الشاعر والإعلامي البحريني علي الستراوي من الشعراء الذين استطاعوا أن يشتغلوا على مشروعهم بدأب وجهد عميقين، وهو من الجيل الشعري الرابع في مملكة البحرين، وخلال مسيرته الإبداعية أصدر أكثر من مجموعة شعرية، المجموعات هي: «المرافئ المتعبة، فضاء، على راحة قلبي، امرأة في ضيافة القلب، فصول لسيرة واحدة، وخاصرة الريح». كما أتبع هذا المنجز الشعري كغيره من الشعراء رواية أسماها «النديد» هذا إلى جانب كتابته القصة القصيرة والشعر العامي وكذلك ممارسته للنقد الأدبي واشتغاله بالإعلام الثقافي، أي أنه كاتب متنوع.
وعطفا على ما تقدم، صدر للشاعر علي الستراوي مجموعة شعرية جديدة حملت عنوان: «ذاكرة الماء» اشتملت على العديد من القصائد هي: «ذاكرة الماء، فواصل لوطن كبير، أحبك وكفى، من يعيد الخياط، انتظرها قبل كل أذان فجر، بين ظلين أولهم أنت، أبي آية في السهاد.. أهداها لوالده، حكاية لا تضنَّ على أحد بالهدوء.. أهداها لوالدته، تقدمي يا حبيبتي، عذب لا ينشغل بالفحم لوحده، واقف يا خال كالشجر، معك يا علي نقرأ الحكاية، وسقوط على صخرة في الهواء» من خلال هذه العنونة للقصائد يتبيّن لنا مدى حرص الشاعر عن الكشف عن رؤيا جديدة لما يختزن في ذاكرته من خلال الانتماء لمحيطه وانغماسه في جدليّة الواقع والإنسان من خلال اشتباكه في معطاه اليومي، باثا حالات عايشها ورسخت واختزنت في ثناياه وذاكرته، حيث نلحظ في عمله الشعري هذا مدى حياكة الشاعر لقصائده تجاه الإنسان والمحسوسات ليكون أكثر التصاقا بالمدينة راسما مشهدية للمتلقي والقارئ لمدينته الموحشة ضمن بناء درامي مشحون بالتفاصيل مستحضرا عمال النظافة في الشوارع الملتهبة من حرارة الشمس.. هذا حس إنساني وحسُّ شاعر يتقن البناء وسبك الحروف المفعمة بالمشاعر لذاكرة ماء تضج بمعنى الحياة، وحين يرسم طقوس عرس ودردشات النساء يقمنَّ مازلنَّ يوزعنَّ الحلوى هذه التفاصيل المختزنة في ذاكرته وهذا الربط الفني المتقن الملتحم بين المدينة والعمال والنسوة والعرس يسافر بالقارئ إلى فضاءات أكثر رحابة لمساحة من البوح من المشهدية الشعرية التي تستقرئ دواخل الإنسان بفلسفة ورؤى شعرية عالية البناء المحكم للذات الشاعرة والذات الجمعية.
الشاعر علي الستراوي مسكون بمعنى التفاصيل والمشهديات اليومية التي تكشف عن مخيلة وتربة خصبة تؤرخ للبحر وماء الذاكرة وطقوس الفرح والطفولة، لنجد خلال تطوافنا في الديوان سرد شعري مشغول بعناية فائقة تفضي إلى جوهر الأشياء بناء ومعنى، وهذا الملمح نجده حين يخاطب الحبيبة التي يراها بعين لاقطة وهي مازالت في معطف الأيام السرّ العميق فيبوح لها بما يختلج في أتون القلب مشعلا الروح وعينيها ليقول مستذكرا فساتين العرس، والمعنى هنا أبعد وأعمق في نفسية الشاعر في حالة من الغربة والزحام.
(فساتين عرس لا زالت تحاك بخيوط
وما زالت المدينة الموحشة
يكنس عمال النظافة شوارعها بحرارة الشمس
وأنت بين المرايا تبحثين عن وجهك الضائع في الزحام
وتنتظرين فارسك المتعب من الطوفان).
سرد شعري متفجر على عتبات الضياع وشتات ومتاهة الأرواح، بوح شفيف لأوراق الشاعر المتطايرة المبللة بماء الكلام وذاكرته، واصفا الحبيبة في سعيها الدؤوب بلا ماء أو سكر يبل الريق.
(تجوبين الطرقات دون سكر وماء
بينك وبين ساحرات التمر حكاية الموج الغاضب
ودردشات نسوة في البيت
يغزلن قمصان أطفالهنَّ
يوزعنَّ الحلوى على بعضهنَّ
وفي ذاكرة الماء يشطفن تعبهنَّ
ويحبسنَّ دموعهنَّ في الصدور المكتظة بأرض الأزمنة).
ويستذكر الستراوي في قصيدة أسماها «حكاية لا تضنّ على أحد بالهدوء» التي أهداها لوالدته ويسرد طفولته وحنان الأم متأملا كل صغيرة أخذته إلى الوجه الصبوح ودفء الصدر والدعاء الرحيم، شاعر يمتلك قدرة هائلة على الوصف واللغة العالية التي تنم عن مراس في كتابة النص الشعري المتقن بناء ومعنى... هذا الاستذكار الذي يحمل في ثناياه صدق المشاعر تجاه الأم وحالة الفقد والفراق الطويل بأسلوبية القول الشعري الذي يفيض بالدهشة ومتعة التصوير.
(صغيرك أماه
شقَّ القماط ولم يغادر دفء صدرك
ولم يعتل جبلا دون دعاء
والآن ركضت دون وعي
ولم أصل حيث طل
تمحور في الضلوع
أبقى السهاد المقل
بعد أن اليوم شهرا
وصار العام دهرا
فمن غيرك.. يمسح وجهي
ويغسلني بالنقاء).
ويمضي الشاعر الستراوي إلى استحضار الشاعر البحريني الكبير قاسم حداد الذي يعد مدرسة في الشعري البحريني والعربي الذي امتاز بحسّ خطابي وإنساني غنائي ونفس شعري عال في معناه التحريضي المتمثل في صرخة لمعنى التغيير، جميل أن يأخذنا الشاعر جوانيّة الشاعر حداد ليرسم دراما إنسانية مفعمة بصدق المشاعر من خلال نص شعري فاتن عنونه «عذب لا ينشغل بالفحم لوحده».. الذي يقول فيه:
)يا لها من نزوة سقط فيها الفؤاد
في شباك الملائكة/ وفي عيون «أخبار المجنون
كانت ليلى قد غسلت حناء ليلتها الأولى
سجت فوق التراب له رائحة الحكايات
كان لها في البحر/ سرُّ الغجر الساهرين على موسيقى الحياة
وهو يدنو من القلب
ليشرع أجنحتها في فضاء الحرية
إنه قاسم حداد الذي دون اللغة/ في ثياب حداثة البوح/ مشعلا جهات القصيدة/ بفيض يعتلي سماوات سبع/ يعزف في هدوء الريح موسيقاه)
ديوان الشاعر علي الستراوي يجعلنا نسافر معه على أجنحة قصائده لنحلّق في مساحات العشق والحب وحالات الفقد والرحيل وطقوس المرأة متخذا من الموروثات الشعبية وحكايات الأمهات والجدات متاعا للروح بلغة مكثفة ومجازات وحوارات سردية تنم عن شاعر متمرسا كما ذكرت في القول الشعري وسرده المفعم بالجمال والديوان بحاجة قراءات كثيرة لنسبر أغواره ونستجلي جمالياته ورؤاه الأخرى.
لنغني مع الشاعر تجلياته الشعرية حين يقول: (ما كنت أدري/نزعت قميص يومي من على جسدي/ ودخلت اللعبة الخاسرة/ بين باطن كفي/ وبين ارتعاش قلبي/ طوتني الدنيا عل خاصرتها/ فبكيت وأنا أجلس أول العتبات/لأن أمي بكت قبلي/لأن أمي رأتني في حلمها الأول فذكرتني).
{ إعلامي وشاعر
من الأردن.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك