في أحد الأيام، استوقفتني سيدة تحمل ورقة صغيرة كُتب فيها رقم هاتف ورسالة قصيرة عن أسرة متعففة تواجه تأخراً في دفع الإيجار. لم تطلب المساعدة لنفسها، بل اكتفت بتسليم الورقة قائلة: «إذا تعرفين أحد يقدر يساعدهم». لم تكن تعلم إلى من تتوجه، ولا تعرف الإجراءات، لكنها كانت تملك نية خالصة ورغبة صادقة في أن تصل الرسالة إلى من يستطيع أن يصنع الفارق.
هذا المشهد البسيط يعكس واقعاً أكبر من لحظة إنسانية.. إنه صورة متكررة لعطاء نابع من وجدان المجتمع، لكنه لا يسير في مسار مؤسسي محكم، فالمتبرع لا يجد مساراً واضحاً، والمحتاج لا يقف أمام شبكة موحدة تضمن له الدعم المناسب. النوايا موجودة والاستعداد حاضر، لكن الطريق بين الرغبة والتنفيذ لا يزال مليئاً بالاجتهادات الفردية والتفاوت في الوصول.
في صيف 2021، تصدرت البحرين المركز الأول عربياً والـ12 عالمياً في مؤشر العطاء، في إنجاز يعكس عمق ثقافة التكافل المجتمعي. لكن رغم هذا العطاء اللافت، يظل السؤال مطروحاً: هل لدينا منظومة وطنية تضمن حوكمة فعالة للعمل الخيري، وتمنع ازدواجية الجهود وتحقق العدالة في التوزيع؟
الجهات الخيرية في البحرين متعددة، من جمعيات مرخصة وصناديق زكاة وهيئات وقفية ومبادرات أهلية، إلا أن هذا التعدد لا يصاحبه تنسيق فعال على مستوى المعايير أو البيانات أو آليات الاستهداف. كل جهة تعمل ضمن نطاقها وتبني قوائمها وتحدد أولوياتها بشكل مستقل من دون مظلة وطنية موحدة تمنع التكرار وتسد فجوات الوصول.
وفي ظل هذا التباين، تحولت منصات التواصل الاجتماعي إلى أداة بديلة لعرض الحالات الإنسانية، تنشر مقاطع مؤثرة وتحرك مشاعر الرأي العام وتدفع إلى التبرع المباشر. لكن هذه الوسائط رغم صدق نوايا أصحابها لا تمر عبر قنوات محكمة ولا تخضع لآليات تحقق أو تقييم، ما يجعل المتبرع في حيرة: إما أن يعطي وهو غير مطمئن، أو أن يتراجع وتساوره مشاعر الذنب.
بعض دول الخليج تعاملت مع هذه الإشكالية بنهج مؤسسي حاسم، فقد علّقت الكويت التبرعات مؤقتاً حتى نظمتها عبر مسارات إلكترونية رسمية، وأطلقت السعودية منصة «إحسان» التي تربط التبرع بالتحقق والتوثيق الرقمي، فيما اشترطت الإمارات التصاريح الرسمية وربطت الحملات بمنصات تعرض الأثر وتعزز شفافية المتبرع.
أما في البحرين فقد خطت وزارة التنمية الاجتماعية خطوات جادة في تنظيم الجمعيات وضبط حملات التبرع ومراقبة الإجراءات، وهي جهود تأسيسية محمودة. غير أن التحدي اليوم لم يعد في سن الأنظمة بقدر ما هو في تفعيلها من خلال التنسيق والتكامل. فغياب الربط بين الجهات وتفاوت الآليات يجعل الأثر موزعاً ويُهدر جزء من الموارد أو يتكرر، بينما تبقى بعض الحالات مغيبة.
نحن اليوم بحاجة إلى مظلة وطنية تنسيقية لا تنتقص من استقلالية الجهات الخيرية، بل تُمكنها من توحيد المعايير وتكامل قواعد البيانات، وخلق مسار استحقاق واضح يضمن وصول الدعم بكفاءة وعدالة، من دون أن ينهكه التعقيد أو تضعفه الاجتهادات المتفرقة.
إن الهدف ليس تقليص العمل الخيري، بل إعادة هندسة عملياته وتمكين جهاته وتعظيم أثره بما يحقق العدالة والاستدامة. وحين تتكامل البيانات وتتحد الأدوات، لا تمس خصوصية الجمعيات.. بل تصان ثقة المتبرعين؛ تلك الثقة التي إن اهتزت تراجع العطاء وإن ترسخت امتد الأثر وتعمق.
وحتى لا تبقى المأسسة حبيسة اللوائح، فإن استدامتها تبدأ من الإنسان.. فالتكامل المؤسسي لا يبنى فقط بالإجراءات، بل يتطلب استثمارا واعيا في بناء قدرات الأفراد على العطاء المنظم. لم يعد كافياً أن نحفز على التطوع كقيمة اجتماعية نبيلة من دون أن نؤطره ضمن مسار معرفي ومهني. لقد آن الأوان لإدخال مناهج تعليمية تبدأ من المدرسة وتستكمل في الجامعة، تُعنى بإدارة التبرعات، وتحليل الاحتياجات، وتصميم المبادرات المجتمعية، بما يُعدّ الطالب ليكون فاعلاً في قطاع إنساني محترف لا متحمساً بلا أدوات.
مأسسة العطاء ليست قيداً له، بل هي طريقه إلى الاستدامة. حين يُدار العطاء بحكمة ويصل بإنصاف ويُترجم إلى أثر يحفظ الكرامة ويعزز الثقة يصبح أكثر من مجرد استجابة آنية؛ يصبح شراكة طويلة الأمد في بناء إنسان هذا الوطن.
مهتمة بالحوكمة وتطوير الأداء المؤسسي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك