العدد : ١٧٣٣٠ - الأربعاء ٠٣ سبتمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ١١ ربيع الأول ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٣٣٠ - الأربعاء ٠٣ سبتمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ١١ ربيع الأول ١٤٤٧هـ

الثقافي

سرديات: عن الرواية والسرديات الإدراكية

السبت ١٢ يوليو ٢٠٢٥ - 02:00

على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬صدور‭ ‬اشتغالات‭ ‬الروائية‭ ‬السعودية‭ ‬أميمة‭ ‬الخميس‭ ‬في‭ ‬رواياتها‭: (‬البحريات‭) ‬و‭(‬الوارفة‭) ‬و‭(‬زيارة‭ ‬سجى‭) ‬عن‭ ‬وعي‭ ‬نسوي‭ ‬ومركزية‭ ‬لافتة‭ ‬لخطاب‭ ‬المرأة‭ ‬السردي‭ ‬إلا‭ ‬أنَّها‭ ‬في‭ ‬روايتها‭ (‬مسرى‭ ‬الغرانيق‭ ‬في‭ ‬مدن‭ ‬العقيق‭) ‬اختارت‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬شخصيتها‭ ‬السَّردية‭ ‬المركزية‭ ‬رجلاً‭ ‬هو‭ ‬مزيد‭ ‬الحنفي‭ ‬الذي‭ ‬تسرد‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مسارات‭ ‬رحلته‭ ‬الممتدة‭ ‬خطابها‭ ‬الفكري‭ ‬والثقافي‭ ‬ورؤيتها‭ ‬السردية‭ ‬لقضايا‭ ‬إشكالية‭ ‬كبرى‭ ‬كانت‭ ‬ولا‭ ‬تزال‭ ‬تمثل‭ ‬راهنًا‭ ‬عربيًا‭ ‬يساءل‭ ‬العقل‭ ‬العربي‭. ‬وستنشغل‭ ‬في‭ ‬روايتها‭ ‬الأخيرة‭ (‬عمة‭ ‬آل‭ ‬مشرّق‭) ‬باستقصاء‭ ‬قرن‭ ‬كامل‭(‬1918-2018‭) ‬من‭ ‬التحولات‭ ‬الثقافيّة‭ ‬والاجتماعيّة‭ ‬المتسارعة‭ ‬التي‭ ‬حدثت؛‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يجعل‭ ‬خطاب‭ ‬أميمة‭ ‬الخميس‭ ‬الروائي‭ ‬صالحًا‭ ‬لاستنطاق‭ ‬خطاب‭ ‬ثقافي‭ ‬للبحث‭ ‬عن‭ ‬التمثيلات‭ ‬الذهنيّة‭ ‬والثقافيّة‭ ‬العميقة‭ ‬لعوالمها‭ ‬السَّردية،‭ ‬وتصلح‭ ‬رواية‭ (‬مسرى‭ ‬الغرانيق‭ ‬في‭ ‬مدن‭ ‬العقيق‭) ‬للبحث‭ ‬عن‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬التناصات‭ ‬المعرفية‭.‬

إنَّ‭ ‬حضور‭ ‬خطاب‭ ‬الروائية‭ ‬الخميس‭ ‬طاغٍ‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تلك‭ ‬التماثلات‭ ‬الكبرى‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬مزيد‭ ‬الحنفي‭ (‬الأصل‭ ‬النجدي،‭ ‬الامتدادات‭ ‬العائلية‭ ‬الفكرية‭ ‬والثقافية،‭ ‬رحلة‭ ‬البحث‭ ‬العقلية‭ ‬عن‭ ‬أسئلة‭ ‬كبرى‭ ‬وغيرها‭)‬،‭ ‬إلى‭ ‬الحد‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تشكّل‭ ‬فيه‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬سيرة‭ ‬ذاتية‭ ‬فكرية‭ ‬مقنَّعة‭ ‬للخميس‭ ‬تمثِّل‭ ‬سردًا‭ ‬موازيًا‭ ‬ومتقاطعًا‭ ‬مع‭ ‬سيرة‭ ‬مزيد‭ ‬الحنفي‭ ‬ورحلته‭ ‬الفكرية‭ ‬الكبرى‭ ‬سعيًا‭ ‬إلى‭ ‬الحقيقة‭.‬

تمثل‭ ‬نجد‭ (‬اليمامة‭) ‬فضاءَ‭ ‬سرديًا‭ ‬مركزيًا‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ (‬بطل‭ ‬الرواية‭ ‬مزيد‭ ‬الحنفي‭ ‬وامتدادات‭ ‬جذوره،‭ ‬والدته‭ ‬شما‭ ‬التي‭ ‬يرد‭ ‬ذكرها‭ ‬مسرودة‭ ‬بضمير‭ ‬الغائب‭ ‬في‭ ‬مواضع‭ ‬عدة‭ ‬من‭ ‬الرواية،‭ ‬الكم‭ ‬الهائل‭ ‬من‭ ‬مدوّنة‭ ‬الشعر‭ ‬العربيّ‭ ‬القديم‭ ‬عن‭ ‬نجد‭ ‬التي‭ ‬تمثل‭ ‬ذاكرة‭ ‬النوستالجيا‭ (‬ذاكرة‭ ‬استرجاعية‭) ‬تتدفق‭ ‬كلما‭ ‬أزمع‭ ‬مزيد‭ ‬الحنفي‭ ‬على‭ ‬الدخول‭ ‬إلى‭ ‬مسار‭ ‬جديد‭ ‬من‭ ‬مسارات‭ ‬رحلته‭ ‬إلى‭ ‬مدن‭ ‬العقيق،‭ ‬حضور‭ ‬نجد‭ ‬الباذخ‭ ‬المركزي،‭ ‬أبطال‭ ‬الرواية‭ ‬وهم‭ ‬يروون‭ ‬أشعارًا‭ ‬نجدية‭. ‬لقد‭ ‬صرَّحت‭ ‬الخميس‭ ‬في‭ ‬لقاء‭ ‬أُجري‭ ‬معها‭ ‬عن‭ ‬سر‭ ‬إلحاحها‭ ‬السَّردي‭ ‬على‭ ‬مركزية‭ ‬نجد‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬برغبتها‭ ‬في‭ ‬إبراز‭ ‬هذه‭ ‬المنطقة‭ ‬التي‭ ‬غُيبت‭ ‬وهُمِشت‭ ‬لصالح‭ ‬المراكز‭ ‬الثقافيّة‭ ‬العربيّة‭ ‬الكبرى‭ ‬آنذاك‭ (‬الشام،‭ ‬وبغداد،‭ ‬والقاهرة‭) ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬الذخائر‭ ‬الكبرى‭ ‬الثقافيّة‭ ‬والفكرية‭ ‬والإبداعيّة‭ ‬التي‭ ‬أنتجتها‭ ‬والتي‭ ‬تمثل‭ ‬مصادر‭ ‬تأسيسيّة‭ ‬للثقافة‭ ‬العربيّة‭ ‬الكلاسيكية‭.‬

لقد‭ ‬اتخذت‭ ‬أميمة‭ ‬الخميس‭ ‬من‭ ‬سيرة‭ ‬بطلها‭ (‬مزيد‭ ‬الحنفي‭) ‬محورها‭ ‬السردي‭ ‬وهو‭   ‬ينطلق‭ ‬من‭ ‬منطقة‭ ‬اليمامة‭ ‬في‭ ‬وسط‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية،‭ ‬ويتنقَّل‭ ‬بين‭ ‬البلدان‭ ‬هناك‭ ‬شغوفًا‭ ‬بالسؤال،‭ ‬وبخاصة‭ ‬سؤال‭ ‬المعرفة،‭ ‬وتوقَّف‭ ‬برهة‭ ‬في‭ ‬بغداد،‭ ‬ويصف‭ ‬لنا‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬رحلته‭ ‬كلَّ‭ ‬ما‭ ‬يمر‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬بلاد،‭ ‬وخلال‭ ‬هذه‭ ‬الرحلة‭ ‬يجمع‭ ‬الكتب،‭ ‬ويعرض‭ ‬عادات‭ ‬سكان‭ ‬هذه‭ ‬البلاد‭ ‬وطبائعهم،‭ ‬وثقافاتهم،‭ ‬وتقاليدهم،‭ ‬وخصائصهم،‭ ‬وتكوينهم‭ ‬الديني‭ ‬والاجتماعي‭. ‬في‭ ‬رحلته‭ ‬المعرفية‭. ‬وتمضي‭ ‬بنا‭ ‬الروائية‭ ‬عبر‭ ‬روايتها‭ ‬التاريخية‭ ‬من‭ ‬بغداد‭ ‬إلى‭ ‬القدس‭ ‬فالقاهرة‭ ‬ثم‭ ‬تنقلنا‭ ‬إلى‭ ‬القيروان‭ ‬فالأندلس‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬بطلها‭ ‬مزيد‭ ‬الحنفي‭ ‬الذي‭ ‬يسافر‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬المدن‭ ‬جميعها‭. ‬ويعتمد‭ ‬الوصف‭ ‬الروائي‭ ‬لديها‭ ‬على‭ ‬المفارقة‭ ‬الروائية‭ ‬المقارنة‭ ‬بين‭ ‬الأبعاد‭ ‬الحضارية‭ ‬والثقافيّة‭ ‬والسياسيّة‭ ‬جنبًا‭ ‬إلى‭ ‬جنب‭ ‬مع‭ ‬الوصف‭ ‬العمراني‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يأتي‭ ‬وصفًا‭ ‬مجردًا،‭ ‬بل‭ ‬يأتي‭ ‬وصفًا‭ ‬مفعمًا‭ ‬بروح‭ ‬اللحظة‭ ‬التاريخيّة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تقابل‭ ‬الصور‭ ‬المعمارية‭ ‬بين‭ ‬الأعمدة‭ ‬الفخمة‭ ‬والمقاعد‭ ‬الخشبية‭ ‬وبين‭ ‬البنيان‭ ‬الدائري‭. ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬تحييد‭ ‬نظرة‭ ‬السارد‭ ‬مطلقًا‭ ‬في‭ ‬الهوامش‭ ‬والمراكز‭ ‬الثقافية‭.‬

يقوم‭ ‬التخيل‭ ‬التاريخي‭ ‬دمج‭ ‬الشهادات‭ ‬بالمرويات‭ ‬التاريخية‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬ذلك‭ ‬التخييل‭ ‬وتقنية‭ ‬السرد‭ ‬الكثيف‭ ‬وتلك‭ ‬الحشود‭ ‬السردية‭ ‬من‭ ‬مئات‭ ‬الشخصيات‭ ‬التي‭ ‬تتقاطع‭ ‬مصائرها‭ ‬ومآلاتها‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬فيؤول‭ ‬إلى‭ ‬تخيل‭ ‬تاريخي‭ ‬ينفي‭ ‬وجوه‭ ‬الشبه‭ ‬بين‭ ‬الأشخاص‭ ‬والأحداث‭ ‬والأماكن‭ ‬في‭ ‬الرواية،‭ ‬وما‭ ‬يماثلها‭ ‬من‭ ‬أشخاص‭ ‬وأحداث‭ ‬وأماكن‭ ‬حقيقية‭ ‬بواسطة‭ ‬التوازي‭ ‬بين‭ ‬العالمين،‭ ‬وابتكار‭ ‬عالم‭ ‬جديد‭ ‬يرتبط‭ ‬بهما‭ ‬وينفصل‭ ‬عنهما‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭. ‬ولا‭ ‬تقدم‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬وقائع‭ ‬أرشيفية‭ ‬تاريخية‭ ‬جاهزة‭ ‬حدثت‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬مضى‭ ‬قائمة‭ ‬على‭ ‬المطابقات‭ ‬التاريخيّة‭ ‬الصارمة،‭ ‬وإنَّما‭ ‬تهتم‭ ‬بالكيفية‭ ‬التي‭ ‬يتخيل‭ ‬فيها‭ ‬الكاتب‭ ‬تلك‭ ‬الوقائع‭ ‬مرتبطة‭ ‬بحيوات‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الشخصيات،‭ ‬وطريقته‭ ‬في‭ ‬تحريرها‭ ‬من‭ ‬الإطار‭ ‬التاريخي،‭ ‬وإعادة‭ ‬إنتاجها‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬سردي،‭ ‬فتمتزج‭ ‬الأحداث‭ ‬والشخصيات‭ ‬بأسلوب‭ ‬صوغها‭ ‬في‭ ‬تشكيل‭ ‬متجانس‭ ‬يصرح‭ ‬بهويته‭ ‬النوعية،‭ ‬فينبثق‭ ‬التخيّل‭ ‬التاريخي‭ ‬من‭ ‬التقاطعات‭ ‬بين‭ ‬المادة‭ ‬المستعارة‭ ‬من‭ ‬الماضي،‭ ‬وطرائق‭ ‬العرض‭ ‬السردي‭  ‬التي‭ ‬تقترحها‭ ‬الروائية‭ ‬لتركيبها‭ ‬في‭ ‬تشكيل‭ ‬سردي‭ ‬جديد‭ ‬يشكِّل‭ ‬خطابًا‭ ‬ثقافيا‭ ‬دالاً‭ (‬Discourse‭).‬

اعتمدت‭ ‬الروائية‭ ‬تقنية‭ ‬السرد‭ ‬الكثيف‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬توظيف‭ ‬الأرشيف‭ ‬التاريخي‭ ‬في‭ ‬تلك‭   ‬المساحة‭ ‬التي‭ ‬غطتها‭ ‬الرواية‭ ‬بامتداداتها‭ ‬الجغرافية‭ (‬نجد،‭ ‬بغداد،‭ ‬القاهرة،‭ ‬الأندلس‭)‬،‭ ‬وبما‭ ‬يمثِّل‭ ‬المكان‭ ‬في‭ ‬أبعاد‭ ‬الرواية‭ ‬وآفاقها‭ ‬التأريخيّة‭ ‬والفكرية‭ ‬من‭ ‬رؤية‭ ‬سردية‭ ‬أخرى‭ ‬للتاريخ،‭ ‬وحجم‭ ‬مهول‭ ‬من‭ ‬الحراك‭ ‬البشري‭ ‬بكامل‭ ‬مكوناته‭ ‬الحياتية‭ ‬يقتضي‭ ‬الإحاطة‭ ‬الموسوعية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الاختلاقات‭ ‬السردية‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬لعبة‭ ‬التناصات‭ ‬الثقافيّة‭ ‬التي‭ ‬أبدعت‭ ‬فيها‭ ‬الخميس‭ ‬وتألقت‭.‬

 

{‭ ‬أستاذة‭ ‬السرديات‭ ‬والنقد‭ ‬الأدبيّ‭ ‬الحديث‭ ‬

المشارك،‭ ‬كلية‭ ‬الآداب،‭ ‬جامعة‭ ‬البحرين‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا