يسلط الروائي العراقي عامر حميو من خلال روايته حبة خردل الصادرة عن دار انسان للنشر والتوزيع والمتكونة من 164 ومن القطع المتوسط الأضواء على معاناة الشباب العراقي وتحديدا في الفترة التي تلت الاحتلال الأمريكي للعراق.
حيث البحث عن الوطن البديل من خلال الهجرة هي الشغل الشاغل لأغلب الشباب.
العنوان هو العتبة النصية الأولى «حبة خردل» والخردل نبات ذو حب صغير جدا ويضرب به المثل لصغر الأشياء.
وفي هذا العنوان اقتباس لأسطورة صينية قديمة، وتتحدث عن سيدة كانت تعيش مع ابنها الوحيد، لكن هذا الابن قد توفي ولم تستسلم المرأة لهذا القدر المحتوم، بل ذهبت الى حكيم القرية كي يساعدها في إعادة ابنها الوحيد الى الحياة، وهنا كانت المفاجأة حينما طلب الحكيم من المرأة أن تجلب حبة خردل، ولكن من بيت تغمره السعادة.
على الفور بدأت المرأة في البحث عن حبة الخردل من بيوت القرية ومن القرى المجاورة لكنها لم تستطع أن تحصل على حبة الخردل من بيت سعيد.
هنا كان الكاتب ماهرا جدا في الربط بين عنوان روايته والأسطورة الصينية، وفي المحصلة النهائية نجد أن البحث عن السعادة هو بمثابة البحث عن الوهم.
خلال قراءة هذه الرواية لا نجد معنى للعنوان الا بعد ان يصل القارئ إلى خاتمة الرواية وهذا يدل على حرص الكاتب على ألا يترك أي ثغرة في روايته.
غلاف الرواية الذي هو أيضا من العتبات النصية ونجد فيه تمازجا بين البحر والشريط السينمائي وفيه إشارة الى حالة الغرق واستذكار أبطال الرواية لحياتهم قبل الهجرة، كما نجد في الغلاف كتابات قديمة في إشارة الى الخلفية الحضارية لأبطال الرواية.
نجد في الغلاف أيضا اقتباسا لمقطع الرواية، حيث يشير الكاتب الى فترة الحرب الطائفية التي عانى منها العراق، والتي كانت سببا في هجرة أبطال روايته، يقول الكاتب: «في مدينة اللطيفية واليوسفية لاحت لهم أبواب دكاكين بعضها مخلوعا والآخر مقبورا من جانبه وبدت شجيرات الآس في الفسحات الأمامية للمطاعم الخارجية يابسة وبعض سيقانها الخضراء تشكو عطشا شديدا»، وهنا عدة إشارات خطيرة منها اقتراب العصابات التكفيرية من العاصمة وهجرة أهالي المناطق الواقعة حول بغداد.
يستعرض الكاتب في بداية هذه الرواية حياة أبطاله كل على حدة، وبعد ان يتحدث عنهم بأسلوب الراوي العليم، يقوم بسرد الأحداث بعد ان يجتمعوا لتتضح شيئا فشيئا ملامح الرواية، حيث يتحدث عن البطل الأول ابن المقاول والظروف التي جعلته يفكر بالهجرة، رغم ان والده من اغنياء المدينة لكن مشكلة البطل الأول لم تكن مادية.
مشكلة البطل الثاني صبار كانت في العوز والحرمان وعدم قدرته على إعالة والده الذي فقد ساقيه في تفجير إرهابي هز مدينتهم.
طاهر هو البطل الثالث وهو خريج كلية اللغات وكان يعمل لفترة من الزمن مترجما مع قوات الاحتلال الأمريكي لكنه ترك العمل بعد تصفية كل المتعاونين مع قوات الاحتلال وبات يعيش في خوف دائم من أن يتم اكتشاف أمره لذلك كانت الهجرة الى الخارج هي الحل الوحيد
في البحر وأثناء غرق قاربهم تذكروا أن كل المآسي التي عاشها في بلدهم هي أرحم من هذه الحالة الصعبة التي يمرون فيها، يقول الكاتب: «ومثل كل إنسان يواجه الموت مر شريط حياتهم الماضية في مخيلتهم سريعا واضحا وغدا قهر أيامهم الماضية عيشا رغيدا لو يقارنوه مع ازمنتهم الحالية» ص 149.
تنتهي الرواية بنهاية مأساوية حيث يموت ثلاثة من الأصدقاء الأربعة في رحلة الهروب عبر البحر ولم ينجو إلا صبار، وهنا يوجه الكاتب رسالة إلى كل من يريد أن يبني مستقبله بعيدا عن وطنه مفادها ان خوض غمار المغامرة لا تستحق أن يضحي الإنسان بنفسه وان الوطن مهما كانت أوضاعه الاقتصادية صعبة فإنه ارحم من البحر الذي ابتلع آلاف المهاجرين، وان تجربة الهروب من الوطن هي تجربة فاشلة وقد تؤدي إلى نهاية مأساوية كما حدث مع أبطال هذه الرواية.
عدة رسائل مررها الكاتب من خلال روايته حيث الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعاني منها أبطال روايته، وعدم معالجة الأمور بالتسرع والتهور فالوطن هو الملاذ الآمن لجميع أبنائه وان رحلة البحث عن السعادة هي رحلة البحث عن الوهم في عالم لا ينصف أبنائه فكيف بالمهاجرين الغرباء.
الزمن في هذه الرواية كان متداخلا وفيه امتدت الأحداث من فترة السبعينات من القرن الماضي إلى وقتنا الحاضر، وهي فترة زمنية طويلة تناول فيها الكاتب تلك الأحداث بخصوصية الفترة الزمنية التي حدثت فيها.
الرواية اجتماعية بامتياز وفيها يسلط الكاتب الأضواء على ما يعانيه المجتمع العراقي في فترة زمنية حرجة من تاريخ العراق الحديث وأعني بها الفترة التي تلت الاحتلال الأمريكي للعراق.
حيث الكل كان يعاني بسبب الفوضى العارمة التي حلت بالبلد بعد ان تم حل الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية بمختلف مسمياتها.
والرواية الاجتماعية هي رواية واقعية وتتحدث عن الفقر وتفشي البطالة وأسبابها وطريقة معالجة الناس لقضايا الدين والشرف والتمييز العرقي والطائفي ويتم من خلال شخوصها طرح مشاكل اجتماعية خطيرة، والغاية من هذا النوع من الروايات للتحذير من الوقوع في المحظور وكذلك تسليط الضوء على العواقب الوخيمة لمشكلات المجتمع ما لم يتم اتخاذ التدابير اللازمة لحل تلك المشاكل.
أخيرا أقول إن أجمل ما في هذه الرواية هو الحوار بين الأبطال
حيث دار الحديث عن الوقت الكافي لتحرير العراق بعد أن احتل داعش أكثر من ثلث مساحة العراق.
أحد الأبطال تحدث عن عدم ترك الألمان لوطنهم بل أسهموا في بناء وطنهم كي يعيدوه إلى سابق عهده وفي هذا إشارة إلى حالة تأنيب الضمير التي انتابت المتحدث حينما قرر ترك بلده الذي كان يعاني من تداعيات الاحتلال
بينما نجد حديث أحدهم عن الحالة السوداوية التي طغت على المشهد مما جعل الهجرة هي الحل الأمثل والوحيد.
وفي نهاية هذه الرواية نجد من كان صادقا أو متوهما في قراره.
يقول مكسيم غوركي: «الورقة التي لم تسقط في فصل الخريف خائنة في عيون أخواتها، وفية في عيون الشجرة ومتمردة في عيون الفصول، فالكل يرى الموقف من زاويته».
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك