تمثل السلوكيات اليومية في بيئة العمل أحد أهم العناصر المؤثرة في الأداء المؤسسي. فطريقة التعامل ونبرة الحديث وأساليب التواصل قد لا تُدرج في التقارير الرسمية، لكنها تشكل المناخ الحقيقي للمكان وترسم حدوده ومستوى الانسجام داخله. وبين هذه السلوكيات ما يبدو بسيطاً في لحظته، لكنه يحمل قدرة كبيرة على رفع جودة العمل أو إضعافها.
ومن أبرز هذه السلوكيات الفظاظة التي تظهر في بعض البيئات المهنية كحالات شاذة تُثقل الجو العام. ورغم محدوديتها، إلا أنها تكشف خللاً في الوعي وتشوها في فهم الأدوار. وعندما يحضر الأسلوب الجارح في مكان العمل، تبدأ القرارات في التراجع، وتضعف الروح المهنية، ويتكوّن شرخ نفسي يصعب تجاوزه. فالإنسان بطبيعته يستجيب للطف وينفر من القسوة، ولا يملك طاقة للاستمرار في محيط يتقدم فيه الصوت العالي على الاحترام.
وقد أخبرتني إحدى المتابعات وسمحت بنقل تجربتها أنها تلقت في بدايات عملها كلمة قاسية خلال اجتماع رغم أن خطأها كان بسيطاً، وبقيت تلك اللحظة في ذاكرتها حتى اليوم. وفي اجتماع آخر سمعت تعليقاً مشابهاً أعاد اليها المشهد القديم كما لو أنه يتكرر من جديد. عندها أدركت معنى «ظل الفظاظة» بعمق؛ فالكلمة الجارحة لا تنتهي عند لحظتها، وإنما تبقى مرافقة للإنسان كظل ثقيل يعود كلما تشابه الموقف، لأنها تمس كرامته قبل أن تصوب خطأه. وتيقنت أيضاً أن الأسلوب القاسي لا يرفع قيمة صاحبه، وإنما يكشف مستوى وعيه في إدارة الموقف وطريقة تعامله مع الآخرين.
وتؤكد الدراسات الحديثة هذا المفهوم؛ فالكلمة الجارحة قد تخفض تركيز الموظف لساعات، وتزيد احتمال الأخطاء، وتضعف دافعية الأداء. ومع تكرار هذا السلوك يبدأ التراجع بصمت.. تظهر الغيابات، تتزايد الاستقالات، وتفقد بيئة العمل قوتها. فالناس لا يتركون وظائفهم، إنما ينسحبون من الأسلوب الذي يطفئ احترامهم.
ويبدأ هذا التراجع عادة داخل الفريق نفسه؛ فالشخص الذي يتعامل بفظاظة – أياً كان موقعه – يفقد احترام زملائه سريعاً. تتقلص الحوارات معه إلى الحد الضروري فقط، وتتراجع الرغبة في التعاون معه، ويصبح وجوده مصدر توتر. ومع مرور الوقت تلاحظ الإدارة هذه الحالة وتفهم أن المشكلة ليست في الفريق، إنما في طريقة التعامل اليومي.
ولا يقتصر السلوك الفظ على المسؤولين؛ فهناك من يمارسه بأساليب خفية لا تقل ضرراً. موظف صغير قد يبدو هادئاً أو مظلوماً، لكنه يسيء من موقعه عبر تحوير الكلام أو نقل معلومة ناقصة أو بناء روايات تربك العلاقات داخل الفريق. هذا الأسلوب الهادئ شكلاً، المربك مضموناً، يخلخل الثقة ويشوّه بيئة العمل بطريقة يصعب كشفها بسهولة.
ومن هنا تبرز «النقاط العمياء» التي تتحدث عنها القيادة الحديثة؛ وهي الجوانب السلوكية التي لا يراها القائد أو الموظف في نفسه رغم وضوحها للجميع. فمن يرى شدته حزماً قد يكون قاسياً، ومن يظن صراحته وضوحاً قد يكون جارحاً، ومن يعيش دور المظلوم قد يكون أصل الإرباك. هذه الجوانب لا تنشأ من سوء نية، وإنما من غياب وعي. فكل فرد يعيش داخل صورته عن نفسه، بينما يعيش الآخرون داخل انعكاس هذه الصورة.
ويأتي هنا دور الذكاء العاطفي؛ فهو قدرة الشخص، مسؤولاً كان أو موظفاً، على فهم ذاته وفهم الآخرين وضبط انفعالاته قبل أن تتحول إلى كلمات مؤذية. وتشير الدراسات إلى أن كثيراً من الإخفاقات المهنية تعود في جوهرها إلى ضعف هذه المهارة.
وفي هذا السياق يبرز التوجيه الرباني العظيم:
{وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} – آل عمران 159
وتدل الآية الكريمة على أن القلوب لا تستجيب للقسوة، وأن الناس لا يلتفون حول من يرهقهم بأسلوبه مهما كانت منزلته. فاللين جوهر التعامل، والبشر ينفرون من الغلظة وينجذبون إلى الرحمة. وهذه قاعدة تمتد لكل بيئة؛ في العمل كما في البيت، وفي العلاقات كما في الفرق المهنية. الرفق يقرب، والفظاظة تبعد، والناس تقترب من الأسلوب الذي يصون كرامتها.
وتشير الأدبيات الإدارية إلى خطوات عملية تساعد على ضبط السلوك المهني: التواضع الحقيقي، مراجعة نبرة الصوت قبل الحديث، تخصيص مساحة هادئة للتوجيه، تجنب الانتقاد أمام الآخرين، تقدير الجهد قبل تصويب الخطأ، والحرص على أن تكون الكلمة داعمة لا محبطة. هذه الأساليب تبني الثقة وتعزز بيئة عمل صحية، وتُظهر نضجاً مهنياً يليق بكل من يعمل داخل أي جهة.
وفي الختام يبقى الأسلوب هو الهوية الحقيقية لكل من يعمل داخل أي منظومة. فالتعامل الراقي يعكس نضج صاحبه قبل منصبه، ويؤكد أن القوة لا تُبنى بالصوت المرتفع، وإنما بقدرة الإنسان على احترام من حوله. ومن يحسن أسلوبه يرفع قيمة المكان الذي ينتمي إليه، ويعزز روح الفريق، ويسهم في بيئة عمل مستقرة. أما من يتجاهل طريقة تعامله أو يُهمل وقع كلمته، فيضعف نفسه قبل أن يضعف الآخرين، ويخسر الثقة قبل الموقع. فالقيادة في كل مستوياتها ليست امتلاك سلطة، وإنما امتلاك أسلوب يحفظ الكرامة ويصون الاحترام ويهيئ بيئة تشجع على العمل لا على الهروب.
مهتمة بالحوكمة وتطوير الأداء المؤسسي

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك