العدد : ١٧٢٣٧ - الاثنين ٠٢ يونيو ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٦ ذو الحجة ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٢٣٧ - الاثنين ٠٢ يونيو ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٦ ذو الحجة ١٤٤٦هـ

الثقافي

سرديات: في إشكاليات السيرة الذاتية

{ بقلم : د. ضياء عبدالله الكعبيّ

السبت ٣١ مايو ٢٠٢٥ - 02:00

تثير‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬الروائيّة‭ ‬التباسًا‭ ‬إشكاليًا‭ ‬أجناسيًا‭ ‬في‭ ‬كونها‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬نوعين‭ ‬سرديين‭ ‬هما‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتيّة‭ ‬والرواية،‭ ‬ولاشكَّ‭ ‬أنَّ‭ ‬لكل‭ ‬واحدٍ‭ ‬من‭ ‬هذين‭ ‬النوعين‭ ‬السرديين‭ ‬خصائصه‭ ‬المائزة‭ ‬التي‭ ‬تجعله‭ ‬يفترقُ‭ ‬عن‭ ‬أنواع‭ ‬الكتابة‭ ‬السردية‭ ‬الأخرى؛‭ ‬ففي‭ ‬حين‭ ‬يشتغل‭ ‬الخطاب‭ ‬الروائيّ‭ ‬على‭ ‬المتخيّل‭ ‬السرديّ‭ ‬في‭ ‬صوغه‭ ‬لرؤى‭ ‬العالم‭ ‬عند‭ ‬كاتب‭ ‬الرواية‭ ‬وفي‭ ‬تشابك‭ ‬المكونات‭ ‬السردية‭ ‬بالاجتماعيّ‭ ‬والسياسيّ‭ ‬والثقافيّ‭ ‬تشتغل‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتيّة‭ ‬على‭ ‬الميثاق‭ ‬السرديّ‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬المطابقة‭ ‬بين‭ ‬الذات‭ ‬الكاتبة‭ ‬والمكتوب‭ ‬وفقاً‭ ‬لعقد‭ ‬سردي‭. ‬وقد‭ ‬عرّف‭ ‬فيليب‭ ‬لوجون‭ ‬Philippe‭ ‬Lejeune‭)) ‬السيرة‭ ‬الذاتيّة‭ ‬بأنَّها‭ ‬‮«‬قصة‭ ‬ارتجاعية‭ ‬نثرية‭ ‬يروي‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬شخص‭ ‬ما‭(‬قصة‭) ‬وجوده‭ ‬الخاص‭ ‬وذلك‭ ‬عندما‭ ‬يؤكّد‭ ‬على‭ ‬حياته‭ ‬الفردية‭ ‬وخاصة‭ ‬على‭ ‬تاريخ‭ ‬شخصيته‮»‬‭. ‬إنَّ‭ ‬هذا‭ ‬التهجين‭ ‬السرديّ‭ ‬يجعل‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتيّة‭ ‬الروائيّة‭ ‬مزيجًا‭ ‬إبداعيًا‭ ‬مؤسِّسًا‭ ‬لكتابة‭ ‬جديدة،‭ ‬وهي‭ ‬كتابة‭ ‬جامعة‭ ‬بين‭ ‬كتابة‭ ‬الذات‭ ‬بذاكرةٍ‭ ‬انتقائية‭ ‬ووفقًا‭ ‬للعبة‭ ‬سردية‭ ‬نصية‭ ‬تخيلية‭ ‬لا‭ ‬تتقيد‭ ‬بالمطابقة‭ ‬المرجعيّة‭ ‬التاريخيّة‭ ‬لكتابة‭ ‬الذات؛‭ ‬ذلك‭ ‬أنَّ‭ ‬كاتبها‭ ‬لم‭ ‬يتعهد‭ ‬بالميثاق‭ ‬السرديّ‭ ‬كما‭ ‬عرّفه‭ ‬فيليب‭ ‬لوجون‭. ‬وفي‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬الروائية‭ ‬‮«‬يمكن‭ ‬إعادة‭ ‬إنتاج‭ ‬الهوية‭ ‬السردية‭ ‬للأفراد‭ ‬بمزيجٍ‭ ‬من‭ ‬خلط‭ ‬الوقائع‭ ‬بالتخيّلات،‭ ‬فلا‭ ‬تتقيدُ‭ ‬الشخصية‭ ‬بشروط‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتيّة‭ ‬التي‭ ‬تقتضي‭ ‬مطابقة‭ ‬مع‭ ‬أحداث‭ ‬التاريخ،‭ ‬ولا‭ ‬تتحللُ‭ ‬منها‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬الأمر‭ ‬في‭ ‬الرواية؛‭ ‬إذ‭ ‬لا‭ ‬ينصُ‭ ‬ميثاق‭ ‬السرد‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬المطابقة،‭ ‬فيدمج‭ ‬الخطاب‭ ‬بين‭ ‬الروائيّ‭ ‬والراوي،‭ ‬فهما‭ ‬مكوِّنان‭ ‬متلازمان‭ ‬لعلامة‭ ‬جديدة‭ ‬هي‭ ‬‮«‬السيرة‭ ‬الروائيّة‮»‬‭. ‬لا‭ ‬يفارق‭ ‬الراوي‭ ‬مرويه‭ ‬ولا‭ ‬يجافيه‭ ‬ولا‭ ‬يتنكر‭ ‬له،‭ ‬إنَّما‭ ‬يتماهى‭ ‬معه‭ ‬ويصوغه‭ ‬ويعيد‭ ‬إنتاجه‭ ‬طبقًا‭ ‬لشروط‭ ‬مختلفة‭ ‬عن‭ ‬شروط‭ ‬الرواية‭ ‬والسيرة،‭ ‬لكنها‭ ‬غير‭ ‬منقطعة‭ ‬عنهما،‭ ‬فتكون‭ ‬الهوية‭ ‬السردية‭ ‬مرنة‭ ‬وغير‭ ‬مقيدة‮»‬‭.‬

وتظل‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬والرواية‭ ‬أكثر‭ ‬التباسًا‭ ‬‮«‬فكثيرًا‭ ‬ما‭ ‬ننظر‭ ‬إلى‭ ‬الرواية‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬من‭ ‬وجوهها‭ ‬جنس‭ ‬سير‭ ‬ذاتيّ‭. ‬وظهرت‭ ‬أجناس‭ ‬وسيطة‭ ‬بين‭ ‬الرواية‭ ‬والسيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬شأن‭ ‬رواية‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬Roman‭ ‬Autobiography‭ ‬والسيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬الروائية‭ ‬والسيرة‭ ‬الذاتيّة‭ ‬ذات‭ ‬الاسم‭ ‬المستعار‭ ‬وهي‭ ‬جميعها‭ ‬توظف‭ ‬أساليب‭ ‬سردية‭ ‬متشابهة‭ ‬سعى‭ ‬منظرو‭ ‬الأدب‭ ‬إلى‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الحدود‭ ‬الفاصلة‭ ‬للتمييز‭ ‬بينها،‭ ‬ويظل‭ ‬ميثاق‭ ‬القراءة‭ ‬المعيار‭ ‬الأساسي‭ ‬للتمييز‭ ‬بين‭ ‬الرواية‭ ‬والسيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬فالميثاق‭ ‬الروائيّ‭ ‬يظهر‭ ‬في‭ ‬لبوس‭ ‬الخيال‭ ‬ويظهر‭ ‬الميثاق‭ ‬السير‭ ‬ذاتي‭ ‬في‭ ‬لبوس‭ ‬الحقيقة‮»‬‭.‬

أوجد‭ ‬جورج‭ ‬ماي‭ ‬سلماً‭ ‬رمزيًا‭ ‬افتراضيًا‭ ‬متدرجًا‭ ‬لنسق‭ ‬العلاقات‭ ‬الجامعة‭ ‬بين‭ ‬الرواية‭ ‬والسيرة‭ ‬الذاتية؛‭ ‬وهو‭ ‬سلم‭ ‬تتدرج‭ ‬فيه‭ ‬الألوان‭ ‬من‭ ‬البنفسجي‭ ‬إلى‭ ‬الأحمر‭. ‬ففي‭ ‬المساحة‭ ‬البنفسجية‭ ‬تقع‭ ‬الروايات‭ ‬التي‭ ‬يكون‭ ‬حضور‭ ‬شخصية‭ ‬عليها‭ ‬بالروايات‭ ‬التاريخية،‭ ‬مثال‭ ‬ذلك‭ ‬‮«‬الفرسان‭ ‬الثلاثة‮»‬‭ ‬و«الحرب‭ ‬والسلم‮»‬‭. ‬وفي‭ ‬المساحة‭ ‬نيلية‭ ‬اللون‭ ‬نجد‭ ‬الروايات‭ ‬السيرية‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬شخصية‭ ‬رئيسية‭ ‬ليست‭ ‬هي‭ ‬شخصية‭ ‬الكاتب‭ ‬مثل‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬أوجيني‭ ‬غرانده‮»‬‭. ‬وفي‭ ‬المساحة‭ ‬الزرقاء‭ ‬تقع‭ ‬روايات‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬المكتوبة‭ ‬بضمير‭ ‬الغائب‭ ‬المتمحورة‭ ‬حول‭ ‬شخصية‭ ‬رئيسة‭ ‬للكاتب‭ ‬تكاد‭ ‬تكون‭ ‬مطابقة‭ ‬له،‭ ‬مثل‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬مدام‭ ‬بوفاري‮»‬‭. ‬وفي‭ ‬المساحة‭ ‬الخضراء‭ ‬تقع‭ ‬رواية‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتيّة‭ ‬المكتوبة‭ ‬بضمير‭ ‬المتكلم،‭ ‬مثل‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬اعترافات‭ ‬فتى‭ ‬العصر‮»‬‭. ‬وفي‭ ‬المساحة‭ ‬الصفراء‭ ‬تقع‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬الروائيّة،‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تنتسب‭ ‬إلى‭ ‬الرواية،‭ ‬إنَّما‭ ‬تنتسب‭ ‬إلى‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬والممزوجة‭ ‬بالمتخيّل‭ ‬السرديّ‭ ‬مثل‭ ‬كتابات‭ ‬‮«‬رستيف‮»‬‭ ‬و«بانيول‮»‬‭ ‬و‮«‬لامارتين‮»‬‭. ‬وفي‭ ‬المساحة‭ ‬البرتقالية‭ ‬تقع‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬التي‭ ‬يستخدم‭ ‬كاتبها‭ ‬اسمًا‭ ‬مستعارًا‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬رباعية‭ ‬نوزيار‮»‬‭ ‬لأناتول‭ ‬فرانس‭. ‬وفي‭ ‬المساحة‭ ‬الحمراء‭ ‬وُضِعَتْ‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬المصرّح‭ ‬بأسماء‭ ‬أصحابها،‭ ‬والمتطابقة‭ ‬مع‭ ‬الواقع‭. ‬

يرجع‭ ‬تيتز‭ ‬رووكي‭ ‬الالتباس‭ ‬الحاصل‭ ‬بين‭ ‬الرواية‭ ‬والسيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬إلى‭ ‬استيعاب‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬للتقنيات‭ ‬السردية‭ ‬الروائيّة،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬كانت‭ ‬صعوبة‭ ‬وضع‭ ‬خط‭ ‬فاصل‭ ‬بين‭ ‬كلا‭ ‬هذين‭ ‬النوعين‭ ‬السرديين‭. ‬فالأيام،‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬تُعد‭ ‬نصًا‭ ‬على‭ ‬درجة‭ ‬عالية‭ ‬من‭ ‬الالتباس،‭ ‬ولذا‭ ‬اختلف‭ ‬النقاد‭ ‬في‭ ‬تصنيفها‭ ‬‮«‬ففي‭ ‬دراسته‭ ‬الرائدة‭ ‬عن‭ ‬تطور‭ ‬الرواية‭ ‬المصرية‭ ‬يصنف‭ ‬عبدالمحسن‭ ‬طه‭ ‬بدر‭ ‬‮«‬الأيام‮»‬‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬رواية‭. ‬وعلى‭ ‬العكس‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬نجد‭ ‬نقادًا‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬عبدالدايم‮»‬‭ ‬يعترضون‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬معتبرين‭ ‬‮«‬الأيام‮»‬‭ ‬سيرة‭ ‬ذاتية‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬سيرة‭ ‬ذاتية‭ ‬فنية‭ ‬في‭ ‬قالب‭ ‬غير‭ ‬عادي،‭ ‬صدام‭ ‬الآراء‭ ‬هذا‭ ‬نفسه‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬المغرب‭ ‬بعد‭ ‬نشر‭ ‬‮«‬في‭ ‬الطفولة»؛‭ ‬فكان‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬النقاد‭ ‬من‭ ‬يعتبره‭ ‬رواية‭ ‬ومن‭ ‬يعتبره‭ ‬سيرة‭ ‬ذاتية‭. ‬ومنذ‭ ‬وقت‭ ‬قريب‭ ‬أشاد‭ ‬بعض‭ ‬النقاد‭ ‬المصريين‭ ‬بـ«الوسية‮»‬‭ ‬كرواية‭ ‬ممتازة،‭ ‬بينما‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يرونها‭ ‬سيرة‭ ‬ذاتية‭ ‬ممتازة،‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬قرأها‭ ‬فريق‭ ‬ثالث‭ ‬كعمل‭ ‬هو‭ ‬مزيج‭ ‬من‭ ‬النوعين‮»‬‭.‬

 

{‭ ‬أستاذة‭ ‬السرديات‭ ‬والنقد‭ ‬الأدبيّ‭ ‬الحديث‭ ‬المشارك‭ ‬

كلية‭ ‬الآداب،‭ ‬جامعة‭ ‬البحرين‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا