العدد : ١٧٢٧١ - الأحد ٠٦ يوليو ٢٠٢٥ م، الموافق ١١ محرّم ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٢٧١ - الأحد ٠٦ يوليو ٢٠٢٥ م، الموافق ١١ محرّم ١٤٤٧هـ

الثقافي

قصة قصيرة: مِن العُمْرِ عِتِيَّا

بقلم - دينا بوخمسين

السبت ٠٥ يوليو ٢٠٢٥ - 02:00

بحقّكِ‭ ‬يا‭ ‬عدالةَ‭ ‬السَّماء‭... ‬ففي‭ ‬أرضِكِ‭ ‬حقٌّ‭ ‬لا‭ ‬بُدَ‭ ‬أنْ‭ ‬يُؤخذ‭.  ‬

وصهيلُ‭ ‬الليلِ‭ ‬الحزين‭.... ‬يمتطي‭ ‬جواد‭ ‬اليأس،‭ ‬علّه‭ ‬يثأر

الزائرون‭ ‬وما‭ ‬أكثرهم،‭ ‬ينتقون‭ ‬أصغرَنا‭ ‬سِنًّا‭ ‬وأبهانا‭ ‬قسمات،‭ ‬والحالُ‭ ‬يومًا‭ ‬بعد‭ ‬آخر‭ ‬يزداد‭ ‬جمودًا‭ ‬كقساوة‭ ‬الصُّخور‭ ‬بين‭ ‬الشُّعَبِ‭ ‬المُلتهبة‭ ‬بحرارة‭ ‬آيار،‭ ‬تنتظر‭ ‬أن‭ ‬يتفضّل‭ ‬عليها‭ ‬البحرُ‭ ‬بنداوته‭.‬

الشُّهور‭ ‬تمضي‭ ‬والسَّنوات‭ ‬عِجاف،‭ ‬أمّا‭ ‬أنا‭ ‬وأنتِ‭ ‬وممّن‭ ‬على‭ ‬شاكلتنا،‭ ‬لا‭ ‬يرِفُّ‭ ‬لهُنَّ‭ ‬جَفن،‭ ‬ولا‭ ‬بطرَفٍ‭ ‬خفيّ‭!‬

صديقتي‭ ‬لونا‭: ‬لديكِ‭ ‬من‭ ‬الحنكة‭ ‬وما‭ ‬تيّسر‭ ‬من‭ ‬التدبير‭ ‬لتقلبي‭ ‬الموازين،‭ ‬وتحوّلي‭ ‬التراب‭ ‬ذهبًا‭ ‬إن‭ ‬شئتِ‭.‬

نعم‭ ‬أعلم‭.. ‬ولكن‭ ...‬

في‭ ‬حركة‭ ‬دؤوبة،‭ ‬كانوا‭ ‬قد‭ ‬عقدوا‭ ‬العزم،‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬ينظر‭ ‬إليّ،‭ ‬وأنا‭ ‬أتنقّل‭ ‬بينهم،‭ ‬أترقّب‭ ‬عيونهم،‭ ‬الكلُّ‭ ‬منشغل‭ ‬في‭ ‬لملمة‭ ‬حاجياته،‭ ‬ومقتنياته،‭ ‬هل‭ ‬سيرحلون؟‭! ‬ولكن‭ ‬ماذا‭ ‬عنّي؟‭!‬

ألم‭ ‬أصنعْ‭ ‬لهم‭ ‬أجواء‭ ‬الدُّعابة‭ ‬والمرح‭ ‬يومًا؟‭! ‬ألم‭ ‬أشاركهم‭ ‬أفراحهم‭ ‬وأتراحهم؟‭! ‬ألم‭ ‬أكن‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬عالمهم؟‭!‬

لكن‭ ‬لماذا؟‭! ‬وأيّ‭ ‬ذنب‭ ‬اقترفته؟‭!‬

قال‭ ‬أحدهم‭ ‬وهو‭ ‬ينظر‭ ‬إليّ،‭ ‬ويتبادل‭ ‬نظراته‭ ‬مع‭ ‬الآخرين‭: ‬ماذا‭ ‬عنها؟‭! ‬هل‭ ‬سنأخذها‭ ‬معنا؟‭!‬

أجابه‭ ‬الآخر‭: ‬كلا،‭ ‬سنأخذها‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬المكان‭.‬

هل‭ ‬يتفضلّون‭ ‬عليّ‭ ‬إذًا‭ ‬عندما‭ ‬زجّوا‭ ‬بي‭ ‬إلى‭ ‬هنا؟‭...‬لا‭...‬

يبدو‭ ‬أنّي‭ ‬لا‭ ‬أصلح‭ ‬لشيء‭ ‬الآن،‭ ‬لا‭ ‬أعتقد‭ ‬أنّني‭ ‬من‭ ‬خضراء‭ ‬الدِّمن‭ ‬أو‭ ‬مِمّن‭ ‬يُنكَرُ‭ ‬نَسَبُهم‭.‬

نعم‭ ‬بلغتُ‭ ‬من‭ ‬العُمْرِ‭ ‬عِتِيَّا‭ ‬ومررتُ‭ ‬بما‭ ‬مررتُ‭ ‬به،‭ ‬حتى‭ ‬أدركتُ‭ ‬بأنّي‭ ‬من‭ ‬الخاصّة‭ ‬في‭ ‬أعينهم‭.‬

بادي‭ ‬ذي‭ ‬بَدء‭ ‬أدركتُ‭ ‬تفانيَهم‭ ‬في‭ ‬رعايتي،‭ ‬أحببتهم،‭ ‬وما‭ ‬زلت‭ ‬أتشبث‭ ‬بهم‭ ‬كالطير‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬مغادرة‭ ‬مكمنه،‭ ‬أو‭ ‬كالرّضيع‭ ‬الذي‭ ‬يتوق‭ ‬شوقًا‭ ‬إلى‭ ‬حليب‭ ‬أمّه‭.‬

لحظاتي‭ ‬بقربهم‭ ‬كانت‭ ‬أنسًا،‭ ‬سنواتٌ‭ ‬مضت‭ ‬بحلاوتها‭ ‬ومرارتها،‭ ‬صغيرهم‭ ‬بشّار‭ ‬لطالما‭ ‬أغدَقَ‭ ‬عليّ‭ ‬واحتواني،‭ ‬لا‭ ‬أُنكر‭ ‬بأنّني‭ ‬كنتُ‭ ‬مَحطّ‭ ‬أنظارهم‭ ‬أينما‭ ‬أذرَع،‭ ‬انتهزتُ‭ ‬تلك‭ ‬اللحظات‭ ‬لأبالغ‭ ‬في‭ ‬غُنجي‭ ‬ولفْتِ‭ ‬انتباههم،‭ ‬فيتلّقون‭ ‬ذلك‭ ‬إمّا‭ ‬بالاستحسان‭ ‬أو‭ ‬بشيء‭ ‬من‭ ‬الغضب،‭ ‬فأحتار‭ ‬في‭ ‬أمري‭! ‬

ترعرعتُ‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬العائلة‭ ‬الصّغيرة،‭ ‬المُكوّنة‭ ‬من‭ ‬خمسة،‭ ‬اثنان‭ ‬يبدوان‭ ‬أضخم‭ ‬هيئة‭ ‬من‭ ‬الثلاثة‭ ‬الآخرين‭ ‬الذين‭ ‬منهم‭ ‬بشّار،‭ ‬نور‭ ‬عيني،‭ ‬كنت‭ ‬لا‭ ‬أعي‭ ‬حواراتهم‭ ‬ولا‭ ‬كلماتهم‭ ‬التي‭ ‬تطير‭ ‬أمامي‭ ‬كريشة‭ ‬في‭ ‬مهبّ‭ ‬الرّيح،‭ ‬أحاول‭ ‬الإمساك‭ ‬بها‭ ‬لكنّها‭ ‬تطير‭ ‬وتطير،‭ ‬على‭ ‬الأرجح‭ ‬كنت‭ ‬أتيقّن‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬معانيها‭ ‬عند‭ ‬مراقبتي‭ ‬عيونهم،‭ ‬لكنّه‭ ‬ربي‭ ‬الذي‭ ‬حباني‭ ‬بإدراك‭ ‬ما‭ ‬يدور‭ ‬حولي،‭ ‬إن‭ ‬كانت‭ ‬لغة‭ ‬العيون‭ ‬أو‭ ‬إيماءات‭ ‬اليدين‭.‬

تعلّقتُ‭ ‬ببشّار‭ ‬أيّما‭ ‬تعلّق،‭ ‬لازمتهُ‭ ‬في‭ ‬مأكله،‭ ‬يناديني‭ ‬لونا‭ ..‬لونا‭ ..‬هيّا‭ ..‬هيّا‭ ‬فيومئ‭ ‬لي‭ ‬بيده‭ ‬لأقبل‭ ‬عليه،‭ ‬فتُرفرِف‭ ‬الدّنيا‭ ‬في‭ ‬عينيّ‭ ‬وتتلّون‭ ‬ينابيع‭ ‬فؤادي،‭ ‬بينما‭ ‬الآخرون‭ ‬يرقُبوني‭ ‬عن‭ ‬بعد‭ ‬فيكتفون‭ ‬بمسحة‭ ‬ما‭ ‬على‭ ‬رأسي‭ ‬أو‭ ‬جسدي‭ ‬النديّ‭.‬

عند‭ ‬المساء،‭ ‬وبين‭ ‬دهشة‭ ‬وصمت‭ ‬ومراقبة‭ ‬العيون،‭ ‬أتّخذُ‭ ‬مكاني‭ ‬في‭ ‬سريره‭ ‬وبقربه‭ ‬أغطُّ‭ ‬في‭ ‬سباتي‭ ‬اللذيذ‭. ‬

ذكرى‭ ‬تعود‭ ‬بي‭ ‬إلى‭ ‬سنوات‭ ‬مضت،‭ ‬أظنّها‭ ‬عشرًا‭ ‬أو‭ ‬أكثر،‭ ‬لا‭ ‬أعرف،‭ ‬الليلة‭ ‬الماطرة،‭ ‬الأنوار‭ ‬المتلألئة‭ ‬تارةً‭ ‬والخافتة‭ ‬تارةً‭ ‬أخرى،‭ ‬فزعي‭ ‬من‭ ‬نومي،‭ ‬يقظتي‭ ‬مرتعبة،‭ ‬اقترابي‭ ‬من‭ ‬بشّار‭ ‬لأستنجد‭ ‬به،‭ ‬محاولتي‭ ‬إيقاظه،‭ ‬طبطبتي‭ ‬على‭ ‬يديه‭ ‬وصوتي‭ ‬الخفيض،‭ ‬كم‭ ‬يبدو‭ ‬وسيمًا‭ ‬مطمئنًّا،‭ ‬لم‭ ‬يجبني‭ ‬ولم‭ ‬يفق‭ ‬كعادته،‭ ‬أعدتُ‭ ‬الكَرّة،‭ ‬لم‭ ‬أحظَ‭ ‬بابتسامته‭ ‬الوردية‭ ‬التي‭ ‬اعتدتها،‭ ‬أيقنت‭ ‬بأنّ‭ ‬مكروهًا‭ ‬أصابه،‭ ‬دقّت‭ ‬طبول‭ ‬قلبي،‭ ‬أسرعتُ‭ ‬إلى‭ ‬غرفة‭ ‬أحدهم‭ ‬وأنفاسي‭ ‬تتسارع‭ ‬في‭ ‬علوّ‭ ‬وهبوط،‭ ‬غاب‭ ‬صوتي‭ ‬وأنا‭ ‬أستغيث‭ ‬وأستغيث،‭ ‬الجميع‭ ‬في‭ ‬سباتهم‭ ‬ولا‭ ‬مغيث‭ ‬لمن‭ ‬تنادي،‭ ‬أصبحت‭ ‬أذرَع‭ ‬المكان‭ ‬جيئة‭ ‬وذَهابا،‭ ‬وقد‭ ‬تملّكني‭ ‬اليأس،‭ ‬أمّا‭ ‬بشّار‭ ‬حينها،‭ ‬فقد‭ ‬استعدّ‭ ‬لرحيله‭ ‬الأبدي‭.‬

يا‭ ‬روحًا‭ ‬طاهرة‭ ‬حلّقت‭.. ‬اسْكُني‭ ‬أعالي‭ ‬الفردوس‭ ‬وانهَلي‭ ‬رحيقَك‭ ‬من‭ ‬جنّات‭ ‬عدن

واملَئي‭ ‬كأسَك‭ ‬من‭ ‬فيض‭ ‬الأيّام‭ ... ‬علّه‭ ‬يشفع‭ ‬لكِ‭ ‬ما‭ ‬ولّى‭ ‬من‭ ‬زمان‭.‬

عيونُ‭ ‬الرَّيبة،‭ ‬صُوِّبَتْ‭ ‬في‭ ‬وجهي‭ ‬كالسِّهام‭ ‬الحارقة،‭ ‬وهذا‭ ‬الذي‭ ‬يرتدي‭ ‬الأبيضَ‭ ‬والذي‭ ‬أمسك‭ ‬بيد‭ ‬بشّار‭ ‬وعاينه‭ ‬بوضع‭ ‬أداة‭ ‬ما‭ ‬على‭ ‬صدره،‭ ‬أظنّه‭ ‬المُداوي،‭ ‬تأخّر‭.. ‬أجل‭ ‬تأخّر‭.‬

أمسيتُ‭ ‬لعنةً‭ ‬تُطاردهم،‭ ‬رُغم‭ ‬تفانيَّ‭ ‬في‭ ‬مواساتهم‭ ‬والخنوع‭ ‬إليهم‭.‬

الأشهر‭ ‬تمضي‭ ‬ومقتُهم‭ ‬يزدادُ‭ ‬يومًا‭ ‬بعد‭ ‬آخر،‭ ‬حتّى‭ ‬جاؤوا‭ ‬بي‭ ‬إلى‭ ‬هنا،‭ ‬وها‭ ‬أنا‭ ‬عُدتُ‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬أتيت‭!‬

أتعرفين‭ ‬يا‭ ‬صديقتي‭ ‬لونا،‭ ‬إنهم‭ ‬الآن‭ ‬ينعُمُون‭ ‬بكلّ‭ ‬شيء،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تركوا‭ ‬منزلهم‭ ‬وهاجروا،‭ ‬والآن‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬عادوا،‭ ‬لقد‭ ‬رأيت‭ ‬ورأيت،‭ ‬السيّاراتُ‭ ‬الفارهة‭ ‬رأيتُها‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬منزلهم‭ ‬الذي‭ ‬أضحى‭ ‬قصرًا،‭ ‬لقد‭ ‬أعادوا‭ ‬تشييده،‭ ‬مُحاطًا‭ ‬بالحُرّاس‭!‬

لمحتُ‭ ‬ذلك‭ ‬عندما‭ ‬أقلتنا‭ ‬حافلة‭ ‬المأوى‭ ‬ذاتَ‭ ‬يوم‭ ‬إلى‭ ‬مبنى‭ ‬آخر‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬القصر‭ ‬الذي‭ ‬عشت‭ ‬فيه‭ ‬أجمل‭ ‬سنواتي،‭ ‬لن‭ ‬أتركهم‭ ‬يهنأون‭ ‬ويتنعّمون،‭ ‬وأنا‭ ‬أقضي‭ ‬ما‭ ‬بقي‭ ‬من‭ ‬عمري‭ ‬هنا‭.‬

ما‭ ‬فاعلةٌ‭ ‬بهم‭ ‬يا‭ ‬لونا؟‭!‬

سأتمثّل‭ ‬لهم‭ ‬بكلّ‭ ‬شيء‭ ‬لا‭ ‬يخطر‭ ‬ببالهم،‭ ‬في‭ ‬منامهم،‭ ‬في‭ ‬يقظتهم،‭ ‬وفي‭ ‬أحلامهم،‭ ‬حتّى‭ ‬يُولّوا‭ ‬الأدبار،‭ ‬ويتذكروا‭ ‬مَن‭ ‬هي‭ ‬لونا‭. ‬

ولكن‭ ‬قليلاً‭ ‬من‭ ‬الصَّبر،‭ ‬هيا‭ ‬يا‭ ‬رفاقي‭ ‬القطط‭ ‬كونوا‭ ‬بالقرب‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا