بحقّكِ يا عدالةَ السَّماء... ففي أرضِكِ حقٌّ لا بُدَ أنْ يُؤخذ.
وصهيلُ الليلِ الحزين.... يمتطي جواد اليأس، علّه يثأر
الزائرون وما أكثرهم، ينتقون أصغرَنا سِنًّا وأبهانا قسمات، والحالُ يومًا بعد آخر يزداد جمودًا كقساوة الصُّخور بين الشُّعَبِ المُلتهبة بحرارة آيار، تنتظر أن يتفضّل عليها البحرُ بنداوته.
الشُّهور تمضي والسَّنوات عِجاف، أمّا أنا وأنتِ وممّن على شاكلتنا، لا يرِفُّ لهُنَّ جَفن، ولا بطرَفٍ خفيّ!
صديقتي لونا: لديكِ من الحنكة وما تيّسر من التدبير لتقلبي الموازين، وتحوّلي التراب ذهبًا إن شئتِ.
نعم أعلم.. ولكن ...
في حركة دؤوبة، كانوا قد عقدوا العزم، لا أحد ينظر إليّ، وأنا أتنقّل بينهم، أترقّب عيونهم، الكلُّ منشغل في لملمة حاجياته، ومقتنياته، هل سيرحلون؟! ولكن ماذا عنّي؟!
ألم أصنعْ لهم أجواء الدُّعابة والمرح يومًا؟! ألم أشاركهم أفراحهم وأتراحهم؟! ألم أكن جزءًا من عالمهم؟!
لكن لماذا؟! وأيّ ذنب اقترفته؟!
قال أحدهم وهو ينظر إليّ، ويتبادل نظراته مع الآخرين: ماذا عنها؟! هل سنأخذها معنا؟!
أجابه الآخر: كلا، سنأخذها إلى ذلك المكان.
هل يتفضلّون عليّ إذًا عندما زجّوا بي إلى هنا؟...لا...
يبدو أنّي لا أصلح لشيء الآن، لا أعتقد أنّني من خضراء الدِّمن أو مِمّن يُنكَرُ نَسَبُهم.
نعم بلغتُ من العُمْرِ عِتِيَّا ومررتُ بما مررتُ به، حتى أدركتُ بأنّي من الخاصّة في أعينهم.
بادي ذي بَدء أدركتُ تفانيَهم في رعايتي، أحببتهم، وما زلت أتشبث بهم كالطير الذي لا يستطيع مغادرة مكمنه، أو كالرّضيع الذي يتوق شوقًا إلى حليب أمّه.
لحظاتي بقربهم كانت أنسًا، سنواتٌ مضت بحلاوتها ومرارتها، صغيرهم بشّار لطالما أغدَقَ عليّ واحتواني، لا أُنكر بأنّني كنتُ مَحطّ أنظارهم أينما أذرَع، انتهزتُ تلك اللحظات لأبالغ في غُنجي ولفْتِ انتباههم، فيتلّقون ذلك إمّا بالاستحسان أو بشيء من الغضب، فأحتار في أمري!
ترعرعتُ في تلك العائلة الصّغيرة، المُكوّنة من خمسة، اثنان يبدوان أضخم هيئة من الثلاثة الآخرين الذين منهم بشّار، نور عيني، كنت لا أعي حواراتهم ولا كلماتهم التي تطير أمامي كريشة في مهبّ الرّيح، أحاول الإمساك بها لكنّها تطير وتطير، على الأرجح كنت أتيقّن من بعض معانيها عند مراقبتي عيونهم، لكنّه ربي الذي حباني بإدراك ما يدور حولي، إن كانت لغة العيون أو إيماءات اليدين.
تعلّقتُ ببشّار أيّما تعلّق، لازمتهُ في مأكله، يناديني لونا ..لونا ..هيّا ..هيّا فيومئ لي بيده لأقبل عليه، فتُرفرِف الدّنيا في عينيّ وتتلّون ينابيع فؤادي، بينما الآخرون يرقُبوني عن بعد فيكتفون بمسحة ما على رأسي أو جسدي النديّ.
عند المساء، وبين دهشة وصمت ومراقبة العيون، أتّخذُ مكاني في سريره وبقربه أغطُّ في سباتي اللذيذ.
ذكرى تعود بي إلى سنوات مضت، أظنّها عشرًا أو أكثر، لا أعرف، الليلة الماطرة، الأنوار المتلألئة تارةً والخافتة تارةً أخرى، فزعي من نومي، يقظتي مرتعبة، اقترابي من بشّار لأستنجد به، محاولتي إيقاظه، طبطبتي على يديه وصوتي الخفيض، كم يبدو وسيمًا مطمئنًّا، لم يجبني ولم يفق كعادته، أعدتُ الكَرّة، لم أحظَ بابتسامته الوردية التي اعتدتها، أيقنت بأنّ مكروهًا أصابه، دقّت طبول قلبي، أسرعتُ إلى غرفة أحدهم وأنفاسي تتسارع في علوّ وهبوط، غاب صوتي وأنا أستغيث وأستغيث، الجميع في سباتهم ولا مغيث لمن تنادي، أصبحت أذرَع المكان جيئة وذَهابا، وقد تملّكني اليأس، أمّا بشّار حينها، فقد استعدّ لرحيله الأبدي.
يا روحًا طاهرة حلّقت.. اسْكُني أعالي الفردوس وانهَلي رحيقَك من جنّات عدن
واملَئي كأسَك من فيض الأيّام ... علّه يشفع لكِ ما ولّى من زمان.
عيونُ الرَّيبة، صُوِّبَتْ في وجهي كالسِّهام الحارقة، وهذا الذي يرتدي الأبيضَ والذي أمسك بيد بشّار وعاينه بوضع أداة ما على صدره، أظنّه المُداوي، تأخّر.. أجل تأخّر.
أمسيتُ لعنةً تُطاردهم، رُغم تفانيَّ في مواساتهم والخنوع إليهم.
الأشهر تمضي ومقتُهم يزدادُ يومًا بعد آخر، حتّى جاؤوا بي إلى هنا، وها أنا عُدتُ من حيث أتيت!
أتعرفين يا صديقتي لونا، إنهم الآن ينعُمُون بكلّ شيء، بعد أن تركوا منزلهم وهاجروا، والآن بعد أن عادوا، لقد رأيت ورأيت، السيّاراتُ الفارهة رأيتُها بالقرب من منزلهم الذي أضحى قصرًا، لقد أعادوا تشييده، مُحاطًا بالحُرّاس!
لمحتُ ذلك عندما أقلتنا حافلة المأوى ذاتَ يوم إلى مبنى آخر بالقرب من ذلك القصر الذي عشت فيه أجمل سنواتي، لن أتركهم يهنأون ويتنعّمون، وأنا أقضي ما بقي من عمري هنا.
ما فاعلةٌ بهم يا لونا؟!
سأتمثّل لهم بكلّ شيء لا يخطر ببالهم، في منامهم، في يقظتهم، وفي أحلامهم، حتّى يُولّوا الأدبار، ويتذكروا مَن هي لونا.
ولكن قليلاً من الصَّبر، هيا يا رفاقي القطط كونوا بالقرب.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك