منذ بداية العصر الحديث وبالتحديد منذ مطلع الألفية الثالثة، ووفق ستيفن ديلر (الباحث في جامعة ويسكونسن ماديسون)، فإن العالم مر بموجات ثلاث في التنمية، وإننا على مشارف الموجة الرابعة. تمثلت الموجة الأولى في تسابق الدول في جذب أكبر عدد من الشركات الكبرى، وخصوصا الصناعية من خلال تقديم حوافز ضريبية وتوفير بيئة أعمال وبنى تحتية مناسبة. الموجة الثانية اختصت بريادة الأعمال ودعم الشركات الصغيرة والمتوسطة مدفوعة بنتائج أبحاث أظهرت هذه الشركات مساهمة في خلق فرص عمل وقدرة على الابتكار وتوليد شركات كبرى. استخدمت هذه الموجهة أدوات مالية منها رأس المال المخاطر، والاستثمار الملائكي، وبرامج مساعدات فنية تدعم توسعة الأعمال وتضمن استمرارها وبقاءها في الدولة. الموجة الثالثة اعتمدت الشراكة بين القطاع الخاص والعام وشبكات التواصل العام. هذه الموجة اهتمت برأس المال الاجتماعي والتعاون بين الحكومات المحلية والأعمال والمؤسسات المختلفة بما فيها الاهلية. كما اهتمت بالتركيز على التعاون الاقليمي وتخصيص الموارد استراتيجيا.
أما الموجة الرابعة (الحالية)، فإنها تختص بجعل المجتمع أكثر جاذبية واحتضانا للفرد والأسرة. التركيز في هذه المرحلة على حيوية المجتمع التي أصبحت المحك، وهي القوة الناعمة الجاذبة للأعمال والشركات وحتى التأثير في السياسات الداعمة للبيئة الصالحة والمناسبة للحياة الكريمة. تتحقق حلقات هذه المرحلة من خلال الاستثمار في توفير الإمكانات والخدمات، الاهتمام بجودة الحياة والتعليم والمناطق الترفيهية والمناطق السكنية المريحة والمناسبة، وبناء مجتمع جاذب لرواد الأعمال والسكان وليس فقط للسياح والعمالة المهاجرة، واحتضان مفهوم الطبقة المبدعة والخلاقة وهي الطبقة الوسطى والمتعلمة والرائدة والناقدة.
استندت هذه المرحلة على قناعة بأن الأهم هو التركيز على الجانب الإنساني في المجتمع أكثر من جانب الأعمال، أي أن الأعمال لخدمة الإنسان وليس الإنسان أداة في يد رأس المال. هذا التفكير والتوجه يجعل النشاط الاقتصادي في خدمة الإنسان، ويحرص على إعادة توزيع مردود النشاط الاقتصادي على المجتمع لزيادة مستوى العدالة الاجتماعية والثقة في المجتمع، وتقليل التفاوت الكبير في الدخل والثروة التي تحدث في غياب مثل هذه السياسات في إعادة التوزيع. وفق الموجة الرابعة، لا يمكن صناعة مكان جذاب من دون رأس مال اجتماعي قوي يدعم الهوية الثقافية المحلية ويعزز من الانتماء والمشاركة من خلال توفير منصات حوارية مجتمعية تتيح التعبير عن الرؤى والابتكارات وتشجع الريادة الاجتماعية والمبادرات ذات الأثر المجتمعي الايجابي. إن دمج المجتمع المدني في العملية التنموية ليس خيارًا سياسيًا فحسب، بل هو ضرورة معرفية واقتصادية ضمن السياق العالمي الجديد. كما أن اللحاق بركب الثورة العلمية لا يتم عبر الاستيراد، بل عبر بناء منظومات محلية قادرة على الإنتاج المعرفي، واستيعاب التنوع المجتمعي، وتحويل المكان إلى مصدر للطاقة الخلاقة.
منذ الحرب الأخيرة على غزة وما نتج عنها من إبادة جماعية لسكان غزة وصدام إيراني صهيوني شهدت المنطقة العربية تحديات كبرى أبرزت نقاط ضعف شديدة في البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وتراجع علمي ومعرفي. وإذا أدركنا أن العالم يتغير من حولنا ويتطور بسرعة نعرف مدى الحاجة العربية إلى التغيير في تنظيم المجتمع وفي صياغة مشروع عربي نهضوي يأخذ من العلم والمعرفة أداة للتنمية الهادفة إلى بناء قدرات وإمكانات تجعل من الأمة قوة إقليمية. في غياب هذه التوجهات وفي ظل هذه الظروف يتساءل المواطن العربي أين نحن العرب من هذه الموجات التنموية؟ وهل سنكون ضمن قافلة الموجة التنموية الرابعة؟ وأين نحن من الثورات التي سبقتها مثل الثورة المعرفية والثورة العلمية والثورة الصناعية. وماذا عن مصير «العقلانية الإسلامية» التي سادت في وقت ما، وفق محمد عبده والأفغاني والطهطاوي، مقارنة بالعقلانية الغربية. حرب الإبادة الظالمة على غزة أبرزت مدى تخلف الأمة عن الركب العالمي في مجالات اكتساب القوة الرادعة والمحافظة على العزة والمنعة.
كذلك أبرزت الحرب مدى الضعف العربي وعدم التأثير في السياسات العالمية، على الرغم من امتلاك موارد حيوية وثروات مالية ضخمة. لم يتمكن (حتى الآن) من توظيف قدراته وموارده في رفع شأن الإنسان المواطن وفي تقدم المجتمع وتحرير العقل لكي يبدع وينتج. لم تُستخدم هذه الموارد بما يكفي في دعم مقومات العلم والمعرفة والتقنيات الحديثة التي برهنت على أنها جوهر وأسباب القوة. فالموجة الرابعة لا تكتمل من دون استيعاب التحولات العميقة على مستوى التكنولوجيا واقتصاد المعرفة. تحتاج الأمة إلى إعادة توجيه التعليم والبحث العلمي نحو احتياجات الإنسان وتمكين المجتمع المدني ليشارك بفاعلية؛ ونحو كل ما يرفع من قدرتها الإنتاجية المادية والمعرفية وتوطين التكنولوجيا، ليكون مدخلًا حقيقيًا نحو تنمية مستدامة وإنسانية وتحقيق الاستقلال الاقتصادي والسياسي والفكري.
على الرغم من مئات الأطروحات التي كتبت في هذا المجال منذ نهاية القرن التاسع عشر فإنه مازالت الأمة لم تصل إلى صيغة منتجة تتفق عليها لإخراج العقل العربي من سباته وهيمنة التفكير التقليدي على إنتاجه الفكري، ومازالت تجتر الماضي وترفض التفكير والبحث في اسباب التخلف الذي أوصلها إلى هذه الحالة غير المرضية والمهينة لأمة إسلامية عربية حكمت العالم في فترة عزتها وتكريمها للعقل والإنتاج الفكري واحتضان التنوع والاختلاف واعتباره قوة.
في هذا السياق، تواجه الأمة تحديات وفرصا في آن واحد: كيف يمكن إعادة صياغة استراتيجياتها التنموية بما يتلاءم مع متطلبات بناء القوة العربية الاسلامية بروح هذه الموجة الرابعة الجديدة التي تؤمن بالإنسان ومساهمة المجتمع المدني الفاعلة والفكر الحر المستنير؟ وكيف يمكنها أن تجعل من الإنسان وحقوقه مركزا للتنمية ومن المجتمع المدني ومنظماته أداة دافعة ومحفزة وحاكمة على نتائج التنمية، أي كيف يكون الانسان والمجتمع، إلى جانب الثورة التكنولوجية والمعلوماتية، عوامل حاسمة في هذا التحول؟ وكيف يمكن للأمة أن تبرز كقوة إقليمية علمية تأخذ مكانها في الشرق الأوسط كند للقوى الحالية التي تهيمن على المنطقة؟ هذه ليست أسئلة جديدة لكنها تحتاج إلى إعادة تمركزها في الوعي العربي الإسلامي؟ اسئلة بحاجة إلى تبنيها مجتمعيا ورسميا، فكريا واقتصاديا وسياسيا، على مستوى القيادات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية (دينية ومدنية).
drmekuwaiti@gmail.com.bh
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك