شكل المقال السابق محطة مهمة لتسليط الضوء على موقع الموظف في قلب منظومة الحوكمة باعتباره حجر الأساس في تفعيل مبادئها داخل المؤسسة. واليوم ننتقل إلى مفهوم أوسع عن الثقة المؤسسية باعتبارها التجسيد العملي للحوكمة والرابط الحيوي بين التزام المؤسسة وثقة المواطن.
في ظل التحولات الإدارية المتسارعة، يظل مفهوم الثقة المؤسسية حجر الزاوية في استقرار الأنظمة، ومحكاً رئيسياً في علاقة المواطن بالدولة. فهذه الثقة لا تولد من فراغ، بل تقوم على أسس راسخة من الممارسة اليومية التي تترجم القوانين إلى أفعال، والمبادئ إلى أداء ملموس. والمؤسسات التي تنجح في كسب ثقة موظفيها ومواطنيها تكون أكثر قدرة على الاستمرار والتطور مهما تبدلت الظروف أو تعاقبت التحديات.
وحين يشعر المواطن بأن المؤسسات العامة تتعامل معه بعدالة، وتلتزم بالشفافية، وتستجيب لملاحظاته، تنشأ الثقة وتتعمق. وهي لا تقوم على تجربة عابرة أو قرار فردي، بل تتبلور عبر سلوك مؤسسي متكرر يتسم بالإنصاف والوضوح. وكلما التزمت الجهات الرسمية بالاتساق في الأداء واعتمدت معايير منصفة للجميع، زادت قدرتها على كسب ثقة المواطن والموظف على حد سواء.
وقد أكدت في مقال سابق أهمية الشفافية الداخلية، باعتبار أن بناء الثقة لا يحدث بين يوم وليلة، بل يتطلب وقتاً وجهداً مستمرين ينطلقان من داخل المؤسسة قبل أن ينعكس أثرهما على المجتمع الأوسع. ويتسق هذا الطرح مع ما توصلت إليه في دراستي الأكاديمية «أثر تطبيق مبادئ الحوكمة في تعزيز الأداء الوظيفي في القطاع الحكومي بمملكة البحرين»، والتي أظهرت نتائجها أن تعزيز العدالة والشفافية داخل المؤسسة يسهم في رفع مستوى الالتزام الوظيفي، وتحقيق رضا الموظفين، وهو ما يؤدي بطبيعة الحال إلى تنمية ثقة المواطن بالمؤسسة العامة.
وفي هذا السياق، شهدت مملكة البحرين في الآونة الأخيرة عدداً من التحركات التنموية الداعمة لهذا التوجه، من أبرزها القرار رقم (17) لسنة 2025 بشأن نقل مديري الموارد البشرية والمالية إلى وزارة المالية والاقتصاد الوطني، والقرار رقم (31) لسنة 2025 بشأن نقل مديري الموارد البشرية إلى جهاز الخدمة المدنية، والقرار رقم (32) لسنة 2025 بشأن نقل مديري الاتصال إلى مركز الاتصال الوطني. وتشكل هذه القرارات نقلة نوعية في تعزيز أسس الحياد الوظيفي وتوحيد السياسات، وضمان استقلالية القرار الإداري بعيداً عن التمركز المؤسسي.
لكن نجاح هذه القرارات لا يتحقق بإصدارها فقط، بل بتحويلها إلى سلوك مؤسسي يعكس التزام القيادة العليا ويشكل وعي الموظف. فالمؤسسات التي تكتفي بإعادة الهيكلة من دون معالجة السلوك الإداري أو تنمية القدرات تفقد فرصة التغيير الحقيقي. وهنا تبرز أهمية «القدوة القيادية» أو ما يُعرف بمبدأ (Tone at the Top)، أي تجسيد القيادة العليا لقيم الحوكمة في الممارسة والسلوك اليومي. فغياب هذا النموذج يجعل السياسات المتقدمة عرضة للتآكل داخل بيئات العمل التقليدية.
وفي هذا الإطار، تبرز الحاجة إلى اعتماد إطار وطني موحد لحوكمة الأداء المؤسسي يُدمج ضمن السياسات العامة للتطوير الإداري ويعزز التنسيق بين الجهات المعنية.
كما يُقترح اعتماد آلية تقييم مؤسسي مستقلة ضمن الهيكل الحكومي القائم، تتولى متابعة جودة الأداء وتوحيد المؤشرات والمعايير، بما يعزز ثقافة التقييم القائم على النتائج، من دون الحاجة إلى إنشاء كيانات تنظيمية جديدة أو تحميل الجهات أعباء مالية إضافية.
ويأتي هذا التوجه تعزيزاً للجهود الوطنية المستمرة في تطوير منظومة العمل الحكومي، ورفع فاعليتها واستدامة مخرجاتها.
إن الثقة المؤسسية مسار طويل من الاتساق بين القول والفعل، وبين السياسة والتنفيذ. وكلما استطعنا تحويل مبادئ الحوكمة إلى ثقافة مهنية ومجتمعية، اقتربنا من مؤسسات أكثر مصداقية، وأداء أكثر استدامة وشراكة حقيقية بين الدولة والمواطن. فالرهان الحقيقي لا يكمن في نصوص الحوكمة وحدها.. بل في الوعي الإداري الذي يفعّلها والبيئة المؤسسية التي تتبناها والمجتمع الذي يرى فيها انعكاساً لقيمه وتطلعاته.
مهتمة بالحوكمة وتطوير الأداء المؤسسي

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك