العدد : ١٧٢٥٠ - الأحد ١٥ يونيو ٢٠٢٥ م، الموافق ١٩ ذو الحجة ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٢٥٠ - الأحد ١٥ يونيو ٢٠٢٥ م، الموافق ١٩ ذو الحجة ١٤٤٦هـ

الثقافي

حفريات المعرفة ومعولنا المفقود

{ بقلم: د. صلاح الحجاج.

السبت ١٤ يونيو ٢٠٢٥ - 02:00

نقف‭ ‬اليوم‭ ‬كمن‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬يحفر‭ ‬في‭ ‬أرضه‭ ‬ليكشف‭ ‬عن‭ ‬كنوزها،‭ ‬لكنه‭ ‬أضاع‭ ‬المعول‭ ‬منذ‭ ‬زمن‭ ‬طويل‭...  ‬لأننا‭ ‬نخوض‭ ‬حفريات‭ ‬معرفية‭ ‬متأخرة،‭ ‬متعثّرين‭ ‬بأدواتٍ‭ ‬مستوردة‭ ‬غالبا‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬لا‭ ‬تُلائم‭ ‬طبقات‭ ‬وعينا‭ ‬واستجاباتنا‭ ‬الخاصة‭ ‬في‭ ‬قراءة‭ ‬التاريخ،‭ ‬لاسيما‭ ‬نحن‭ ‬اليوم‭ ‬نشهد‭ ‬عالما‭ ‬باتت‭ ‬فيه‭ ‬الأفكار‭ ‬تُسَوق‭ ‬وتُستهلك‭ ‬كما‭ ‬تُستهلك‭ ‬البضائع‭ ‬والسلع،‭ ‬وهنا‭ ‬تقف‭ ‬الذات‭ ‬العربية‭ ‬التائهة‭ ‬والحائرة‭ ‬بين‭ ‬مناهج‭ ‬وافدة‭ ‬لا‭ ‬تفهم‭ ‬لغتها‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬فرضت‭ ‬عليها،‭ ‬وتراث‭ ‬غني‭ ‬ومثقل‭ ‬لا‭ ‬تجد‭ ‬السبيل‭ ‬إلى‭ ‬تحليله‭ ‬وتأويله‭.  ‬

ان‭ (‬حفريات‭ ‬المعرفة‭): ‬ليست‭ ‬مجرّد‭ ‬استعارة‭ ‬بلاغية‭ ‬وجمالية‭ ‬في‭ ‬أصول‭ ‬النقد‭ ‬والبحث،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬منهج‭ ‬فلسفي‭ ‬وفكري‭ ‬ابتكره‭ ‬الفرنسي‭ (‬ميشيل‭ ‬فوكو‭) ‬للبحث‭ ‬في‭ ‬أنساق‭ ‬الفكر‭ ‬المضمر‭ ‬عبر‭ ‬التاريخ،‭ ‬لا‭ ‬بوصفها‭ ‬سلسلة‭ ‬متواصلة‭ ‬ومتداخلة‭ ‬ومتطورة،‭ ‬بل‭ ‬كأنها‭ ‬حقب‭ ‬تاريخية‭ ‬متراكمة‭ ‬ومنفصلة‭ ‬لا‭ ‬يربطها‭ ‬بالضرورة‭ ‬افق‭ ‬زمني‭ ‬أو‭ ‬منطقي‭ ‬ثابت‭ ‬وواضح‭. ‬

‭(‬حفريات‭ ‬المعرفة‭) ‬اذن‭ ‬هي‭ ‬دعوة‭ ‬إلى‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬حقبة‭ ‬تاريخية‭ ‬بوصفها‭ ‬كيانًا‭ ‬قائمًا‭ ‬بذاته،‭ ‬لها‭ ‬شروطها‭ ‬المعرفية‭ ‬الخاصة،‭ ‬ولغتها،‭ ‬وصراعاتها،‭ ‬ومنطقها‭ ‬الداخلي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬ان‭ ‬تتشابه‭ ‬او‭ ‬تكون‭ ‬مستنسخة‭ ‬عن‭ ‬حقبة‭ ‬أخرى‭ ‬حدثت‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬ما‭. ‬لذا‭ ‬من‭ ‬التعسف‭ ‬الربط‭ ‬بين‭ ‬فترات‭ ‬مختلفة‭ ‬من‭ ‬التاريخ،‭ ‬لأنها‭ ‬تكون‭ ‬اشبه‭ ‬بمحاولة‭ ‬لتزييف‭ ‬الوعي،‭ ‬وتحميل‭ ‬الماضي‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يحتمله‭ ‬وتقويله‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يقل‭. ‬

إن‭ ‬الإصرار‭ ‬على‭ ‬قراءة‭ ‬التاريخ‭ ‬بطريقة‭ ‬أفقية،‭ ‬يُنتج‭ ‬فهمًا‭ ‬ساذجًا‭ ‬وملتبسًا‭ ‬للوعي‭ ‬الجمعي،‭ ‬لأنه‭ ‬يجعل‭ ‬جميع‭ ‬التفاصيل‭ ‬كأنها‭ ‬ملونة‭ ‬بلون‭ ‬واحد،‭ ‬وكأنها‭ ‬نُسخ‭ ‬متعاقبة‭ ‬من‭ ‬وعي‭ ‬واحد‭ ‬يتطوّر‭ ‬أو‭ ‬يتراجع‭ ‬يتقدم‭ ‬او‭ ‬يتأخر‭. ‬والحقيقة‭ ‬هنا‭ ‬تكون‭ ‬أكثر‭ ‬تعقيدًا‭ ‬بكثير‭. ‬فاللحظات‭ ‬التاريخية‭ ‬لا‭ ‬تُقاس‭ ‬بالزمن‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬بالبُنى‭ ‬والإنجازات‭ ‬التي‭ ‬أنتجتها؛‭ ‬لان‭ ‬كل‭ ‬مرحلة‭ ‬من‭ ‬مراحل‭ ‬تاريخنا‭ ‬العربي‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬قائمة‭ ‬بخصائصها‭ ‬وبشروطها‭ ‬الخاصة،‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬المجد‭ ‬والازدهار‭ ‬وبين‭ ‬الذلة‭ ‬والانحسار‭ ‬ضمن‭ ‬نظامها‭ ‬الاقتصادي‭ ‬والسياسي‭ ‬والخطابي‭ ‬والسوسيولوجي،‭ ‬لا‭ ‬بوصفها‭ ‬مجرد‭ ‬حلقة‭ ‬في‭ ‬سلسلة،‭ ‬بل‭ ‬سلسة‭ ‬كاملة‭ ‬في‭ ‬حلقة‭. ‬

ان‭ ‬الوعي‭ ‬الزائف‭ ‬بالاتصال‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬الإشكالات‭ ‬التي‭ ‬يعاني‭ ‬منها‭ ‬الفكر‭ ‬العربي‭ ‬المعاصر،‭ ‬تلك‭ ‬السردية‭ ‬المتواصلة‭ ‬التي‭ ‬تُصرّ‭ ‬على‭ ‬تقديم‭ ‬التاريخ‭ ‬كخط‭ ‬مستقيم‭ ‬صاعد‭ ‬أو‭ ‬هابط،‭ ‬وكأن‭ ‬للأمة‭ ‬وعيٌ‭ ‬واحد‭ ‬ممتد‭ ‬ومتصل‭ ‬عبر‭ ‬العصور،‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬القطيعة‭ ‬ولا‭ ‬الانفصال،‭ ‬ففي‭ ‬اغلب‭ ‬المناهج‭ ‬التعليمية،‭ ‬وفي‭ ‬الخطاب‭ ‬السياسي،‭ ‬وفي‭ ‬الذاكرة‭ ‬الجمعية،‭ ‬وغيرها،‭ ‬يُروى‭ ‬التاريخ‭ ‬وكأنه‭ ‬سلسلة‭ ‬ذهبية‭ ‬واحدة،‭ ‬تبدأ‭ ‬من‭ ‬‮«‬العصر‭ ‬الذهبي‮»‬‭ ‬وتمر‭ ‬بزمن‭ ‬‮«‬النكسة‮»‬،‭ ‬ثم‭ ‬تنتهي‭ ‬بوعد‭ ‬‮«‬النهضة‮»‬،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يُسأل‭: ‬أي‭ ‬عصر‭ ‬ذهبي‭ ‬هذا؟‭ ‬أي‭ ‬نكسة‭ ‬تلك؟‭ ‬وأي‭ ‬وعي‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬عاش‭ ‬كل‭ ‬هذا؟‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬السرد‭ ‬ينتج‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬تسميته‭ ‬بـ«الوعي‭ ‬الزائف‭ ‬بالاتصال‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬نتصوّر‭ ‬أن‭ ‬أمتنا‭ ‬خاضت‭ ‬تجربة‭ ‬واحدة‭ ‬متماسكة،‭ ‬لا‭ ‬انقطاعات‭ ‬فيها،‭ ‬ولا‭ ‬تغيّرات‭ ‬في‭ ‬أنظمة‭ ‬المعرفة‭. ‬ولهذا،‭ ‬تأتي‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬حفريات‭ ‬عمودية،‭ ‬تكشف‭ ‬عن‭ ‬القطيعات‭ ‬المعرفية،‭ ‬وتعيد‭ ‬بناء‭ ‬وعينا‭ ‬بالتاريخ‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬أكثر‭ ‬صدقًا،‭ ‬وأقل‭ ‬خضوعًا‭ ‬للرغبة‭ ‬في‭ ‬التجميل‭. ‬

وعندما‭ ‬نتكلم‭ ‬عن‭ ‬ضياع‭ ‬المعول،‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬وضع‭ ‬أسئلة‭ ‬مفادها‭: ‬هل‭ ‬أضعناه‮…‬‭ ‬أم‭ ‬أتم‭ ‬اخفاؤه‭ ‬عنا؟‭  ‬أم‭ ‬تم‭ ‬استبداله‭ ‬بقصص‭ ‬وحكايات‭ ‬تتناقلها‭ ‬الأجيال‭.. ‬فعندما‭ ‬نتأمل‭ ‬حال‭ ‬الفكر‭ ‬العربي،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نتجاهل‭ ‬تلك‭ ‬الفجوة‭ ‬الهائلة‭ ‬الحاصلة‭ ‬بين‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬النقد‭ ‬بزيه‭ ‬العربي‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬وبين‭ ‬غياب‭ ‬الأدوات‭ ‬الخاصة‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭.  ‬ففي‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬اللحظات‭ ‬نُدعى‭ ‬للبحث،‭ ‬للتحليل،‭ ‬للتأويل،‭ ‬للتفكيك،‭ ‬للحفر‭... ‬لكن‭ ‬المعول‭ ‬المناسب‭ ‬مفقودا‭ ‬من‭ ‬أيدينا‭. ‬فهل‭ ‬فقدناه‭ ‬عن‭ ‬جهل؟‭ ‬أم‭ ‬تم‭ ‬انتزاعه‭ ‬منّا‭.‬

إذ‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬المعول‭ ‬فُقد‭ ‬بفعل‭ ‬التواطؤ‭ ‬التاريخي‭ ‬والازلي‭ ‬بين‭ ‬السلطة‭ ‬والمعرفة؛‭ ‬بوصف‭ ‬السلطة‭ ‬تخشى‭ ‬دائما‭ ‬النقد‭ ‬الحقيقي،‭ ‬وتخاف‭ ‬الحفر‭ ‬العميق‭ ‬الذي‭ ‬يكشف‭ ‬الأساسات‭ ‬الهشة،‭ ‬وتُفضّل‭ ‬أن‭ ‬يبقى‭ ‬العقل‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬دائرة‭ ‬الاجترار‭ ‬المغلقة،‭ ‬فلا‭ ‬للتساؤل،‭ ‬ولا‭ ‬للاستنتاج‭ ‬والاستدلال،‭ ‬بعدما‭ ‬استبدال‭ ‬الحفر‭ ‬بالتمجيد،‭ ‬والسؤال‭ ‬بالشعارات،‭ ‬والمعول‭ ‬بالخرافة،‭ ‬والبطولات‭.‬

وفي‭ ‬وجه‭ ‬آخر،‭ ‬نحن‭ ‬أيضًا‭ ‬شركاء‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬الفقد‭. ‬لأننا‭ ‬تعوّدنا‭ ‬على‭ ‬الأجوبة‭ ‬المعلّبة‭ ‬والقوالب‭ ‬الجاهزة،‭ ‬وعلى‭ ‬تكرار‭ ‬مقولات‭ ‬من‭ ‬سبقونا‭ ‬دون‭ ‬مساءلتها‭ ‬ودون‭ ‬الحفر‭ ‬بأعماقها‭. ‬فقد‭ ‬تحوّل‭ ‬المعول‭ ‬من‭ ‬أداة‭ ‬إلى‭ ‬أثر،‭ ‬وربما‭ ‬من‭ ‬وسيلة‭ ‬إلى‭ ‬ذكرى،‭ ‬ان‭ ‬سعينا‭ ‬لاستعادة‭ ‬المعول،‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬فقط‭ ‬أن‭ ‬نمتلك‭ ‬أداة‭ ‬حادة‭ ‬للحفر،‭ ‬بل‭ ‬أعلينا‭ ‬ان‭ ‬نمتلك‭ ‬أولا‭ ‬الشجاعة‭ ‬لاستخدامه‭. ‬والتخلص‭ ‬من‭ ‬فكرة‭ ‬الخوف‭ ‬من‭ ‬الحفر‭ ‬والتفكيك،‭ ‬خشية‭ ‬أن‭ ‬يقود‭ ‬الحفر‭ ‬إلى‭ ‬فقدان‭ ‬الهوية،‭ ‬أو‭ ‬انهيار‭ ‬صورة‭ ‬الذات‭ (‬المرسومة‭) ‬المثالية‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬ينطبق‭ ‬أيضا‭ ‬على‭ ‬المجال‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والسياسي‭ ‬والخوف‭ ‬المستمر‭ ‬من‭ ‬الحفر‭ ‬ومن‭ ‬أدوات‭ ‬النقد‭ ‬الجاد‭ ‬خوفا‭ ‬على‭ ‬مصالحها‭ ‬الشخصية‭. ‬

وفي‭ ‬الختام‭ ‬إن‭ ‬حفريات‭ ‬المعرفة‭ ‬في‭ ‬السياق‭ ‬العربي‭ ‬ما‭ ‬تزال‭ ‬مؤجلة،‭ ‬ومغيبة،‭ ‬لأن‭ ‬أدواتها‭ ‬مغتربة،‭ ‬وأسئلتها‭ ‬معلّقة،‭ ‬وجرأتها‭ ‬منقوصة‭. ‬لكن‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬الحفر‭ ‬تزداد‭ ‬إلحاحًا،‭ ‬لأننا‭ ‬بحاجة‭ ‬لاكتشاف‭ ‬ذاتنا‭ ‬أولا‭ ‬وليس‭ ‬لاستعادة‭ ‬أمجادنا‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا