العدد : ١٧٢٨١ - الأربعاء ١٦ يوليو ٢٠٢٥ م، الموافق ٢١ محرّم ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٢٨١ - الأربعاء ١٦ يوليو ٢٠٢٥ م، الموافق ٢١ محرّم ١٤٤٧هـ

قضايا و آراء

الغزي المخذول وحده: إرادة لا تنحني وذاكرة تأبى المساومة

بقلم: د. هيا فريج

الأربعاء ١٦ يوليو ٢٠٢٥ - 02:00

إن‭ ‬لنا‭ ‬صراعًا‭ ‬معهم‭ ‬على‭ ‬الذاكرة،‭ ‬وذاكرتنا‭ ‬لا‭ ‬تَنسى‭ ‬ولا‭ ‬تَستبدل،‭ ‬هل‭ ‬نسي‭ ‬المهجّرون‭ ‬منذ‭ ‬سبعٍ‭ ‬وسبعين‭ ‬سنة‭ ‬قرىً‭ ‬ومدنًا‭ ‬هُجّر‭ ‬أجدادهم‭ ‬منها؟‭ ‬هل‭ ‬أَسقَطَت‭ ‬الذاكرة‭ ‬شيئًا‭ ‬من‭ ‬المأساة‭ ‬بالتقادم؟

مرّ‭ ‬العمر،‭ ‬واشتعلت‭ ‬الأجيال‭ ‬جيلًا‭ ‬بعد‭ ‬جيل،‭ ‬لا‭ ‬تَنسى‭ ‬ولا‭ ‬تَغفر،‭ ‬مات‭ ‬الجيلُ‭ ‬الأول‭ ‬الذي‭ ‬شهِد‭ ‬النكبةَ‭ ‬الأولى،‭ ‬وعاشت‭ ‬الأجيالُ‭ ‬مأساتَنا‭ ‬التي‭ ‬توازي‭ ‬نكبتَنا‭ ‬أضعافًا‭ ‬مضاعفة،‭ ‬وتتكررُ‭ ‬في‭ ‬صورةٍ‭ ‬أفظع،‭ ‬وموتٍ‭ ‬أقبح،‭ ‬وغربةٍ‭ ‬أشدّ‭.‬

فقد‭ ‬ارتقى‭ -‬في‭ ‬فلسطين‭- ‬ما‭ ‬يقاربُ‭ ‬المِائةَ‭ ‬ألفِ‭ ‬شهيدٍ‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬أكثرِ‭ ‬من‭ ‬سبعةِ‭ ‬عقودٍ‭ ‬من‭ ‬الاحتلال،‭ ‬بينما‭ ‬ارتقى‭ -‬في‭ ‬غزة‭ ‬فقط‭- ‬ما‭ ‬يقارب‭ ‬السبعينَ‭ ‬ألفَ‭ ‬شهيدٍ،‭ ‬عدا‭ ‬عن‭ ‬أكثرِ‭ ‬من‭ ‬عشرةِ‭ ‬آلافِ‭ ‬مفقودٍ‭ ‬لا‭ ‬يُعرف‭ ‬مصيرهم،‭ ‬وأكثر‭ ‬من‭ ‬عشرة‭ ‬آلاف‭ ‬شهيد‭ ‬تحت‭ ‬أنقاض‭ ‬البيوت‭ ‬المدمرة،‭ ‬وفي‭ ‬شوارع‭ ‬الموت،‭ ‬في‭ ‬عامٍ‭ ‬ونصف‭ ‬من‭ ‬الإبادة‭ ‬الجماعية‭ ‬المعروضة‭ ‬على‭ ‬الشاشات،‭ ‬على‭ ‬مرأى‭ ‬العالم‭ ‬ومسمعه‭.‬

وعلى‭ ‬أعتاب‭ ‬وداعنا‭ ‬للربيعِ‭ ‬الثاني‭ ‬على‭ ‬التوالي،‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬نقطف‭ ‬فيه‭ ‬الورود،‭ ‬بل‭ ‬جمعنا‭ ‬فيه‭ ‬الأشلاء،‭ ‬وحصدنا‭ ‬الشهداء؛‭ ‬ليكملوا‭ ‬ربيعهم‭ ‬في‭ ‬السماء،‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬تتساقط‭ ‬الصواريخ‭ ‬مطرًا،‭ ‬ولا‭ ‬تنهار‭ ‬البيوت‭ ‬سيولاً،‭ ‬ولا‭ ‬تسقط‭ ‬الحجارة‭ ‬فوق‭ ‬الأجساد،‭ ‬ولا‭ ‬تتعلق‭ ‬الجثث‭ ‬بالعمدان‭ ‬والسقوف،‭ ‬ولا‭ ‬تشتهي‭ ‬النفوس‭ ‬فيها‭ ‬كسرة‭ ‬الخبز،‭ ‬ولا‭ ‬تفقد‭ ‬فيها‭ ‬أطرافها؛‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬لقمة‭ ‬العيش‭.‬

مضى‭ ‬الربيع‭ ‬الثاني،‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬نسمع‭ ‬فيه‭ ‬غناء‭ ‬طيرٍ،‭ ‬ولا‭ ‬زقزقة‭ ‬عصفورٍ،‭ ‬بل‭ ‬تصدعت‭ ‬فيه‭ ‬رؤوسنا‭ ‬بالطيران‭ ‬المسيّر‭ ‬الذي‭ ‬يُعكّرُ‭ ‬صفوَ‭ ‬السماء،‭ ‬ويكدّر‭ ‬مزاج‭ ‬الأرض‭. ‬كيف‭ ‬لسماء‭ ‬هذه‭ ‬البلاد‭ ‬أن‭ ‬تحتمل‭ ‬دويّ‭ ‬المدافع،‭ ‬وأزيز‭ ‬الرصاص،‭ ‬وضجيج‭ ‬الطائرات،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تتساقط‭ ‬كِسَفًا؛‭ ‬لتنتقم‭ ‬من‭ ‬فعل‭ ‬الشياطين‭ ‬والغربان؟

الصوت‭ ‬هو‭ ‬الصوت‭ ‬ذاته،‭ ‬تتغير‭ ‬أماكن‭ ‬النزوح،‭ ‬ولا‭ ‬يتبدلُ‭ ‬العنفُ،‭ ‬ولا‭ ‬تتغير‭ ‬آلة‭ ‬القتل‭ ‬المتفوّقة‭ ‬عسكريّا‭ ‬وتقنيّا،‭ ‬وليس‭ ‬للغزاوي‭ ‬سوى‭ ‬وجوده‭ ‬البائس‭ ‬على‭ ‬أرضٍ‭ ‬كان‭ ‬يملكها،‭ ‬فتآكلت‭ ‬أطرافُها،‭ ‬وهو‭ ‬يخوض‭ ‬معركةً‭ ‬خاسرةً‭ ‬بسيوفٍ‭ ‬من‭ ‬خشبٍ،‭ ‬يقاتلُ‭ ‬فيها‭ ‬عبثًا‭ ‬طواحين‭ ‬الهواء،‭ ‬ويسكب‭ ‬فيها‭ ‬الدم‭ ‬والدمع‭ ‬جداولَ‭ ‬ماء،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يوقفَ‭ ‬دمُه‭ ‬المسكوبُ‭ -‬هدراً‭- ‬الجبهةَ‭ ‬اللعينة‭ ‬المفتوحة‭ ‬بالنار‭ ‬عليه‭.‬

فمأساة‭ ‬غزة‭ ‬ليست‭ ‬روايةً‭ ‬رومانتيكية‭ ‬حالمةً،‭ ‬يتابعُ‭ ‬فيها‭ ‬جموعُ‭ ‬القراء‭ ‬مسيرةَ‭ ‬البطل‭ ‬الذي‭ ‬يقاتلُ‭ ‬لأجل‭ ‬أن‭ ‬يحظى‭ ‬بعيون‭ ‬من‭ ‬يحب،‭ ‬ثم‭ ‬يهتفون‭ ‬حين‭ ‬يعود‭ ‬المحبُّ‭ ‬ظافرًا‭ ‬حاملًا‭ ‬معه‭ ‬الحبيبة،‭ ‬مسدلًا‭ ‬الستار‭ ‬على‭ ‬انتصار‭ ‬الحب‭ ‬على‭ ‬الأعراف‭ ‬وقسوة‭ ‬الظروف‭.‬

ولا‭ ‬هي‭ ‬ملحمةٌ‭ ‬تراجيدية،‭ ‬يقاتلُ‭ ‬فيها‭ ‬الفرسان،‭ ‬وتُذرف‭ ‬فيها‭ ‬الدموعُ،‭ ‬ويكون‭ ‬فيها‭ ‬عذاب‭ ‬الأبطال‭ ‬قدرهم‭ ‬المحتوم،‭ ‬وتكون‭ ‬فيها‭ ‬التضحية‭ ‬تطهيرًا‭ ‬للخطايا،‭ ‬وتفريغًا‭ ‬لمشاعر‭ ‬الشفقة‭ ‬والخوف‭ ‬المتراكمة‭.‬

إنها‭ ‬معركة‭ ‬الغزيّ‭ ‬المخذول‭ ‬المتروك‭ ‬وحده،‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يملك‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬السلاح‭ ‬سوى‭ ‬الإرادة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تعرف‭ ‬الانحناء،‭ ‬والذاكرة‭ ‬التي‭ ‬تأبى‭ ‬المساومة،‭ ‬وصوت‭ ‬الحقّ‭ ‬الذي‭ ‬يعلو‭ ‬صوته‭ ‬قوةً‭ ‬تخترقُ‭ ‬جدران‭ ‬الصمت‭ ‬العربي‭ ‬والتخاذل‭ ‬العالمي،‭ ‬منتظرًا‭ ‬أن‭ ‬يصنعَ‭ ‬بيده‭ ‬ربيعه‭ ‬الحرّ‭ ‬القادم‭.‬

{‭ ‬باحثة‭ ‬فلسطينية‭ ‬من‭ ‬غزة

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا