يجمع الكاتب حسن مدن في كتابه «في مديح الأشياء وذمها» المتناقضات في عدة أمور، متطرقاً إلى المديح والذم والآراء المؤيدة والمتناقضة، وبين ما يسميه البعض بالتعقل والآخر الانجراف وراء القلب. مؤطراً مقالاته بالمشاعر، والحالات، والأزمنة والأمكنة، والثقافة، والقضايا. مقدماً ما يشبه المقابلة بين الثنائيات الضدية، تاركاً للقارئ الحكم النهائي لحسم الجدل في العلاقة بينهما، ما بين اتفاق أو خلاف.
يسطر «مدن» في كتابه مقالات تتطرق إلى الاستدراكات التي تتوخى التبرير، مشيراً إلى أن التفصيل أو مجموعة التفاصيل لا يمكن أن تقرأ أو تفهم إلا في سياق موقعها من اللوحة الشاملة، كنسيان أو تذكر الخلفية التاريخية والاجتماعية في التفاصيل المراد التطرق لها. كما يذكر في مقدمة الكتاب أنه جمع مقالات «في مديح الأشياء وذمها» وأعاد بناء مادة الكتاب بشكل مختلف، ليضمن تناول الشيء ونقيضه في كل مقال، لتخرج لنا المقالات على نسق لا أثر للتنافر فيه، ولا سلطة للصدفة عليه، ومترابطة الحلقات فيها ترابطاً منطقياً وجوهرياً.
نسج الكاتب في باب المشاعر بلغة رشيقة الجدلية الأزلية بين العقل والقلب، منوهاً إلى أهمية ترابطهم والمصالحة بينهم، فعلى القلوب أن تعرف عالم العقل، وعلى العقول أن تتخذ قلباً واعياً لها، ملحقاً بهم تفاوت الإحساس بالزمن وارتباط هذا التفاوت ارتباطاً وثيقاً بإحساسنا بذواتنا، فبين الاستمتاع والضجر، والحزن والفرح، والعزلة والعيش مع الآخرين، تختلف استجابتنا للزمن ما بين ثقل وخفة.
وراهن في باب الحالات على وجود حالات متضادة ومتلازمة في بعض الأحيان، كحاجة الإنسان إلى الكلام والصمت سواء بسواء، حيث تبقى في جعبته حكايا وخفايا لا يسعفه الوقت بأن يرويها لغيره أو لا يرغب هو نفسه براويتها. وبين حالات التذكر والنسيان والعلاقة المعقدة بينهم، فغالباً ما تهزم الذاكرة رغبتنا في النسيان حين نقرر طي صفحة بحلوها ومرها، وتفاجئنا باستحضارها الجانب السعيد من الصفحة وليس المحزن بالضرورة.
ومن المهم ذكره، اختيار «مدن» في باب الحالات التطرق إلى البسيط والمعقد، موضحاً أن كل منجز مهما بدا بسيطاً أو لا نتذكر حجم الجهد المبذول فيه ولا تفاصيله المعقدة التي تشكل منظومته أو مظاهرة المعقدة، ليس بالضرورة مغلقا أو عصيا على الإدراك، ومستحضراً دور بعض المثقفين في تعقيد كل ما هو بسيط عبر إظهار معارفهم بتعقيد المصطلحات المستخدمة في حديثهم ومقالاتهم. مرجحاً بأنه كلما استعصت الفكرة على المثقف مال إلى تعقيد لغتها، منوهاً بأن وصف أسلوب الكاتب بالمعقد أو بالصعب لا يعد بالضرورة على أن الكاتب عميق، ويتناول قضايا معقدة لا يفقهها إلا القليل أو المجتمع المثقف فقط، وينقل مقولة «إرنستو ساباتو»: «الأسلوب هو الإنسان الفرد، الوحيد، طريقته في رؤية الكون والإحساس به، وطريقته في التفكير في الواقع»، موضحاً أن لكل كاتب أسلوبه الخاص والمختلف بحسب الغرض من الكتابة والجمهور المستهدف.
ويتناول الآراء حول فصول السنة في باب أزمنة وأمكنة ما بين مدح وذم، مختزلاً الحديث عن فصول السنة في قول الشاعر الكردي «شيركو بيكس»: «لو أخرجتم من قصائدي الورد.. لمات فصل واحد من فصولي الأربعة.. لو أخرجتم منها الحبيب لمات فصلان.. لو أخرجتم منها الخبز لماتت ثلاثة فصول.. ولو أخرجتم الحرية لماتت فصولي الأربعة دفعة واحدة وأنا في الحال»، متخذاً بذلك للإنسان وللعواطف فصولا، فلعمر الإنسان فصوله حين نقول عن الشبان بأنهم في ربيع العمر، وعمن تقدم بهم العمر إنهم في خريفه، وعن توهج العواطف في ذروة تجليها بأنها ربيع الحب، وفي خريفه في إشارة إلى فتور المشاعر.
ويمنح المنازل في هذا الباب ثراء اجتماعياً وقوة نفسية، تشكل ملامح شخصية الفرد بمواقفها المعقدة والبسيطة، مؤكداً أهمية ارتباط الإنسان بالأماكن التي شكلت جزءاً مهماً من شخصيته، فلو فكر أحدنا أن يحكي سيرة البيوت التي عاش فيها طوال عمره، وما أحاط بها من تفاصيل وذكريات سواء داخلها أو في محيطها، لتفاجأ بأنه قد يكون حكى سيرة حياته كلها أو على الأقل، أجزاء كبيرة منها.
ومن الملاحظ في باب الثقافة تنقله بين المتناقضات المتجلية في زمننا الحاضر، ما بين التفاوت بين حب اقتناء الكتب والقراءة الورقية وبين الاعتماد على القراءة الرقمية. طارحاً أراء مختلفة بين مؤيد ومعارض، مستنتجاً الحاجة إلى التكامل بين أنواع الكتب ما بين ورقي وإلكتروني وسمعي من أجل الوصول إلى فئات مختلفة من القراء. وملحقاً بالباب نفسه الجدال المستمر بين الصحافة والأدب، فثمة من يقيم سدوداً بينهم، إلى درجة يخال المرء فيها أن الصحفي لا يمكنه أن يكون أديباً، أو حتى مهتماً بالأدب. مناقضاً هذا الرأي باستشهاده بالأديب الكولومبي «غابرييل غارسيا ماركيز»، حيث ظل يعد نفسه دوماً صحفياً بالرغم من نيله جائزة نوبل للآداب، وينسب إليه قوله «أعتبر نفسي صحفياً في كتابة الرواية».
ويختم حسن مدن كتابه بجدل فلسفي في باب القضايا عما يكون الزمن نفسه ثابتاً عند نقطة لا يبرحها، فيما نحن الذين نتغير؟ فحركة الزمان المعقدة والتي من الصعب قياسها، أدت إلى ابتكار الإنسان الوحدات الزمنية كالعقد والسنة والشهر، ليواجه حقيقة أن الحياة لا تثبت على حال، ولقياس هذا التحول لا بد من تقطيع الزمن إلى وحدات. ن أ
وفي سياق الزمن والتاريخ يؤكد في جدلية المركز والهامش أهمية تتبع ما وصفه بهامش التاريخ، والتي يعني بها تفاصيل كثيرة يبدو أغلبها ذات طابع إنساني حميم، لكنها لا تقع في بؤرة الأحداث التاريخية الجسام التي غيرت مجرى العالم من حروب وانقلابات وثورات. إنما السعي إلى كشف جوانب إنسانية مغفلة، تساعد معرفتها على إضاءة زوايا مهملة في التاريخ، من شأنها أن تؤكد أن كتابة التاريخ يمكنها الانطلاق من الهامش أو الجزئي بمقدار لا يقل عن انطلاقها من المتن، فالهامش المغفل ربما احتوى تفاصيل قد تؤدي معرفتها إلى إعادة فهمنا للتاريخ.
يقدم حسن مدن في كتابه «في مديح الأشياء وذمها» للقارئ موضوعات وتجارب إنسانية متناولة بمنظور فلسفي، وأفكار ومشاهدات للعديد من المظاهر والقضايا الثقافية والأدبية، ومسلط الضوء على تفاصيل صغيرة من الحياة اليومية لكنها تشكل هوية الإنسان وعلاقته بالعالم، مشكلة دعوة من الكاتب نفسه لإعادة النظر وفهم الذات الإنسانية وتجاربها وعلاقاتها بشكل أعمق.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك