات‭ ‬تأهيلية‭ ‬هدفت‭ ‬إلى‭ ‬تطوير‭ ‬الكفاءات‭ ‬الوطنية‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬برامج‭ ‬تخصصية‭ ‬تركز‭ ‬على‭ ‬الاستخدام‭ ‬المسؤول‭ ‬للتقنيات‭ ‬الحديثة،‭ ‬هذه‭ ‬الجهود‭ ‬تنطلق‭ ‬من‭ ‬الإيمان‭ ‬بدور‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬توجيه‭ ‬الأداة‭ ‬نحو‭ ‬تحقيق‭ ‬الأثر‭ ‬لا‭ ‬من‭ ‬الانبهار‭ ‬بها‭.‬

وفي‭ ‬هذا‭ ‬الإطار،‭ ‬شملت‭ ‬هذه‭ ‬الجهود‭ ‬أيضاً‭ ‬المؤسسات‭ ‬التشريعية،‭ ‬حيث‭ ‬أطلق‭ ‬مجلس‭ ‬الشورى‭ ‬بالتعاون‭ ‬مع‭ ‬مؤسسات‭ ‬تعليمية‭ ‬مبادرة‭ ‬الابتكار‭ ‬الرقمي‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬البرلماني،‭ ‬في‭ ‬خطوة‭ ‬تعكس‭ ‬أن‭ ‬الذكاء‭ ‬لا‭ ‬يختصر‭ ‬على‭ ‬الجانب‭ ‬التنفيذي‭ ‬بل‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يزرع‭ ‬في‭ ‬عقل‭ ‬المؤسسة‭ ‬من‭ ‬الداخل‭.‬

ورغم‭ ‬هذا‭ ‬الحراك،‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬هناك‭ ‬فجوات‭ ‬تنظيمية‭ ‬وتشريعية‭. ‬أبرزها‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬إطار‭ ‬قانوني‭ ‬مرن‭ ‬يواكب‭ ‬تسارع‭ ‬التقنية‭ ‬ويمكّن‭ ‬الجهات‭ ‬من‭ ‬اعتمادها‭ ‬بثقة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬تعارض‭ ‬مع‭ ‬الضوابط‭ ‬المؤسسية‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬التعليم‭ ‬لم‭ ‬يلتحق‭ ‬بعد‭ ‬بمسار‭ ‬التحول‭ ‬إذ‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬يُدرس‭ ‬كمجال‭ ‬تقني‭ ‬ضيق‭ ‬بينما‭ ‬الحاجة‭ ‬ملحة‭ ‬الى‭ ‬توظيفه‭ ‬كأداة‭ ‬تفكير‭ ‬وتحليل‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬التخصصات،‭ ‬لسد‭ ‬الفجوة‭ ‬بين‭ ‬مخرجات‭ ‬التعليم‭ ‬وواقع‭ ‬العمل‭.‬

تُضاف‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬تحديات‭ ‬ثقافية‭ ‬لا‭ ‬تقل‭ ‬أثراً،‭ ‬أهمها‭ ‬النظرة‭ ‬السلبية‭ ‬تجاه‭ ‬الموظف‭ ‬الذي‭ ‬يُحسن‭ ‬استخدام‭ ‬أدوات‭ ‬الذكاء‭. ‬حيث‭ ‬يساء‭ ‬أحياناً‭ ‬فهم‭ ‬هذا‭ ‬الاستخدام‭ ‬وكأنه‭ ‬تقصير‭ ‬أو‭ ‬تهرب‭ ‬من‭ ‬الجهد‭ ‬ما‭ ‬يدفع‭ ‬البعض‭ ‬إلى‭ ‬استخدامها‭ ‬بتحفظ‭ ‬خشية‭ ‬الاتهام‭ ‬أو‭ ‬التشكيك‭. ‬وقد‭ ‬أشار‭ ‬تقرير‭ ‬‮«‬حوكمة‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الإنسانية‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬بوصفها‭ ‬إحدى‭ ‬نتائج‭ ‬ثقافة‭ ‬تنظيمية‭ ‬تقيم‭ ‬الأداء‭ ‬بالشكل‭ ‬لا‭ ‬بالأثر‭.‬

وأتفق‭ ‬مع‭ ‬موقف‭ ‬الحكومة‭ ‬في‭ ‬تحفظها‭ ‬على‭ ‬مشروع‭ ‬قانون‭ ‬تنظيم‭ ‬استخدام‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي،‭ ‬الذي‭ ‬رفض‭ ‬بعد‭ ‬تقييم‭ ‬موضوعي‭ ‬لمضمونه‭. ‬فقد‭ ‬أشارت‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬المجال‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬في‭ ‬تطور‭ ‬متسارع،‭ ‬وأن‭ ‬التشريع‭ ‬المبكر‭ ‬قد‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬تداخلات‭ ‬تنظيمية‭ ‬أو‭ ‬قيود‭ ‬غير‭ ‬محسوبة‭.. ‬كما‭ ‬أكدت‭ ‬أن‭ ‬الأطر‭ ‬القانونية‭ ‬الحالية‭ ‬مثل‭ ‬قوانين‭ ‬حماية‭ ‬البيانات‭ ‬والمعاملات‭ ‬الإلكترونية‭ ‬توفر‭ ‬أساساً‭ ‬ملائماً‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬مع‭ ‬ضرورة‭ ‬بناء‭ ‬قانون‭ ‬مرن‭ ‬قائم‭ ‬على‭ ‬التجربة‭ ‬والمعرفة‭ ‬التخصصية‭ ‬وهو‭ ‬توجه‭ ‬أراه‭ ‬واقعياً‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الحاجة‭ ‬الى‭ ‬تشريعات‭ ‬تواكب‭ ‬التغير‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تقيده‭ ‬أو‭ ‬تربك‭ ‬المسار‭ ‬المؤسسي‭.‬

في‭ ‬ظل‭ ‬هذا‭ ‬التحول‭ ‬المتسارع،‭ ‬تبرز‭ ‬أهمية‭ ‬تبني‭ ‬موقف‭ ‬إداري‭ ‬واقعي‭ ‬ومتزن‭ ‬لا‭ ‬يبالغ‭ ‬في‭ ‬الانبهار‭ ‬ولا‭ ‬يتوجس‭ ‬من‭ ‬التغيير‭.. ‬موقف‭ ‬يعيد‭ ‬تعريف‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الموظف‭ ‬والأداة‭ ‬بما‭ ‬يحقق‭ ‬الاستخدام‭ ‬الأمثل‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تفقد‭ ‬المؤسسة‭ ‬بوصلتها‭ ‬في‭ ‬خضم‭ ‬الانبهار‭ ‬بالتقنيات‭.‬

وتتجسد‭ ‬فكرة‭ ‬التوازن‭ ‬في‭ ‬استعارة‭ ‬دقيقة‭ ‬لطالما‭ ‬عُرفت‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬العربي‭ ‬بـ«شعرة‭ ‬معاوية‮»‬‭ ‬بين‭ ‬القرار‭ ‬والمخرجات،‭ ‬بوصفها‭ ‬توصيفاً‭ ‬بالغ‭ ‬الدقة‭ ‬للتوازن‭ ‬المطلوب،‭ ‬خيط‭ ‬رفيع‭ ‬لا‭ ‬يُرى،‭ ‬لكنه‭ ‬يُحس‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬لحظة‭ ‬يُمارس‭ ‬فيها‭ ‬القرار‭ ‬بوعي؛‭ ‬فإن‭ ‬ارتخى‭ ‬ضاع‭ ‬الانضباط،‭ ‬وإن‭ ‬شُد‭ ‬بجهل‭ ‬انقطع‭ ‬وبه‭ ‬تبقى‭ ‬المؤسسة‭ ‬مرنة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬تفريط،‭ ‬منضبطة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬تزمّت‭ ‬لا‭ ‬تتوه‭ ‬في‭ ‬زخم‭ ‬التحول‭.‬

فمستقبل‭ ‬الأداء‭ ‬المؤسسي‭ ‬لا‭ ‬يتحدد‭ ‬بما‭ ‬نملكه‭ ‬من‭ ‬أدوات،‭ ‬بل‭ ‬بكيفية‭ ‬استخدامنا‭ ‬لها‭ ‬ومتى‭ ‬ولماذا‭. ‬فالذكاء‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬القرار‭ ‬البشري‭.. ‬لا‭ ‬العكس‭.. ‬والحوكمة‭ ‬هي‭ ‬ما‭ ‬تضمن‭ ‬بقاء‭ ‬زمام‭ ‬المبادرة‭ ‬بيد‭ ‬الإنسان‭ ‬الذي‭ ‬يدرك‭ ‬أن‭ ‬بين‭ ‬العقل‭ ‬والأداة‭ ‬شعرة‭ ‬معاوية‭ ‬لا‭ ‬تحتمل‭ ‬الإفلات‭.‬

 

مهتمة‭ ‬بالحوكمة‭ ‬وتطوير‭ ‬الأداء‭ ‬المؤسسي

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا