تثير السيرة الذاتية الروائيّة التباسًا إشكاليًا أجناسيًا في كونها تجمع بين نوعين سرديين هما السيرة الذاتيّة والرواية، ولاشكَّ أنَّ لكل واحدٍ من هذين النوعين السرديين خصائصه المائزة التي تجعله يفترقُ عن أنواع الكتابة السردية الأخرى؛ ففي حين يشتغل الخطاب الروائيّ على المتخيّل السرديّ في صوغه لرؤى العالم عند كاتب الرواية وفي تشابك المكونات السردية بالاجتماعيّ والسياسيّ والثقافيّ تشتغل السيرة الذاتيّة على الميثاق السرديّ في عملية المطابقة بين الذات الكاتبة والمكتوب وفقاً لعقد سردي. وقد عرّف فيليب لوجون Philippe Lejeune)) السيرة الذاتيّة بأنَّها «قصة ارتجاعية نثرية يروي من خلالها شخص ما(قصة) وجوده الخاص وذلك عندما يؤكّد على حياته الفردية وخاصة على تاريخ شخصيته». إنَّ هذا التهجين السرديّ يجعل السيرة الذاتيّة الروائيّة مزيجًا إبداعيًا مؤسِّسًا لكتابة جديدة، وهي كتابة جامعة بين كتابة الذات بذاكرةٍ انتقائية ووفقًا للعبة سردية نصية تخيلية لا تتقيد بالمطابقة المرجعيّة التاريخيّة لكتابة الذات؛ ذلك أنَّ كاتبها لم يتعهد بالميثاق السرديّ كما عرّفه فيليب لوجون. وفي السيرة الذاتية الروائية «يمكن إعادة إنتاج الهوية السردية للأفراد بمزيجٍ من خلط الوقائع بالتخيّلات، فلا تتقيدُ الشخصية بشروط السيرة الذاتيّة التي تقتضي مطابقة مع أحداث التاريخ، ولا تتحللُ منها كما هو الأمر في الرواية؛ إذ لا ينصُ ميثاق السرد على تلك المطابقة، فيدمج الخطاب بين الروائيّ والراوي، فهما مكوِّنان متلازمان لعلامة جديدة هي «السيرة الروائيّة». لا يفارق الراوي مرويه ولا يجافيه ولا يتنكر له، إنَّما يتماهى معه ويصوغه ويعيد إنتاجه طبقًا لشروط مختلفة عن شروط الرواية والسيرة، لكنها غير منقطعة عنهما، فتكون الهوية السردية مرنة وغير مقيدة».
وتظل العلاقة بين السيرة الذاتية والرواية أكثر التباسًا «فكثيرًا ما ننظر إلى الرواية على أنها في وجه من وجوهها جنس سير ذاتيّ. وظهرت أجناس وسيطة بين الرواية والسيرة الذاتية شأن رواية السيرة الذاتية Roman Autobiography والسيرة الذاتية الروائية والسيرة الذاتيّة ذات الاسم المستعار وهي جميعها توظف أساليب سردية متشابهة سعى منظرو الأدب إلى البحث عن الحدود الفاصلة للتمييز بينها، ويظل ميثاق القراءة المعيار الأساسي للتمييز بين الرواية والسيرة الذاتية فالميثاق الروائيّ يظهر في لبوس الخيال ويظهر الميثاق السير ذاتي في لبوس الحقيقة».
أوجد جورج ماي سلماً رمزيًا افتراضيًا متدرجًا لنسق العلاقات الجامعة بين الرواية والسيرة الذاتية؛ وهو سلم تتدرج فيه الألوان من البنفسجي إلى الأحمر. ففي المساحة البنفسجية تقع الروايات التي يكون حضور شخصية عليها بالروايات التاريخية، مثال ذلك «الفرسان الثلاثة» و«الحرب والسلم». وفي المساحة نيلية اللون نجد الروايات السيرية القائمة على شخصية رئيسية ليست هي شخصية الكاتب مثل رواية «أوجيني غرانده». وفي المساحة الزرقاء تقع روايات السيرة الذاتية المكتوبة بضمير الغائب المتمحورة حول شخصية رئيسة للكاتب تكاد تكون مطابقة له، مثل رواية «مدام بوفاري». وفي المساحة الخضراء تقع رواية السيرة الذاتيّة المكتوبة بضمير المتكلم، مثل رواية «اعترافات فتى العصر». وفي المساحة الصفراء تقع السيرة الذاتية الروائيّة، التي لا تنتسب إلى الرواية، إنَّما تنتسب إلى السيرة الذاتية والممزوجة بالمتخيّل السرديّ مثل كتابات «رستيف» و«بانيول» و«لامارتين». وفي المساحة البرتقالية تقع السيرة الذاتية التي يستخدم كاتبها اسمًا مستعارًا مثل «رباعية نوزيار» لأناتول فرانس. وفي المساحة الحمراء وُضِعَتْ السيرة الذاتية المصرّح بأسماء أصحابها، والمتطابقة مع الواقع.
يرجع تيتز رووكي الالتباس الحاصل بين الرواية والسيرة الذاتية إلى استيعاب السيرة الذاتية للتقنيات السردية الروائيّة، ومن هنا كانت صعوبة وضع خط فاصل بين كلا هذين النوعين السرديين. فالأيام، على سبيل المثال، تُعد نصًا على درجة عالية من الالتباس، ولذا اختلف النقاد في تصنيفها «ففي دراسته الرائدة عن تطور الرواية المصرية يصنف عبدالمحسن طه بدر «الأيام» على أنها رواية. وعلى العكس من ذلك، نجد نقادًا مثل «عبدالدايم» يعترضون فيما بعد معتبرين «الأيام» سيرة ذاتية وإن كانت سيرة ذاتية فنية في قالب غير عادي، صدام الآراء هذا نفسه حدث في المغرب بعد نشر «في الطفولة»؛ فكان هناك من النقاد من يعتبره رواية ومن يعتبره سيرة ذاتية. ومنذ وقت قريب أشاد بعض النقاد المصريين بـ«الوسية» كرواية ممتازة، بينما كان هناك من يرونها سيرة ذاتية ممتازة، وفي الوقت نفسه قرأها فريق ثالث كعمل هو مزيج من النوعين».
{ أستاذة السرديات والنقد الأدبيّ الحديث المشارك
كلية الآداب، جامعة البحرين.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك