العدد : ١٧٤٠٧ - الأربعاء ١٩ نوفمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٨ جمادى الاول ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٤٠٧ - الأربعاء ١٩ نوفمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٨ جمادى الاول ١٤٤٧هـ

مقالات

ظل الفظاظة

بقلم: عبير محمد دهام

الثلاثاء ١٨ نوفمبر ٢٠٢٥ - 02:00

تمثل‭ ‬السلوكيات‭ ‬اليومية‭ ‬في‭ ‬بيئة‭ ‬العمل‭ ‬أحد‭ ‬أهم‭ ‬العناصر‭ ‬المؤثرة‭ ‬في‭ ‬الأداء‭ ‬المؤسسي‭. ‬فطريقة‭ ‬التعامل‭ ‬ونبرة‭ ‬الحديث‭ ‬وأساليب‭ ‬التواصل‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬تُدرج‭ ‬في‭ ‬التقارير‭ ‬الرسمية،‭ ‬لكنها‭ ‬تشكل‭ ‬المناخ‭ ‬الحقيقي‭ ‬للمكان‭ ‬وترسم‭ ‬حدوده‭ ‬ومستوى‭ ‬الانسجام‭ ‬داخله‭. ‬وبين‭ ‬هذه‭ ‬السلوكيات‭ ‬ما‭ ‬يبدو‭ ‬بسيطاً‭ ‬في‭ ‬لحظته،‭ ‬لكنه‭ ‬يحمل‭ ‬قدرة‭ ‬كبيرة‭ ‬على‭ ‬رفع‭ ‬جودة‭ ‬العمل‭ ‬أو‭ ‬إضعافها‭.‬

ومن‭ ‬أبرز‭ ‬هذه‭ ‬السلوكيات‭ ‬الفظاظة‭ ‬التي‭ ‬تظهر‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬البيئات‭ ‬المهنية‭ ‬كحالات‭ ‬شاذة‭ ‬تُثقل‭ ‬الجو‭ ‬العام‭. ‬ورغم‭ ‬محدوديتها،‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬تكشف‭ ‬خللاً‭ ‬في‭ ‬الوعي‭ ‬وتشوها‭ ‬في‭ ‬فهم‭ ‬الأدوار‭. ‬وعندما‭ ‬يحضر‭ ‬الأسلوب‭ ‬الجارح‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬العمل،‭ ‬تبدأ‭ ‬القرارات‭ ‬في‭ ‬التراجع،‭ ‬وتضعف‭ ‬الروح‭ ‬المهنية،‭ ‬ويتكوّن‭ ‬شرخ‭ ‬نفسي‭ ‬يصعب‭ ‬تجاوزه‭. ‬فالإنسان‭ ‬بطبيعته‭ ‬يستجيب‭ ‬للطف‭ ‬وينفر‭ ‬من‭ ‬القسوة،‭ ‬ولا‭ ‬يملك‭ ‬طاقة‭ ‬للاستمرار‭ ‬في‭ ‬محيط‭ ‬يتقدم‭ ‬فيه‭ ‬الصوت‭ ‬العالي‭ ‬على‭ ‬الاحترام‭.‬

وقد‭ ‬أخبرتني‭ ‬إحدى‭ ‬المتابعات‭ ‬وسمحت‭ ‬بنقل‭ ‬تجربتها‭ ‬أنها‭ ‬تلقت‭ ‬في‭ ‬بدايات‭ ‬عملها‭ ‬كلمة‭ ‬قاسية‭ ‬خلال‭ ‬اجتماع‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬خطأها‭ ‬كان‭ ‬بسيطاً،‭ ‬وبقيت‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬في‭ ‬ذاكرتها‭ ‬حتى‭ ‬اليوم‭. ‬وفي‭ ‬اجتماع‭ ‬آخر‭ ‬سمعت‭ ‬تعليقاً‭ ‬مشابهاً‭ ‬أعاد‭ ‬اليها‭ ‬المشهد‭ ‬القديم‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أنه‭ ‬يتكرر‭ ‬من‭ ‬جديد‭. ‬عندها‭ ‬أدركت‭ ‬معنى‭ ‬‮«‬ظل‭ ‬الفظاظة‮»‬‭ ‬بعمق؛‭ ‬فالكلمة‭ ‬الجارحة‭ ‬لا‭ ‬تنتهي‭ ‬عند‭ ‬لحظتها،‭ ‬وإنما‭ ‬تبقى‭ ‬مرافقة‭ ‬للإنسان‭ ‬كظل‭ ‬ثقيل‭ ‬يعود‭ ‬كلما‭ ‬تشابه‭ ‬الموقف،‭ ‬لأنها‭ ‬تمس‭ ‬كرامته‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تصوب‭ ‬خطأه‭. ‬وتيقنت‭ ‬أيضاً‭ ‬أن‭ ‬الأسلوب‭ ‬القاسي‭ ‬لا‭ ‬يرفع‭ ‬قيمة‭ ‬صاحبه،‭ ‬وإنما‭ ‬يكشف‭ ‬مستوى‭ ‬وعيه‭ ‬في‭ ‬إدارة‭ ‬الموقف‭ ‬وطريقة‭ ‬تعامله‭ ‬مع‭ ‬الآخرين‭.‬

وتؤكد‭ ‬الدراسات‭ ‬الحديثة‭ ‬هذا‭ ‬المفهوم؛‭ ‬فالكلمة‭ ‬الجارحة‭ ‬قد‭ ‬تخفض‭ ‬تركيز‭ ‬الموظف‭ ‬لساعات،‭ ‬وتزيد‭ ‬احتمال‭ ‬الأخطاء،‭ ‬وتضعف‭ ‬دافعية‭ ‬الأداء‭. ‬ومع‭ ‬تكرار‭ ‬هذا‭ ‬السلوك‭ ‬يبدأ‭ ‬التراجع‭ ‬بصمت‭.. ‬تظهر‭ ‬الغيابات،‭ ‬تتزايد‭ ‬الاستقالات،‭ ‬وتفقد‭ ‬بيئة‭ ‬العمل‭ ‬قوتها‭. ‬فالناس‭ ‬لا‭ ‬يتركون‭ ‬وظائفهم،‭ ‬إنما‭ ‬ينسحبون‭ ‬من‭ ‬الأسلوب‭ ‬الذي‭ ‬يطفئ‭ ‬احترامهم‭.‬

ويبدأ‭ ‬هذا‭ ‬التراجع‭ ‬عادة‭ ‬داخل‭ ‬الفريق‭ ‬نفسه؛‭ ‬فالشخص‭ ‬الذي‭ ‬يتعامل‭ ‬بفظاظة‭ ‬‭ ‬أياً‭ ‬كان‭ ‬موقعه‭ ‬‭ ‬يفقد‭ ‬احترام‭ ‬زملائه‭ ‬سريعاً‭. ‬تتقلص‭ ‬الحوارات‭ ‬معه‭ ‬إلى‭ ‬الحد‭ ‬الضروري‭ ‬فقط،‭ ‬وتتراجع‭ ‬الرغبة‭ ‬في‭ ‬التعاون‭ ‬معه،‭ ‬ويصبح‭ ‬وجوده‭ ‬مصدر‭ ‬توتر‭. ‬ومع‭ ‬مرور‭ ‬الوقت‭ ‬تلاحظ‭ ‬الإدارة‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬وتفهم‭ ‬أن‭ ‬المشكلة‭ ‬ليست‭ ‬في‭ ‬الفريق،‭ ‬إنما‭ ‬في‭ ‬طريقة‭ ‬التعامل‭ ‬اليومي‭.‬

ولا‭ ‬يقتصر‭ ‬السلوك‭ ‬الفظ‭ ‬على‭ ‬المسؤولين؛‭ ‬فهناك‭ ‬من‭ ‬يمارسه‭ ‬بأساليب‭ ‬خفية‭ ‬لا‭ ‬تقل‭ ‬ضرراً‭. ‬موظف‭ ‬صغير‭ ‬قد‭ ‬يبدو‭ ‬هادئاً‭ ‬أو‭ ‬مظلوماً،‭ ‬لكنه‭ ‬يسيء‭ ‬من‭ ‬موقعه‭ ‬عبر‭ ‬تحوير‭ ‬الكلام‭ ‬أو‭ ‬نقل‭ ‬معلومة‭ ‬ناقصة‭ ‬أو‭ ‬بناء‭ ‬روايات‭ ‬تربك‭ ‬العلاقات‭ ‬داخل‭ ‬الفريق‭. ‬هذا‭ ‬الأسلوب‭ ‬الهادئ‭ ‬شكلاً،‭ ‬المربك‭ ‬مضموناً،‭ ‬يخلخل‭ ‬الثقة‭ ‬ويشوّه‭ ‬بيئة‭ ‬العمل‭ ‬بطريقة‭ ‬يصعب‭ ‬كشفها‭ ‬بسهولة‭.‬

ومن‭ ‬هنا‭ ‬تبرز‭ ‬‮«‬النقاط‭ ‬العمياء‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تتحدث‭ ‬عنها‭ ‬القيادة‭ ‬الحديثة؛‭ ‬وهي‭ ‬الجوانب‭ ‬السلوكية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يراها‭ ‬القائد‭ ‬أو‭ ‬الموظف‭ ‬في‭ ‬نفسه‭ ‬رغم‭ ‬وضوحها‭ ‬للجميع‭. ‬فمن‭ ‬يرى‭ ‬شدته‭ ‬حزماً‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬قاسياً،‭ ‬ومن‭ ‬يظن‭ ‬صراحته‭ ‬وضوحاً‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬جارحاً،‭ ‬ومن‭ ‬يعيش‭ ‬دور‭ ‬المظلوم‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬أصل‭ ‬الإرباك‭. ‬هذه‭ ‬الجوانب‭ ‬لا‭ ‬تنشأ‭ ‬من‭ ‬سوء‭ ‬نية،‭ ‬وإنما‭ ‬من‭ ‬غياب‭ ‬وعي‭. ‬فكل‭ ‬فرد‭ ‬يعيش‭ ‬داخل‭ ‬صورته‭ ‬عن‭ ‬نفسه،‭ ‬بينما‭ ‬يعيش‭ ‬الآخرون‭ ‬داخل‭ ‬انعكاس‭ ‬هذه‭ ‬الصورة‭.‬

ويأتي‭ ‬هنا‭ ‬دور‭ ‬الذكاء‭ ‬العاطفي؛‭ ‬فهو‭ ‬قدرة‭ ‬الشخص،‭ ‬مسؤولاً‭ ‬كان‭ ‬أو‭ ‬موظفاً،‭ ‬على‭ ‬فهم‭ ‬ذاته‭ ‬وفهم‭ ‬الآخرين‭ ‬وضبط‭ ‬انفعالاته‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬كلمات‭ ‬مؤذية‭. ‬وتشير‭ ‬الدراسات‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬الإخفاقات‭ ‬المهنية‭ ‬تعود‭ ‬في‭ ‬جوهرها‭ ‬إلى‭ ‬ضعف‭ ‬هذه‭ ‬المهارة‭.‬

وفي‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬يبرز‭ ‬التوجيه‭ ‬الرباني‭ ‬العظيم‭:‬

{وَلَوْ‭ ‬كُنْتَ‭ ‬فَظًّا‭ ‬غَلِيظَ‭ ‬الْقَلْبِ‭ ‬لَانْفَضُّوا‭ ‬مِنْ‭ ‬حَوْلِكَ}‭ ‬‭ ‬آل‭ ‬عمران‭ ‬159

وتدل‭ ‬الآية‭ ‬الكريمة‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬القلوب‭ ‬لا‭ ‬تستجيب‭ ‬للقسوة،‭ ‬وأن‭ ‬الناس‭ ‬لا‭ ‬يلتفون‭ ‬حول‭ ‬من‭ ‬يرهقهم‭ ‬بأسلوبه‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬منزلته‭. ‬فاللين‭ ‬جوهر‭ ‬التعامل،‭ ‬والبشر‭ ‬ينفرون‭ ‬من‭ ‬الغلظة‭ ‬وينجذبون‭ ‬إلى‭ ‬الرحمة‭. ‬وهذه‭ ‬قاعدة‭ ‬تمتد‭ ‬لكل‭ ‬بيئة؛‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬البيت،‭ ‬وفي‭ ‬العلاقات‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬الفرق‭ ‬المهنية‭. ‬الرفق‭ ‬يقرب،‭ ‬والفظاظة‭ ‬تبعد،‭ ‬والناس‭ ‬تقترب‭ ‬من‭ ‬الأسلوب‭ ‬الذي‭ ‬يصون‭ ‬كرامتها‭.‬

وتشير‭ ‬الأدبيات‭ ‬الإدارية‭ ‬إلى‭ ‬خطوات‭ ‬عملية‭ ‬تساعد‭ ‬على‭ ‬ضبط‭ ‬السلوك‭ ‬المهني‭: ‬التواضع‭ ‬الحقيقي،‭ ‬مراجعة‭ ‬نبرة‭ ‬الصوت‭ ‬قبل‭ ‬الحديث،‭ ‬تخصيص‭ ‬مساحة‭ ‬هادئة‭ ‬للتوجيه،‭ ‬تجنب‭ ‬الانتقاد‭ ‬أمام‭ ‬الآخرين،‭ ‬تقدير‭ ‬الجهد‭ ‬قبل‭ ‬تصويب‭ ‬الخطأ،‭ ‬والحرص‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬الكلمة‭ ‬داعمة‭ ‬لا‭ ‬محبطة‭. ‬هذه‭ ‬الأساليب‭ ‬تبني‭ ‬الثقة‭ ‬وتعزز‭ ‬بيئة‭ ‬عمل‭ ‬صحية،‭ ‬وتُظهر‭ ‬نضجاً‭ ‬مهنياً‭ ‬يليق‭ ‬بكل‭ ‬من‭ ‬يعمل‭ ‬داخل‭ ‬أي‭ ‬جهة‭.‬

وفي‭ ‬الختام‭ ‬يبقى‭ ‬الأسلوب‭ ‬هو‭ ‬الهوية‭ ‬الحقيقية‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬يعمل‭ ‬داخل‭ ‬أي‭ ‬منظومة‭. ‬فالتعامل‭ ‬الراقي‭ ‬يعكس‭ ‬نضج‭ ‬صاحبه‭ ‬قبل‭ ‬منصبه،‭ ‬ويؤكد‭ ‬أن‭ ‬القوة‭ ‬لا‭ ‬تُبنى‭ ‬بالصوت‭ ‬المرتفع،‭ ‬وإنما‭ ‬بقدرة‭ ‬الإنسان‭ ‬على‭ ‬احترام‭ ‬من‭ ‬حوله‭. ‬ومن‭ ‬يحسن‭ ‬أسلوبه‭ ‬يرفع‭ ‬قيمة‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬ينتمي‭ ‬إليه،‭ ‬ويعزز‭ ‬روح‭ ‬الفريق،‭ ‬ويسهم‭ ‬في‭ ‬بيئة‭ ‬عمل‭ ‬مستقرة‭. ‬أما‭ ‬من‭ ‬يتجاهل‭ ‬طريقة‭ ‬تعامله‭ ‬أو‭ ‬يُهمل‭ ‬وقع‭ ‬كلمته،‭ ‬فيضعف‭ ‬نفسه‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يضعف‭ ‬الآخرين،‭ ‬ويخسر‭ ‬الثقة‭ ‬قبل‭ ‬الموقع‭. ‬فالقيادة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مستوياتها‭ ‬ليست‭ ‬امتلاك‭ ‬سلطة،‭ ‬وإنما‭ ‬امتلاك‭ ‬أسلوب‭ ‬يحفظ‭ ‬الكرامة‭ ‬ويصون‭ ‬الاحترام‭ ‬ويهيئ‭ ‬بيئة‭ ‬تشجع‭ ‬على‭ ‬العمل‭ ‬لا‭ ‬على‭ ‬الهروب‭.‬

 

مهتمة‭ ‬بالحوكمة‭ ‬وتطوير‭ ‬الأداء‭ ‬المؤسسي

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا