مهما تسارَعَ التطوُّر التقني عبر العصور؛ يظلُّ هذا التطوُّر عاجِزًا عن مُجاراة إبداع العقول البشريَّة التي وهبها الخالِق نعمة استقبال الإلهام من عالمِ الأثير، لتنطلق بخيالها المُجنَّح في فضاءاتٍ دون حدود، ثم تُغذّي هذا الخيال بمخزونٍ من كنوز الثقافة قبل أن تُترجمهُ إلى حروفٍ وكلماتٍ ترتديها الأفكار فتسحر ألباب المُتلقّين وتحتلّ وجدانهم بعطرٍ لا يُغادر ذاكرة مشاعرهم على مرّ الأعوام.. ومن تلك المواهب التي مازالت أعمالها تعيش في الذاكرة الجمعية البحرينيَّة والخليجيَّة موهبةٌ لا يُمكن أن يُذكر مُسلسل «حسن ونور السنا» ومُسلسل «بوهبَّاش» من دون أن تحظى بتحيَّة إعجابٍ جماهيري على الصعيد البحريني بوجهٍ خاص والخليجي بوجهٍ عام من جمهورٍ مازالَ يستمتع حتى اليوم بما أبدعتهُ مُخيّلة المؤلِّف وكاتب السيناريو المُتفرّد حمد الشهابي.
من سينما المُحرَّق التي كان بينها وبين منزله خلال طفولته شارع بدأت الحكاية، كان الطفل الذي لم يُكمل عامه الثامن مفتونًا بأجواء قاعة العرض التي يُكشف سقفها صيفًا ويُغطى شتاءً.. تتوالى القصص على الشاشة مُتنقلةً بالذهن من عالم مُغامرات أفلام رُعاة البقر الأمريكيَّة إلى عالم رومانسيَّة الأفلام الهنديَّة، ومن عالم البطولات التاريخيَّة العربيَّة إلى عالم أجواء البحث والتحقيقات البوليسيَّة، بمرور الأعوام لم يعُد تلقّي تلك اللذة المعنويَّة كافيًا، بل تنامت الطموحات والآمال تحدوها الأشواق للتحوُّل إلى عنصر مُشارك في صناعة ذاك العالم الفتَّان، كان الارتواء ممكنًا من ارتشاف مياه النهر قبل أعوام؛ لكن أعماق النفس اليوم لم يعُد يرويها إلا السّباحة في النهر والغوص فيه والانطلاق منه نحو بحارٍ أكثر اتساعًا وقُدرة على إشباع هذا العشق المحفوف بالفضول.. في الحي ذاته كان منزل الأديب المُفكّر «مبارك الخاطر»، هُناك صادف التلفاز للمرَّة الأولى فتنامت الدهشة تجاه ما يُقدمه هذا الصندوق من عروض مشوّقة، وهناك أيضًا وقع بصره على أوَّل مكتبة، حيث تبرعمَ التوق لاستكشاف ما تُخبئه كل كتب الأرض من أسرار، وقرر تعلُّم فن كتابة القصَّة والسيناريو، لتكون مسرحيَّة «مُدرّس 61» عام 1979م جواز سفره الأوَّل نحو هذا العالم حين لم يكُن أمامه إلا مسرحٌ وحيد هو «مسرح الجُفير»، ثم كتب مُسلسله التُّراثي الأوَّل بعنوان «الدّالوب» لتلفزيون قطر عام 1985م؛ ليحصد جوائز ونجاحاتٍ تُذكي جذوة الأمنيات وتُطلق زغاريد الطموحات التي شجعته على كتابة سهرة «عيون تحت الجمجمة - 199م» وتتلقفها شاشة تلفزيون البحرين، ثم مُسلسل «فتاةٌ أخرى - 1993م» الذي كان -ومازالَ- بصمةً فنيَّة لا تُنسى من بطولة النجمة أماني محمد وإخراج بسَّام الذوَّادي.
توالت المُسلسلات والنجاحات وصولاً إلى حسن ونور السنا من بطولة النجم أنور أحمد والنجمة زينب العسكري وباقة من الفنانين البحرينيين بقيادة المُخرج بسَّام الذوادي عام 1995م، تجدر الإشارة إلى أن رئيس الإنتاج في تلك الفترة كان الفنان البحريني قحطان القحطاني الذي كان إيمانه العميق بالفن سببًا في عمله عليه باجتهادٍ وشغف.. عام 1996م أبدع الشهابي مُسلسلا رمضانيًا وُلدَ من فكرة للشاعر الخالِد عبدالرحمن رفيع وشارك في غناء مُقدمته نجم الطرب البحريني الأصيل أحمد الجميري بينما أخرجه أمير الشايب.. ومن يُمكنه نسيان مُسلسل «عجايب زمان»؟ تلاه مُباشرة مُسلسل «بو هبَّاش بنجاحه الساحق من بطولة النجم محمد المنصور وإخراج عبدالعزيز المنصور، ثم مسلسل «تالي العمر- 1998م» بطولة النجمة زينب العسكري، لتأتي بعده مسرحيَّة «بيت خاص جدًا» في العام ذاته، ثم مُسلسل «مواطن طيّب - 2001م»، وبعد سلسلة أُخرى ناجحة من المُسلسلات المُتتالية كان مُسلسل «حراير - 2007م» عن رواية كتبتها د. فوزيَّة الدريع وأخرجها حسن سراب، ومازالَ الإبداع بعده جاريًا حتى اليوم.
لا يُمكن لسيرةٍ إبداعيَّة تستحق بضع مُجلَّداتٍ أن ينجح في احتوائها مقال، فنحنُ أمام موهبةٍ عِصاميَّةٍ استطاعت حماستها وولعها بفن الدراما إبداع أكثر من 400 حلقة من حلقات المُسلسلات الخليجيَّة، عدا عن الأفلام والمسرحيَّات والسهرات التلفزيونيَّة، وكُل عملٍ من أعماله عصيٌ على التزحزُح من ذاكرة المُشاهدين رغم مرور عشرات السنين.. والسؤال الذي قد يطرح نفسهُ هُنا: ما سرُّ الجاذبيَّة المُتجلية في الأعمال الدراميَّة لهذا المُبدع؟
لا شك أن الموهبة الإلهيَّة من أبرز الأسباب، يليها المخزون التراكُمي لمُشاهدة الأعمال السينمائيَّة منذ الطفولة والثقافة المُتصاعِدة في مُختلف المجالات، يؤكد هذا تصريحه خلال أحد لقاءاته الإعلاميَّة بقوله: نجاح السيناريو أو فشله يعتمد على ثقافة الكاتِب، موهبته، إمكانيَّاته الفنيَّة والفكريَّة وخبراته المُجتمعيَّة، فالموهبة قد تُصقل بالدّراسة؛ لكن الدراسة لا يُمكنها أن تحل محل الموهبة أو تؤدّي دورها.. كما أن الشهابي يرى أن الفوز في لُعبة السيناريو لا يتحقق إلا بإتقان فن مُفاجأة المُتلقي وتحريك شعوره بما هو غير مُتوقّع، ومن يقرأ أعماله الأدبيَّة القصصية أو يُشاهد أعماله الدراميَّة يجد نفسه أمام فكرٍ لا يميل إلى التقليديَّة ويُفضل مواكبة حداثة العصر أو مُسابقته إن أمكَن، فاجترار المُشكلات العائليَّة المُكررة لم يعُد مواكبًا روح العصر الذي يتطلَّب التركيز على المُشكلات العلميَّة والمعرفيَّة القادرة على قدح زناد الفكر وإيقاد جذوة خيال المتلقي العربي ورفع مستويات وعيه ومن ثم المُساهمة في تنمية المُجتمع وتطويره، ورغم أن قلمه حقق نجاحًا واسعًا في تقديم الدراما الشعبيَّة العائليَّة التراثيَّة التي نالت تقديرًا واستحسانًا من المُجتمع البحريني والخليجي؛ إلا أن بصمته الفكريَّة المُغايرة للمألوف بصورة تستثير دهشة المُتلقي وتُحرّض فكره على النمو وتوقظ تساؤلات مُخيّلته لم تُغادر أيًا من تلك الأعمال.
نجم الدراما الخليجيَّة حمد الشهابي لؤلؤة نادرة من لآلئ الأدب والفن البحريني، موهبةٌ تُحلّق باستمرار على جناح خيالٍ لا يكف منبعه عن التدفُّق، يدفع معنويَّاتها عشق الفن والإيمان العميق بدور الكلمة المكتوبة في ارتقاء الأفراد والمُجتمعات.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك