العدد : ١٧٤٠٨ - الخميس ٢٠ نوفمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٩ جمادى الاول ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٤٠٨ - الخميس ٢٠ نوفمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٩ جمادى الاول ١٤٤٧هـ

مقالات

الثقة المؤسسية.. من الالتزام الإداري إلى الانتماء المجتمعي

بقلم: عبير محمد دهام

الثلاثاء ٢٧ مايو ٢٠٢٥ - 02:00

شكل‭ ‬المقال‭ ‬السابق‭ ‬محطة‭ ‬مهمة‭ ‬لتسليط‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬موقع‭ ‬الموظف‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬منظومة‭ ‬الحوكمة‭ ‬باعتباره‭ ‬حجر‭ ‬الأساس‭ ‬في‭ ‬تفعيل‭ ‬مبادئها‭ ‬داخل‭ ‬المؤسسة‭. ‬واليوم‭ ‬ننتقل‭ ‬إلى‭ ‬مفهوم‭ ‬أوسع‭ ‬عن‭ ‬الثقة‭ ‬المؤسسية‭ ‬باعتبارها‭ ‬التجسيد‭ ‬العملي‭ ‬للحوكمة‭ ‬والرابط‭ ‬الحيوي‭ ‬بين‭ ‬التزام‭ ‬المؤسسة‭ ‬وثقة‭ ‬المواطن‭.‬

في‭ ‬ظل‭ ‬التحولات‭ ‬الإدارية‭ ‬المتسارعة،‭ ‬يظل‭ ‬مفهوم‭ ‬الثقة‭ ‬المؤسسية‭ ‬حجر‭ ‬الزاوية‭ ‬في‭ ‬استقرار‭ ‬الأنظمة،‭ ‬ومحكاً‭ ‬رئيسياً‭ ‬في‭ ‬علاقة‭ ‬المواطن‭ ‬بالدولة‭. ‬فهذه‭ ‬الثقة‭ ‬لا‭ ‬تولد‭ ‬من‭ ‬فراغ،‭ ‬بل‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬أسس‭ ‬راسخة‭ ‬من‭ ‬الممارسة‭ ‬اليومية‭ ‬التي‭ ‬تترجم‭ ‬القوانين‭ ‬إلى‭ ‬أفعال،‭ ‬والمبادئ‭ ‬إلى‭ ‬أداء‭ ‬ملموس‭. ‬والمؤسسات‭ ‬التي‭ ‬تنجح‭ ‬في‭ ‬كسب‭ ‬ثقة‭ ‬موظفيها‭ ‬ومواطنيها‭ ‬تكون‭ ‬أكثر‭ ‬قدرة‭ ‬على‭ ‬الاستمرار‭ ‬والتطور‭ ‬مهما‭ ‬تبدلت‭ ‬الظروف‭ ‬أو‭ ‬تعاقبت‭ ‬التحديات‭.‬

وحين‭ ‬يشعر‭ ‬المواطن‭ ‬بأن‭ ‬المؤسسات‭ ‬العامة‭ ‬تتعامل‭ ‬معه‭ ‬بعدالة،‭ ‬وتلتزم‭ ‬بالشفافية،‭ ‬وتستجيب‭ ‬لملاحظاته،‭ ‬تنشأ‭ ‬الثقة‭ ‬وتتعمق‭. ‬وهي‭ ‬لا‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬تجربة‭ ‬عابرة‭ ‬أو‭ ‬قرار‭ ‬فردي،‭ ‬بل‭ ‬تتبلور‭ ‬عبر‭ ‬سلوك‭ ‬مؤسسي‭ ‬متكرر‭ ‬يتسم‭ ‬بالإنصاف‭ ‬والوضوح‭. ‬وكلما‭ ‬التزمت‭ ‬الجهات‭ ‬الرسمية‭ ‬بالاتساق‭ ‬في‭ ‬الأداء‭ ‬واعتمدت‭ ‬معايير‭ ‬منصفة‭ ‬للجميع،‭ ‬زادت‭ ‬قدرتها‭ ‬على‭ ‬كسب‭ ‬ثقة‭ ‬المواطن‭ ‬والموظف‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬سواء‭.‬

وقد‭ ‬أكدت‭ ‬في‭ ‬مقال‭ ‬سابق‭ ‬أهمية‭ ‬الشفافية‭ ‬الداخلية،‭ ‬باعتبار‭ ‬أن‭ ‬بناء‭ ‬الثقة‭ ‬لا‭ ‬يحدث‭ ‬بين‭ ‬يوم‭ ‬وليلة،‭ ‬بل‭ ‬يتطلب‭ ‬وقتاً‭ ‬وجهداً‭ ‬مستمرين‭ ‬ينطلقان‭ ‬من‭ ‬داخل‭ ‬المؤسسة‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬ينعكس‭ ‬أثرهما‭ ‬على‭ ‬المجتمع‭ ‬الأوسع‭. ‬ويتسق‭ ‬هذا‭ ‬الطرح‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬توصلت‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬دراستي‭ ‬الأكاديمية‭ ‬‮«‬أثر‭ ‬تطبيق‭ ‬مبادئ‭ ‬الحوكمة‭ ‬في‭ ‬تعزيز‭ ‬الأداء‭ ‬الوظيفي‭ ‬في‭ ‬القطاع‭ ‬الحكومي‭ ‬بمملكة‭ ‬البحرين‮»‬،‭ ‬والتي‭ ‬أظهرت‭ ‬نتائجها‭ ‬أن‭ ‬تعزيز‭ ‬العدالة‭ ‬والشفافية‭ ‬داخل‭ ‬المؤسسة‭ ‬يسهم‭ ‬في‭ ‬رفع‭ ‬مستوى‭ ‬الالتزام‭ ‬الوظيفي،‭ ‬وتحقيق‭ ‬رضا‭ ‬الموظفين،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يؤدي‭ ‬بطبيعة‭ ‬الحال‭ ‬إلى‭ ‬تنمية‭ ‬ثقة‭ ‬المواطن‭ ‬بالمؤسسة‭ ‬العامة‭.‬

وفي‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬شهدت‭ ‬مملكة‭ ‬البحرين‭ ‬في‭ ‬الآونة‭ ‬الأخيرة‭ ‬عدداً‭ ‬من‭ ‬التحركات‭ ‬التنموية‭ ‬الداعمة‭ ‬لهذا‭ ‬التوجه،‭ ‬من‭ ‬أبرزها‭ ‬القرار‭ ‬رقم‭ (‬17‭) ‬لسنة‭ ‬2025‭ ‬بشأن‭ ‬نقل‭ ‬مديري‭ ‬الموارد‭ ‬البشرية‭ ‬والمالية‭ ‬إلى‭ ‬وزارة‭ ‬المالية‭ ‬والاقتصاد‭ ‬الوطني،‭ ‬والقرار‭ ‬رقم‭ (‬31‭) ‬لسنة‭ ‬2025‭ ‬بشأن‭ ‬نقل‭ ‬مديري‭ ‬الموارد‭ ‬البشرية‭ ‬إلى‭ ‬جهاز‭ ‬الخدمة‭ ‬المدنية،‭ ‬والقرار‭ ‬رقم‭ (‬32‭) ‬لسنة‭ ‬2025‭ ‬بشأن‭ ‬نقل‭ ‬مديري‭ ‬الاتصال‭ ‬إلى‭ ‬مركز‭ ‬الاتصال‭ ‬الوطني‭. ‬وتشكل‭ ‬هذه‭ ‬القرارات‭ ‬نقلة‭ ‬نوعية‭ ‬في‭ ‬تعزيز‭ ‬أسس‭ ‬الحياد‭ ‬الوظيفي‭ ‬وتوحيد‭ ‬السياسات،‭ ‬وضمان‭ ‬استقلالية‭ ‬القرار‭ ‬الإداري‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬التمركز‭ ‬المؤسسي‭.‬

لكن‭ ‬نجاح‭ ‬هذه‭ ‬القرارات‭ ‬لا‭ ‬يتحقق‭ ‬بإصدارها‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬بتحويلها‭ ‬إلى‭ ‬سلوك‭ ‬مؤسسي‭ ‬يعكس‭ ‬التزام‭ ‬القيادة‭ ‬العليا‭ ‬ويشكل‭ ‬وعي‭ ‬الموظف‭. ‬فالمؤسسات‭ ‬التي‭ ‬تكتفي‭ ‬بإعادة‭ ‬الهيكلة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬معالجة‭ ‬السلوك‭ ‬الإداري‭ ‬أو‭ ‬تنمية‭ ‬القدرات‭ ‬تفقد‭ ‬فرصة‭ ‬التغيير‭ ‬الحقيقي‭. ‬وهنا‭ ‬تبرز‭ ‬أهمية‭ ‬‮«‬القدوة‭ ‬القيادية‮»‬‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يُعرف‭ ‬بمبدأ‭ (‬Tone‭ ‬at‭ ‬the‭ ‬Top‭)‬،‭ ‬أي‭ ‬تجسيد‭ ‬القيادة‭ ‬العليا‭ ‬لقيم‭ ‬الحوكمة‭ ‬في‭ ‬الممارسة‭ ‬والسلوك‭ ‬اليومي‭. ‬فغياب‭ ‬هذا‭ ‬النموذج‭ ‬يجعل‭ ‬السياسات‭ ‬المتقدمة‭ ‬عرضة‭ ‬للتآكل‭ ‬داخل‭ ‬بيئات‭ ‬العمل‭ ‬التقليدية‭.‬

وفي‭ ‬هذا‭ ‬الإطار،‭ ‬تبرز‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬اعتماد‭ ‬إطار‭ ‬وطني‭ ‬موحد‭ ‬لحوكمة‭ ‬الأداء‭ ‬المؤسسي‭ ‬يُدمج‭ ‬ضمن‭ ‬السياسات‭ ‬العامة‭ ‬للتطوير‭ ‬الإداري‭ ‬ويعزز‭ ‬التنسيق‭ ‬بين‭ ‬الجهات‭ ‬المعنية‭.‬

كما‭ ‬يُقترح‭ ‬اعتماد‭ ‬آلية‭ ‬تقييم‭ ‬مؤسسي‭ ‬مستقلة‭ ‬ضمن‭ ‬الهيكل‭ ‬الحكومي‭ ‬القائم،‭ ‬تتولى‭ ‬متابعة‭ ‬جودة‭ ‬الأداء‭ ‬وتوحيد‭ ‬المؤشرات‭ ‬والمعايير،‭ ‬بما‭ ‬يعزز‭ ‬ثقافة‭ ‬التقييم‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬النتائج،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬إنشاء‭ ‬كيانات‭ ‬تنظيمية‭ ‬جديدة‭ ‬أو‭ ‬تحميل‭ ‬الجهات‭ ‬أعباء‭ ‬مالية‭ ‬إضافية‭.‬

ويأتي‭ ‬هذا‭ ‬التوجه‭ ‬تعزيزاً‭ ‬للجهود‭ ‬الوطنية‭ ‬المستمرة‭ ‬في‭ ‬تطوير‭ ‬منظومة‭ ‬العمل‭ ‬الحكومي،‭ ‬ورفع‭ ‬فاعليتها‭ ‬واستدامة‭ ‬مخرجاتها‭.‬

إن‭ ‬الثقة‭ ‬المؤسسية‭ ‬مسار‭ ‬طويل‭ ‬من‭ ‬الاتساق‭ ‬بين‭ ‬القول‭ ‬والفعل،‭ ‬وبين‭ ‬السياسة‭ ‬والتنفيذ‭. ‬وكلما‭ ‬استطعنا‭ ‬تحويل‭ ‬مبادئ‭ ‬الحوكمة‭ ‬إلى‭ ‬ثقافة‭ ‬مهنية‭ ‬ومجتمعية،‭ ‬اقتربنا‭ ‬من‭ ‬مؤسسات‭ ‬أكثر‭ ‬مصداقية،‭ ‬وأداء‭ ‬أكثر‭ ‬استدامة‭ ‬وشراكة‭ ‬حقيقية‭ ‬بين‭ ‬الدولة‭ ‬والمواطن‭. ‬فالرهان‭ ‬الحقيقي‭ ‬لا‭ ‬يكمن‭ ‬في‭ ‬نصوص‭ ‬الحوكمة‭ ‬وحدها‭.. ‬بل‭ ‬في‭ ‬الوعي‭ ‬الإداري‭ ‬الذي‭ ‬يفعّلها‭ ‬والبيئة‭ ‬المؤسسية‭ ‬التي‭ ‬تتبناها‭ ‬والمجتمع‭ ‬الذي‭ ‬يرى‭ ‬فيها‭ ‬انعكاساً‭ ‬لقيمه‭ ‬وتطلعاته‭.‬

 

مهتمة‭ ‬بالحوكمة‭ ‬وتطوير‭ ‬الأداء‭ ‬المؤسسي

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا