شهدت الساحة الأدبية في العقود الأخيرة تحولات ملحوظة، لم يكن جلّها نابعًا من تطور طبيعي في الذائقة أو تجديد في الأدوات، بل من ظواهر اجتماعية وسلوكيات انتهازية أبرزها «الشللية». هذه الظاهرة التي تُقصي المبدعين الحقيقيين لحساب أسماء برزت بفضل العلاقات الشخصية لا بسبب القيمة الفنية أو الأدبية لما يقدمونه. فهل أصبح الأدب رهينة شبكات النفوذ؟ وهل أُقصي من يملكون الموهبة الحقيقية لحساب دخلاء لا يملكون من الأدب سوى العنوان، أم هي منازل موحشة لا يمكن للمبدع الحقيقي السكن بداخلها أو الاندماج في مثالبها؟
هذا التحزّب القائم ضمن دوائر ضيقة، حيث يتم تبادل الدعم والترويج بين أفراد المجموعة بناءً على العلاقات الشخصية، لا على جودة العمل الأدبي الرصين، فالتصفيق لبعض لا يعني سلوكاً ادبياً سليماً، في ظل تجاهل المبدعين الحقيقيين حتى في ابسط الأشياء، كصدور كتاب للمبدع الذي لا ينتمي الى شلة المجموعة (مباركته) أو الاحتفاء بجديده.
ومن المؤلم والمحزن، أن آفة الشللية انعكست على كل النوافذ الإبداعية مثل المهرجانات وما يحدث من خلالها كتكريم المبدعين، أو في جوانب التغطيات الإعلامية التي تركز على وجوه دون أخرى.
فيحرم الكثير من المواهب فلا تجد منفذًا للظهور لأنها خارج (الدائرة) مما يقتل لديهم موهبتهم، فيبتعدون عن الأدب والأدباء وينغلقون في واقع مظلم، سببه الشللية المريضة، أو التهميش الممنهج لأصحاب المواقف المستقلة، وممن هم لا يرضخون للمجاملات.
قد يقول آخرون: ان ظاهرة المحاباة والشلليلة ليست وليدة الساعة، اتفق معهم، لكن لا يعني أن السلم آمناً وأن ما هو حاصل مقبول، ويجب مسايرته، إذاً لماذا وجد النقد البناء، اليس لتصحيح مثالب كل مائل.
ظهرت أسماء لا تملك الحد الأدنى من الأدوات الفنية، لكنها تتصدر المشهد بسبب الانتماء للشللية أو النفوذ الاجتماعي والإعلامي.
في ظل هذا السائد المعوج، ما الحل لمجابهة هذه الظاهرة السلبية؟
أرى أن الدور الأكبر يقع على المؤسسات الثقافية التي يجب ان تقف سداً منيعاً ولا تكرس وتشجع مثل هذه الظواهر السلبية، التي لا تفيد الأديب ولا ترفع من شأن الأدب والثقافة.
وأن تكون أمينة ولا تغيب المعايير الموضوعية في تقييم النصوص التي يستحق الاحتفاء بصاحبها واعطائه المكانة التي يستحقها.
وألا نتسيد اللجان التحكيمية بروح شللية كسيطرة بعض الأسماء على لجان التحكيم والنشر، في اقصاء الآخرين بشكل غير مباشر.
وألا نجعل من الأدب والذائقة العامة في الأدب والفن صورة نضعف فيها المبدعين، وتحول النشاط الأدبي أو الثقافي إلى نشاط علاقاتي، يفسد من الإبداع ويؤلم المبدعين.
ولا يجب علينا تضليل القارئ وافراغ الساحة من الأصوات النوعية المتميزة، بل علينا الدفع بها من دون أن نقودها الى الشللية.
وعطفاً على ما أشرت إليه في سياق الحديث، أؤكد أن الشللية في الأدب ليست ظاهرة جديدة، لكنها اليوم أكثر حضورًا وخطورة بسبب هيمنة وسائل التواصل وسرعة انتشار الأسماء الضعيفة التي تدول في فلك دائرة المحاباة.
إن إنقاذ الساحة الأدبية يتطلب من الجميع – كتابًا، ونقادًا، ومؤسسات – العودة إلى معيار الجودة لا العلاقة، وفتح المجال أمام الأصوات الحقيقية التي تحمل ما يُغني الثقافة لا ما يُزين الواجهة ويلغي المبدعين ويركنهم في خانة النسيان.
ومنذ سنوات بعيدة، كان لي الكتابة ضمن هذا السياق، والحديث عن واقع شللية العميان التي هي اليوم وحش قاس ألغى الكثيرين من المبدعين واغفل دورهم الإبداعي، فكان نصيبهم أن برزوا كمبدعين بعيدين عن جغرافية اوطانهم، والسبب احتكار ومغالاة ما تقوم به مؤسساتنا الثقافية والأدبية.
فالقليل، القليل ممن يحظى بالاحتضان ويذكر بين المحافل القائمة كمبدع وهو خارج الدائرة المذكورة، فلا تخرجوننا من منازلنا، فدعونا نراه منازل مفرحة لا منازل موحشة!
a.astrawi@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك