العدد : ١٧٢٨٢ - الخميس ١٧ يوليو ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٢ محرّم ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٢٨٢ - الخميس ١٧ يوليو ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٢ محرّم ١٤٤٧هـ

مقالات

نحو مأسسة العمل الخيري.. هــل آن الأوان للـتـكـامـل؟

بقلم: عبير محمد دهام

الثلاثاء ١٥ يوليو ٢٠٢٥ - 02:00

في‭ ‬أحد‭ ‬الأيام،‭ ‬استوقفتني‭ ‬سيدة‭ ‬تحمل‭ ‬ورقة‭ ‬صغيرة‭ ‬كُتب‭ ‬فيها‭ ‬رقم‭ ‬هاتف‭ ‬ورسالة‭ ‬قصيرة‭ ‬عن‭ ‬أسرة‭ ‬متعففة‭ ‬تواجه‭ ‬تأخراً‭ ‬في‭ ‬دفع‭ ‬الإيجار‭. ‬لم‭ ‬تطلب‭ ‬المساعدة‭ ‬لنفسها،‭ ‬بل‭ ‬اكتفت‭ ‬بتسليم‭ ‬الورقة‭ ‬قائلة‭: ‬‮«‬إذا‭ ‬تعرفين‭ ‬أحد‭ ‬يقدر‭ ‬يساعدهم‮»‬‭. ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تعلم‭ ‬إلى‭ ‬من‭ ‬تتوجه،‭ ‬ولا‭ ‬تعرف‭ ‬الإجراءات،‭ ‬لكنها‭ ‬كانت‭ ‬تملك‭ ‬نية‭ ‬خالصة‭ ‬ورغبة‭ ‬صادقة‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬تصل‭ ‬الرسالة‭ ‬إلى‭ ‬من‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يصنع‭ ‬الفارق‭.‬

هذا‭ ‬المشهد‭ ‬البسيط‭ ‬يعكس‭ ‬واقعاً‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬لحظة‭ ‬إنسانية‭.. ‬إنه‭ ‬صورة‭ ‬متكررة‭ ‬لعطاء‭ ‬نابع‭ ‬من‭ ‬وجدان‭ ‬المجتمع،‭ ‬لكنه‭ ‬لا‭ ‬يسير‭ ‬في‭ ‬مسار‭ ‬مؤسسي‭ ‬محكم،‭ ‬فالمتبرع‭ ‬لا‭ ‬يجد‭ ‬مساراً‭ ‬واضحاً،‭ ‬والمحتاج‭ ‬لا‭ ‬يقف‭ ‬أمام‭ ‬شبكة‭ ‬موحدة‭ ‬تضمن‭ ‬له‭ ‬الدعم‭ ‬المناسب‭. ‬النوايا‭ ‬موجودة‭ ‬والاستعداد‭ ‬حاضر،‭ ‬لكن‭ ‬الطريق‭ ‬بين‭ ‬الرغبة‭ ‬والتنفيذ‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬مليئاً‭ ‬بالاجتهادات‭ ‬الفردية‭ ‬والتفاوت‭ ‬في‭ ‬الوصول‭.‬

في‭ ‬صيف‭ ‬2021،‭ ‬تصدرت‭ ‬البحرين‭ ‬المركز‭ ‬الأول‭ ‬عربياً‭ ‬والـ12‭ ‬عالمياً‭ ‬في‭ ‬مؤشر‭ ‬العطاء،‭ ‬في‭ ‬إنجاز‭ ‬يعكس‭ ‬عمق‭ ‬ثقافة‭ ‬التكافل‭ ‬المجتمعي‭. ‬لكن‭ ‬رغم‭ ‬هذا‭ ‬العطاء‭ ‬اللافت،‭ ‬يظل‭ ‬السؤال‭ ‬مطروحاً‭: ‬هل‭ ‬لدينا‭ ‬منظومة‭ ‬وطنية‭ ‬تضمن‭ ‬حوكمة‭ ‬فعالة‭ ‬للعمل‭ ‬الخيري،‭ ‬وتمنع‭ ‬ازدواجية‭ ‬الجهود‭ ‬وتحقق‭ ‬العدالة‭ ‬في‭ ‬التوزيع؟

الجهات‭ ‬الخيرية‭ ‬في‭ ‬البحرين‭ ‬متعددة،‭ ‬من‭ ‬جمعيات‭ ‬مرخصة‭ ‬وصناديق‭ ‬زكاة‭ ‬وهيئات‭ ‬وقفية‭ ‬ومبادرات‭ ‬أهلية،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬التعدد‭ ‬لا‭ ‬يصاحبه‭ ‬تنسيق‭ ‬فعال‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬المعايير‭ ‬أو‭ ‬البيانات‭ ‬أو‭ ‬آليات‭ ‬الاستهداف‭. ‬كل‭ ‬جهة‭ ‬تعمل‭ ‬ضمن‭ ‬نطاقها‭ ‬وتبني‭ ‬قوائمها‭ ‬وتحدد‭ ‬أولوياتها‭ ‬بشكل‭ ‬مستقل‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬مظلة‭ ‬وطنية‭ ‬موحدة‭ ‬تمنع‭ ‬التكرار‭ ‬وتسد‭ ‬فجوات‭ ‬الوصول‭.‬

وفي‭ ‬ظل‭ ‬هذا‭ ‬التباين،‭ ‬تحولت‭ ‬منصات‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬إلى‭ ‬أداة‭ ‬بديلة‭ ‬لعرض‭ ‬الحالات‭ ‬الإنسانية،‭ ‬تنشر‭ ‬مقاطع‭ ‬مؤثرة‭ ‬وتحرك‭ ‬مشاعر‭ ‬الرأي‭ ‬العام‭ ‬وتدفع‭ ‬إلى‭ ‬التبرع‭ ‬المباشر‭. ‬لكن‭ ‬هذه‭ ‬الوسائط‭ ‬رغم‭ ‬صدق‭ ‬نوايا‭ ‬أصحابها‭ ‬لا‭ ‬تمر‭ ‬عبر‭ ‬قنوات‭ ‬محكمة‭ ‬ولا‭ ‬تخضع‭ ‬لآليات‭ ‬تحقق‭ ‬أو‭ ‬تقييم،‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬المتبرع‭ ‬في‭ ‬حيرة‭: ‬إما‭ ‬أن‭ ‬يعطي‭ ‬وهو‭ ‬غير‭ ‬مطمئن،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬يتراجع‭ ‬وتساوره‭ ‬مشاعر‭ ‬الذنب‭.‬

بعض‭ ‬دول‭ ‬الخليج‭ ‬تعاملت‭ ‬مع‭ ‬هذه‭ ‬الإشكالية‭ ‬بنهج‭ ‬مؤسسي‭ ‬حاسم،‭ ‬فقد‭ ‬علّقت‭ ‬الكويت‭ ‬التبرعات‭ ‬مؤقتاً‭ ‬حتى‭ ‬نظمتها‭ ‬عبر‭ ‬مسارات‭ ‬إلكترونية‭ ‬رسمية،‭ ‬وأطلقت‭ ‬السعودية‭ ‬منصة‭ ‬‮«‬إحسان‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تربط‭ ‬التبرع‭ ‬بالتحقق‭ ‬والتوثيق‭ ‬الرقمي،‭ ‬فيما‭ ‬اشترطت‭ ‬الإمارات‭ ‬التصاريح‭ ‬الرسمية‭ ‬وربطت‭ ‬الحملات‭ ‬بمنصات‭ ‬تعرض‭ ‬الأثر‭ ‬وتعزز‭ ‬شفافية‭ ‬المتبرع‭.‬

أما‭ ‬في‭ ‬البحرين‭ ‬فقد‭ ‬خطت‭ ‬وزارة‭ ‬التنمية‭ ‬الاجتماعية‭ ‬خطوات‭ ‬جادة‭ ‬في‭ ‬تنظيم‭ ‬الجمعيات‭ ‬وضبط‭ ‬حملات‭ ‬التبرع‭ ‬ومراقبة‭ ‬الإجراءات،‭ ‬وهي‭ ‬جهود‭ ‬تأسيسية‭ ‬محمودة‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬التحدي‭ ‬اليوم‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬في‭ ‬سن‭ ‬الأنظمة‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬تفعيلها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التنسيق‭ ‬والتكامل‭. ‬فغياب‭ ‬الربط‭ ‬بين‭ ‬الجهات‭ ‬وتفاوت‭ ‬الآليات‭ ‬يجعل‭ ‬الأثر‭ ‬موزعاً‭ ‬ويُهدر‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬الموارد‭ ‬أو‭ ‬يتكرر،‭ ‬بينما‭ ‬تبقى‭ ‬بعض‭ ‬الحالات‭ ‬مغيبة‭.‬

نحن‭ ‬اليوم‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬مظلة‭ ‬وطنية‭ ‬تنسيقية‭ ‬لا‭ ‬تنتقص‭ ‬من‭ ‬استقلالية‭ ‬الجهات‭ ‬الخيرية،‭ ‬بل‭ ‬تُمكنها‭ ‬من‭ ‬توحيد‭ ‬المعايير‭ ‬وتكامل‭ ‬قواعد‭ ‬البيانات،‭ ‬وخلق‭ ‬مسار‭ ‬استحقاق‭ ‬واضح‭ ‬يضمن‭ ‬وصول‭ ‬الدعم‭ ‬بكفاءة‭ ‬وعدالة،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬ينهكه‭ ‬التعقيد‭ ‬أو‭ ‬تضعفه‭ ‬الاجتهادات‭ ‬المتفرقة‭.‬

إن‭ ‬الهدف‭ ‬ليس‭ ‬تقليص‭ ‬العمل‭ ‬الخيري،‭ ‬بل‭ ‬إعادة‭ ‬هندسة‭ ‬عملياته‭ ‬وتمكين‭ ‬جهاته‭ ‬وتعظيم‭ ‬أثره‭ ‬بما‭ ‬يحقق‭ ‬العدالة‭ ‬والاستدامة‭. ‬وحين‭ ‬تتكامل‭ ‬البيانات‭ ‬وتتحد‭ ‬الأدوات،‭ ‬لا‭ ‬تمس‭ ‬خصوصية‭ ‬الجمعيات‭.. ‬بل‭ ‬تصان‭ ‬ثقة‭ ‬المتبرعين؛‭ ‬تلك‭ ‬الثقة‭ ‬التي‭ ‬إن‭ ‬اهتزت‭ ‬تراجع‭ ‬العطاء‭ ‬وإن‭ ‬ترسخت‭ ‬امتد‭ ‬الأثر‭ ‬وتعمق‭.‬

وحتى‭ ‬لا‭ ‬تبقى‭ ‬المأسسة‭ ‬حبيسة‭ ‬اللوائح،‭ ‬فإن‭ ‬استدامتها‭ ‬تبدأ‭ ‬من‭ ‬الإنسان‭.. ‬فالتكامل‭ ‬المؤسسي‭ ‬لا‭ ‬يبنى‭ ‬فقط‭ ‬بالإجراءات،‭ ‬بل‭ ‬يتطلب‭ ‬استثمارا‭ ‬واعيا‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬قدرات‭ ‬الأفراد‭ ‬على‭ ‬العطاء‭ ‬المنظم‭. ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬كافياً‭ ‬أن‭ ‬نحفز‭ ‬على‭ ‬التطوع‭ ‬كقيمة‭ ‬اجتماعية‭ ‬نبيلة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬نؤطره‭ ‬ضمن‭ ‬مسار‭ ‬معرفي‭ ‬ومهني‭. ‬لقد‭ ‬آن‭ ‬الأوان‭ ‬لإدخال‭ ‬مناهج‭ ‬تعليمية‭ ‬تبدأ‭ ‬من‭ ‬المدرسة‭ ‬وتستكمل‭ ‬في‭ ‬الجامعة،‭ ‬تُعنى‭ ‬بإدارة‭ ‬التبرعات،‭ ‬وتحليل‭ ‬الاحتياجات،‭ ‬وتصميم‭ ‬المبادرات‭ ‬المجتمعية،‭ ‬بما‭ ‬يُعدّ‭ ‬الطالب‭ ‬ليكون‭ ‬فاعلاً‭ ‬في‭ ‬قطاع‭ ‬إنساني‭ ‬محترف‭ ‬لا‭ ‬متحمساً‭ ‬بلا‭ ‬أدوات‭.‬

مأسسة‭ ‬العطاء‭ ‬ليست‭ ‬قيداً‭ ‬له،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬طريقه‭ ‬إلى‭ ‬الاستدامة‭. ‬حين‭ ‬يُدار‭ ‬العطاء‭ ‬بحكمة‭ ‬ويصل‭ ‬بإنصاف‭ ‬ويُترجم‭ ‬إلى‭ ‬أثر‭ ‬يحفظ‭ ‬الكرامة‭ ‬ويعزز‭ ‬الثقة‭ ‬يصبح‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مجرد‭ ‬استجابة‭ ‬آنية؛‭ ‬يصبح‭ ‬شراكة‭ ‬طويلة‭ ‬الأمد‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬إنسان‭ ‬هذا‭ ‬الوطن‭.‬

 

مهتمة‭ ‬بالحوكمة‭ ‬وتطوير‭ ‬الأداء‭ ‬المؤسسي

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا