«مدن الحليب والثلج»، الرواية الثانية لجليلة السيّد، الصادرة حديثًا عن «دار الرافدين»، تمثّل نقلة نوعية وخطوة صاعدة في المشهد السردي، عملٌ مفعم بالقضايا الكبرى والمعاصرة، عابرٌ للبيئة المحلية، وحافرٌ في صميم دساتير الدول الأوروبية، في مقارنةٍ مبطّنة تكشف الأقنعة الحديثة عبر مؤسساتٍ ذات مسمّياتٍ برّاقة، لكنها لا تقلّ سوداويةً وقسوة عن نظيراتها في الشرق.
«ظننتُ أن الحرب في الشرق، وأنني نجوتُ منها، لكني أدركتُ الآن أنها لم تنتهِ، تبدّلت أسلحتها ليس إلا..» – صـ74ـ
يبدأ هذا العمل منذ الإهداء المزدوج، الذي تتقاسمه الكاتبة لصالح البطلة داخل الرواية، ويبدو ذلك تضحية مستحقّة لصالح الحبكة:
«لمغتصبي الطفولة
باسم الحرية والحماية
سيقاضيكم التاريخ، وأنا»
«لولوة»؛ البطلة، والشخصية المركّبة، العادية جدًا والمعقّدة أكثر بفعل الظروف، بدءًا من أمّها التي عانت الهجرة من سوريا إلى البحرين بسبب زواجها من «جميل»، المرتبط بزوجتين قبلها، وما تلا هذه الهجرة التي تكيفت معها الأم واستكانت لها، لكنها أثّرت في «لولوة» حين بدأ الطلاب بمناداتها «بنت السورية»، وكأنها – رغم كل الأوراق الرسمية – لم تُقبل تمامًا في المجتمع، ولم تندمج كليًا.
ثم، بعد وفاة أبيها، تُتاجر بها الأسرة عبر تزويجها لرجل يكبرها سنًا، يضيّق عليها ويحرمها من أبسط حقوقها.
تخوض تجربة الطلاق بعمر التاسعة عشرة، وهي أم لطفلتها «جمانة»، تعود للدراسة، تعمل، ثم تتعثّر في وحدتها، وتقع – وابنتها – في شرك رجلٍ متحرّش، يترك أثرًا بالغًا على جمانة، الفتاة التي لا تتخطى الجرح حتى آخر لحظات حياتها.
تلعب قضية التحرّش دورًا نفسيًا وجوهريًا داخل العمل، كما ترتكز الرواية على ثنائية الطفولة والأمومة، وكيف تتحوّل الأم المغلوب على أمرها إلى كائنٍ شرس لا ينكسر، لا يلين، ولا يركن للاستسلام.
في الفيلم الهندي Mom، تقول الأم للسيد «دك»:
- إن الله لا يستطيع أن يكون في كل مكان، سيد دك.
فيرد عليها وهو يرى أمًّا تفعل المستحيل من أجل الانتقام لابنتها:
- أعرف... ولهذا خلق الله الأمهات.
الأمّهات، مخلوقاتٌ بروحٍ إلهية، مجبولةٌ على العناية، والحماية، التي تحتجنها بدورهنّ، لكنّهن يضحّين في سبيل أطفالهنّ بما يفوق إمكانياتهنّ، حين يستدعي الأمر خطرًا، لأنهنّ يتعاطين بالفطرة... بل بالحكمة.
الرواية معاصرة في طرحها لقضايا راهنة: الثورات، الحروب، جائحة كورونا، وقضايا متجدّدة: التحرّش، صراع الهوية، وخصوصًا للمهاجرين.
كما أسلفت، العمل مبطّن بالمقارنات، ويمكننا تقريب صورة أم «لولوة» – المهاجرة من بلدٍ عربي إلى آخر خليجي - من لولوة نفسها، وعصام، وهجرتهم من بلدٍ عربي إلى بلدٍ أوروبي، وكيف أثّر ذلك على جمانة، التي تعاني أصلًا اضطرابًا نفسيًا داخليًا.
الرواية ترصد كيف ينعكس ذلك على اختياراتها وتأثرها بالمحيط الجديد، وتعاملها مع هامش الحرية الكبير بالنسبة إلى بيئةٍ محافظة تحظى فيها الأسرة بمكانةٍ مقدسة.
سيؤثّر صراع الهوية في الجميع، وسيطرح أسئلةً صعبة عن الوطن والانتماء، كما يُسلّط الضوء على «السوشيال»، المؤسسة التي تُعد ندًّا شرسًا ضد الأسرة، في إدارة شؤون التربية وحضانة الأطفال.
كل شخصية في الرواية تشير إلى إشكال أو قضية:
«عصام»: يرمز إلى التحوّل. مواطنٌ عادي في بلدٍ تعصف به الثورات، ينزلق إلى جماعات مسلّحة، يعود محطّمًا، يهاجر، يتحوّل مجددًا، ويدخل دهاليز الجماعات المنشقة.
«جمانة»: تجسيد لصراع الهوية بامتياز. صراعٌ ينال من الجميع، لكنه يقضي عليها تحديدًا.
«الحب وحده لا يكفي لحماية أبنائنا من أقدارهم». - صـ122ـ
«يوسف»: يأخذنا إلى عالم «التوحّد»، ذلك العالم الذي بدأ في الظهور من دون تفسير علمي واضح، رغم كثرة المبرّرات المعروضة في السوق كأسباب محتملة.
«حليمة»: الصديقة الطيبة التي تُحب بصدق، لكنها عاجزة عن الوقوف مع الحق حين يصطدم بولائها العائلي. صورة متكرّرة في مجتمعاتنا.
«عبدالله»: الأخ الأكبر، يلهث خلف ملذات الدنيا، يظلم أخته، يحاول سلب حقّها، ثم تنكسر به الحياة فيعود لرشده.
«لولوة»: أنا لست غبية، بل أم خائفة، «أحيانًا يجعلنا الخوف نُخطئ أكثر... نخسر من نُحبهم أكثر» - صـ147، تُعاني من علاقتها العاطفية، من حاجتها الى الحب والاحتواء، ومن الألم الذي لا يفارقها.
«كريم»: يرمز إلى الطفولة، الأمل، المستقبل، والرهان الأخير الذي يستحق الصمود:
«أطفالي... أنا عالمهم، وسأصمد لأجلهم». - صـ221ـ
كان الناس في سوريا يهتفون:
«الله، الوطن، حرية وبس».
لكن حين حصلت لولوة وعصام على وطنٍ آمن، وحرية بسقف مرتفع، كانت النتيجة فادحة: فقدوا أطفالهم، وتمزّق شملهم، وصار شعار لولوة الضمني: «الله، الوطن، أطفالي وبس».
على غير العادة، تنتهي الرواية نهايةً شبه سعيدة - أو هكذا يتمنّى القارئ - حيث تعود الأشياء لمكانها الأول، بخسارة العائلة الصغيرة، مقابل اجتماع العائلة الكبيرة، وعودة بعض الدفء.
ختامًا:
لا أدري إن كانت شهادتي مجروحة في هذه الرواية، فقد قرأتُ ثلاث مسوداتٍ سابقة، كانت أكثر غزارة في الوصف، وأغنى بالمشاهد.
أما النسخة النهائية، فجاءت باختصاراتٍ شديدة، لم تمسّ جوهر العمل، لكنها أثّرت على تدفّقه الشعوري.
أُدرك أن التوسّع في التفاصيل ليس مَحبوبًا دائمًا، لكنه يمنح شعورًا بالاحتواء.
أتمنّى أن يكون هذا رأيي وحدي.
لقد أثبتت جليلة السيّد بهذا العمل حضورها الفعلي الواعد. تجربةٌ متقدّمة يُعوّل عليها. بهذا العمق، وهذا التمكّن، نحن أمام روائيةٍ تبشّرنا بالتميّز والمنافسة.
روائي وناقد بحريني
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك