يُمثل الاستخدام الواسع للضوء الاصطناعي، أحد أهم التغيرات البيئية في تاريخ البشرية. والذي أتاح لنا القيام بالعديد من الأنشطة والفعاليات أثناء الليل ولكن كيف يتفاعل التعرض المستمر للضوء الاصطناعي - وخاصةً في الليل - مع برمجة أجسادنا الجينية بمختلف الفئات العمرية. تجيب عن هذا السؤال الدكتورة هدى عمران اخصائي أمراض الوراثة الجزايئية بمركز الدفتر الطبي والتي بدأت قائلة:
تشكلت جيناتنا على مدى آلاف السنين من خلال دورة الليل والنهار، حيث تطورت العديد من هذه الجينات لتتناسب وظائفها الفسيولوجية مع هذا الإيقاع الطبيعي، الاستيقاظ نهارا والنوم ليلا. واليوم، تتعرض أنظمتنا البيولوجية لتأثير وهج الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية والإضاءة الموفرة للطاقة التي تخترق أمسياتنا. فما تأثير ذلك على خلايانا والمادة الوراثية فيها.
إذ أظهرت البحوث العلمية، أن أطوال موجات الضوء الأزرق التي تتراوح بين 460 و480 نانومترا بإمكانها إحداث تغيير كبير في بعض الوظائف المهمة للخلية. ويتباين هذا التغيير بتباين الاستعداد الوراثي للأشخاص ومدة التعرض لها. إذ تُنشّط هذه الموجات من الضوء مستقبلات ضوئية متخصصة في أعيننا تُسمى الخلايا العقدية الشبكية الحساسة للضوء (ipRGCs) وتُرسل إشارات مباشرة إلى النواة فوق التصالبية، وهي المُنظّم الرئيسي للساعة البيولوجية في أدمغتنا. وعندما تصل هذه الإشارات ليلًا، فإنها تُثبط إنتاج الغدة الصنوبرية الميلاتونين، وهو الهرمون الذي يُهيئ أجسامنا للنوم.
يؤدي هذا النشاط إلى نوع من الالتباس الجيني، حيث تتلقى جينات الساعة البيولوجية مثل PER1-3 وCRY1-2 CLOCK وBMAL1 مُدخلات متضاربة حول وقت النهار. فتتراكم عواقب هذا الاضطراب في الساعة البيولوجية في جميع أنحاء أجسامنا، مُؤثرةً على خلايا الجسم المختلفة من إنزيمات الكبد إلى هرمونات النمو وحتى الخلايا المناعية.
إن التبعات الجينية لاختلال الساعة البيولوجية المزمن عميقة. فقد أظهرت دراسات التوائم أن ما يصل إلى 50% من تفضيلاتنا للتوقيت اليومي كوننا أشخاصًا يستيقظون مبكرًا أو لاحقا هي وراثية. ومع ذلك، فإن بيئة الإضاءة الحديثة تتغلب على هذه الاستعدادات الجينية بطرق مختلفة.
كما أظهرت الأبحاث أن العاملين في نوبات الليل – ولسنوات عديدة – يُظهرون أنماطًا متغيرة لمثيلة الحمض النووي وتعطيل آليات إصلاح الحمض النووي، الأمر الذي يرفع من مخاطر اضطرابات المزاج، والتدهور المعرفي والإصابة بالسمنة وداء السكري وأمراض القلب والأوعية الدموية وبعض أنواع السرطان.
كذلك فإن زيادة وقت استخدام الشاشات بين الأطفال والمراهقين يسبب نمط حياة خامل، ما يقلل من مستويات النشاط البدني. وتأخر ساعات النوم خصوصا في فترات الإجازات يؤثر على تناسق عمل الساعة البيولوجية مع الية النمو لديهم، ما قد يؤدي إلى تعرضهم لاضطرابات أيضية ويجعلهم أكثر عرضة للأمراض مع تقدم العمر.
ومع ذلك فإنه يمكننا تقليل هذه المخاطر بتشجيع اتباع نمط حياة صحي وتعريض أنفسنا لأشعة الشمس الصباحية والنوم المبكر، فضلا عن استخدام الاستراتيجيات الوقائية، بما في ذلك النظارات الواقية من الضوء الأزرق، وفلاتر الشاشة، وبيئات الإضاءة المُحسّنة، والالتزام بعادات صحية لاستخدام الشاشة.
وفي الختام فإن العديد من الدراسات تؤكد ان معرفتنا بآلية استجابة اجسامنا وخلايانا للتغيرات البيئية يمكنها أن تسهم في تصميم مدن ذكية وبيئات عمل ومعيشية تتوافق مع طبيعتنا البشرية بدلًا من أن تُعارضها.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك