إن لنا صراعًا معهم على الذاكرة، وذاكرتنا لا تَنسى ولا تَستبدل، هل نسي المهجّرون منذ سبعٍ وسبعين سنة قرىً ومدنًا هُجّر أجدادهم منها؟ هل أَسقَطَت الذاكرة شيئًا من المأساة بالتقادم؟
مرّ العمر، واشتعلت الأجيال جيلًا بعد جيل، لا تَنسى ولا تَغفر، مات الجيلُ الأول الذي شهِد النكبةَ الأولى، وعاشت الأجيالُ مأساتَنا التي توازي نكبتَنا أضعافًا مضاعفة، وتتكررُ في صورةٍ أفظع، وموتٍ أقبح، وغربةٍ أشدّ.
فقد ارتقى -في فلسطين- ما يقاربُ المِائةَ ألفِ شهيدٍ على مدى أكثرِ من سبعةِ عقودٍ من الاحتلال، بينما ارتقى -في غزة فقط- ما يقارب السبعينَ ألفَ شهيدٍ، عدا عن أكثرِ من عشرةِ آلافِ مفقودٍ لا يُعرف مصيرهم، وأكثر من عشرة آلاف شهيد تحت أنقاض البيوت المدمرة، وفي شوارع الموت، في عامٍ ونصف من الإبادة الجماعية المعروضة على الشاشات، على مرأى العالم ومسمعه.
وعلى أعتاب وداعنا للربيعِ الثاني على التوالي، الذي لم نقطف فيه الورود، بل جمعنا فيه الأشلاء، وحصدنا الشهداء؛ ليكملوا ربيعهم في السماء، حيث لا تتساقط الصواريخ مطرًا، ولا تنهار البيوت سيولاً، ولا تسقط الحجارة فوق الأجساد، ولا تتعلق الجثث بالعمدان والسقوف، ولا تشتهي النفوس فيها كسرة الخبز، ولا تفقد فيها أطرافها؛ من أجل لقمة العيش.
مضى الربيع الثاني، الذي لم نسمع فيه غناء طيرٍ، ولا زقزقة عصفورٍ، بل تصدعت فيه رؤوسنا بالطيران المسيّر الذي يُعكّرُ صفوَ السماء، ويكدّر مزاج الأرض. كيف لسماء هذه البلاد أن تحتمل دويّ المدافع، وأزيز الرصاص، وضجيج الطائرات، من دون أن تتساقط كِسَفًا؛ لتنتقم من فعل الشياطين والغربان؟
الصوت هو الصوت ذاته، تتغير أماكن النزوح، ولا يتبدلُ العنفُ، ولا تتغير آلة القتل المتفوّقة عسكريّا وتقنيّا، وليس للغزاوي سوى وجوده البائس على أرضٍ كان يملكها، فتآكلت أطرافُها، وهو يخوض معركةً خاسرةً بسيوفٍ من خشبٍ، يقاتلُ فيها عبثًا طواحين الهواء، ويسكب فيها الدم والدمع جداولَ ماء، من دون أن يوقفَ دمُه المسكوبُ -هدراً- الجبهةَ اللعينة المفتوحة بالنار عليه.
فمأساة غزة ليست روايةً رومانتيكية حالمةً، يتابعُ فيها جموعُ القراء مسيرةَ البطل الذي يقاتلُ لأجل أن يحظى بعيون من يحب، ثم يهتفون حين يعود المحبُّ ظافرًا حاملًا معه الحبيبة، مسدلًا الستار على انتصار الحب على الأعراف وقسوة الظروف.
ولا هي ملحمةٌ تراجيدية، يقاتلُ فيها الفرسان، وتُذرف فيها الدموعُ، ويكون فيها عذاب الأبطال قدرهم المحتوم، وتكون فيها التضحية تطهيرًا للخطايا، وتفريغًا لمشاعر الشفقة والخوف المتراكمة.
إنها معركة الغزيّ المخذول المتروك وحده، الذي لا يملك فيها من السلاح سوى الإرادة التي لا تعرف الانحناء، والذاكرة التي تأبى المساومة، وصوت الحقّ الذي يعلو صوته قوةً تخترقُ جدران الصمت العربي والتخاذل العالمي، منتظرًا أن يصنعَ بيده ربيعه الحرّ القادم.
{ باحثة فلسطينية من غزة
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك