العدد : ١٧٢٢٨ - السبت ٢٤ مايو ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٦ ذو القعدة ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٢٢٨ - السبت ٢٤ مايو ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٦ ذو القعدة ١٤٤٦هـ

الثقافي

ولم لا نضحك؟!
الكوميديا بين نبض الثقافة وإسفاف السخافة

بقلم الدكتور عباس حسن القصاب

السبت ٢٤ مايو ٢٠٢٥ - 02:00

ارتبط‭ ‬المسرح‭ ‬لدى‭ ‬الكثيرين‭ ‬بالكوميديا‭ ‬والفكاهة‭ ‬التي‭ ‬يلجأ‭ ‬إليها‭ ‬المتفرج‭ ‬للتنفيس‭ ‬والترفيه‭ ‬عن‭ ‬النفس‭ ‬للهروب‭ ‬من‭ ‬ضنك‭ ‬العيش‭ ‬وضغط‭ ‬الحياة؛‭ ‬حيث‭ ‬يقضي‭ ‬في‭ ‬المسرحية‭ ‬الكوميدية‭ ‬أيا‭ ‬كانت‭ ‬أوقاتا‭ ‬من‭ ‬الضحك‭ ‬والمرح؛‭ ‬وهو‭ ‬يشاهد‭ ‬الممثلين‭ ‬بحركاتهم‭ ‬وإيماءاتهم‭ ‬وقفشاتهم‭ ‬وأفيهاتهم‭ ‬وما‭ ‬يسمونه‭ ‬اليوم‭ ‬باللقطات‭ ‬التي‭ ‬يتنافس‭ ‬في‭ ‬ابتكارها‭ ‬وتجديدها‭ ‬نجوم‭ ‬الكوميديا‭.‬

لم‭ ‬تكن‭ ‬الكوميديا‭ ‬بدعا‭ ‬من‭ ‬الفنون‭ ‬المسرحية،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬إحدى‭ ‬اثنتين‭ ‬في‭ ‬تصنيف‭ ‬أرسطو‭ ‬للدراما‭ ‬حينما‭ ‬سماها‭ ‬المهاة‭ ‬بجانب‭ ‬التراجيديا،‭ ‬وقد‭ ‬عرضت‭ ‬مسرحيات‭ ‬كوميدية‭ ‬منذ‭ ‬القدم،‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نتجاهل‭ ‬مسرحية‭ ‬الضفادع‭ ‬لأريستوفانيس‭ ‬التي‭ ‬تتمظهر‭ ‬بالكوميديا،‭ ‬ولكنها‭ ‬تبطن‭ ‬النقد‭ ‬اللاذع‭ ‬للوضع‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والسياسي‭ ‬المعيش‭ ‬فيما‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬شكسبير‭ ‬كتب‭ ‬مسرحيات‭ ‬كوميدية‭ ‬كثيرة،‭ ‬وأحبها‭ ‬إلي‭ ‬الليلة‭ ‬الثانية‭ ‬عشرة‭ ‬ويعد‭ ‬البعض‭ ‬مسرحيته‭ ‬الشهيرة‭ ‬تاجر‭ ‬البندقية‭ ‬بالكوميدية،‭ ‬وفيها‭ ‬فعلا‭ ‬الحس‭ ‬الكوميدي‭ ‬واضح،‭ ‬وغير‭ ‬ذلك‭.‬

بينما‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يفضل‭ ‬المسرح‭ ‬النوعي‭ ‬والجاد‭ ‬الذي‭ ‬يطرح‭ ‬قضايا‭ ‬الإنسان‭ ‬والوجود‭ ‬والهدف‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الحياة؛‭ ‬وما‭ ‬يعتري‭ ‬الإنسان‭ ‬من‭ ‬قلق‭ ‬ومخاوف‭ ‬تهدد‭ ‬كينونته‭ ‬البشرية‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬تغول‭ ‬الإنسان‭ ‬المنفعي،‭ ‬وما‭ ‬تفرزه‭ ‬الاتجاهات‭ ‬الحديثة‭ ‬من‭ ‬نظريات‭ ‬فساد‭ ‬وإفساد‭ ‬كالليبرالية‭ ‬الجديدة‭ ‬المتوحشة‭ ‬والإرهاب‭ ‬وغيرها‭.‬

ذلك‭ ‬المسرح‭ ‬الجاد‭ ‬أصبح‭ ‬مع‭ ‬شديد‭ ‬الأسف‭ ‬للنخب‭ ‬المثقفة،‭ ‬والمفكرين‭ ‬أو‭ ‬للمهرجانات‭ ‬المسرحية‭ ‬والمسابقات‭ ‬الفنية‭ ‬بحيث‭ ‬يميل‭ ‬النص‭ ‬إلى‭ ‬الحبكات‭ ‬المعقدة‭ ‬والتكنيكات‭ ‬الإخراجية‭ ‬التجريبية‭ ‬والتمثيل‭ ‬الرمزي،‭ ‬وما‭ ‬يتطلبه‭ ‬من‭ ‬تقنيات‭ ‬فنية؛‭ ‬وسينوغرافيا‭ ‬معبرة‭ ‬تتسق‭ ‬مع‭ ‬عناصر‭ ‬العرض‭ ‬المسرحي‭.‬

المسرح‭ ‬الكوميدي‭ ‬يختلف‭ ‬بلا‭ ‬شك‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬سبق‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬حيثياته‭ ‬الفنية؛‭ ‬فهو‭ ‬يقدم‭ ‬العرض‭ ‬المسرحي‭ ‬المباشر‭ ‬الذي‭ ‬يستهدف‭ ‬الإضحاك؛‭ ‬ومما‭ ‬لا‭ ‬يختلف‭ ‬عليه‭ ‬اثنان‭ ‬بأن‭ ‬الهدف‭ ‬هو‭ ‬الإضحاك‭ ‬واستجداء‭ ‬البسمة‭ ‬من‭ ‬وجوه‭ ‬المتفرجين،‭ ‬ولكن‭ ‬عن‭ ‬أي‭ ‬طريق‭ ‬وحوار‭ ‬وحركة‭ ‬وحكاية‭ ‬وفكرة؟

هنالك‭ ‬الإسفاف‭ ‬والتهريج‭ ‬الممجوج‭ ‬الذي‭ ‬يكون‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الإضحاك‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬هادفية‭ ‬وموضوع‭ ‬إنساني،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬المسرح‭ ‬النوعي‭ ‬أو‭ ‬الجاد‭ ‬أو‭ ‬النخبوي،‭ ‬فنرى‭ ‬الكوميديان‭ ‬ينتقل‭ ‬من‭ ‬مرحلة‭ ‬كونه‭ ‬فنانا‭ ‬مسرحيا‭ ‬ملتزما‭ ‬إلى‭ ‬مهرج‭ ‬يستل‭ ‬الضحكات‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التعليق‭ ‬على‭ ‬ذوي‭ ‬الاحتياجات‭ ‬الخاصة‭ ‬أو‭ ‬ذوي‭ ‬البشرة‭ ‬السمراء‭ ‬أو‭ ‬يتمادى‭ ‬في‭ ‬التطاول‭ ‬على‭ ‬مختلف‭ ‬المكونات‭ ‬المجتمعية‭ ‬أو‭ ‬الشعوب‭ ‬الأخرى‭ ‬في‭ ‬عقائدها‭ ‬وموروثها‭ ‬ولهجتها‭ ‬ومظاهرها‭ ‬الاجتماعية‭.‬

إن‭ ‬الكوميديا‭ ‬الهادفة‭ ‬صعبة‭ ‬جدا‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬أداءها‭ ‬إلا‭ ‬الفنانون‭ ‬والنجوم‭ ‬المتمكنون‭ ‬ذوو‭ ‬الثقافة‭ ‬العالية‭ ‬والاطلاع‭ ‬الواسع،‭ ‬وأذكر‭ ‬بعضا‭ ‬من‭ ‬الفنانين‭ ‬البارعين‭ ‬في‭ ‬أداء‭ ‬المسرح‭ ‬الكوميدي‭ ‬الهادف‭ ‬في‭ ‬العموم‭ ‬وليس‭ ‬في‭ ‬التفاصيل‭ ‬وعلى‭ ‬رأسهم‭ ‬الأستاذ‭ ‬محمد‭ ‬صبحي‭ ‬ودريد‭ ‬لحام‭ ‬وسهير‭ ‬البابلي‭ ‬وعبدالحسين‭ ‬عبدالرضا،‭ ‬ومن‭ ‬الكتاب‭ ‬يمكن‭ ‬بعض‭ ‬مسرحيات‭ ‬سعد‭ ‬الله‭ ‬ونوس‭ ‬وغيرهم‭.‬

في‭ ‬أغلب‭ ‬عروضهم‭ ‬قدموا‭ ‬كوميديا‭ ‬ناقدة‭ ‬للأوضاع‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والسياسية‭ ‬المختلفة‭ ‬بروح‭ ‬من‭ ‬المسؤولية‭ ‬والالتزام‭ ‬الفني‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬إسفاف‭ ‬وقلة‭ ‬أدب‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬تنحو‭ ‬بالمسرح‭ ‬إلى‭ ‬أماكن‭ ‬الانحطاط‭ ‬الأخلاقي‭ ‬والقيمي‭ ‬حينما‭ ‬يتحول‭ ‬إلى‭ ‬حفلة‭ ‬منافسة‭ ‬في‭ ‬أيهما‭ ‬يستطيع‭ ‬السخرية‭ ‬ممن‭ ‬على‭ ‬خشبة‭ ‬المسرح‭ ‬من‭ ‬شخوص‭ ‬لا‭ ‬شخصيات‭ ‬أو‭ ‬الفكرة‭ ‬المطروحة‭.‬

نحن‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬نضحك‭ ‬ونقهقه‭ ‬بأعلى‭ ‬ما‭ ‬نستطيع‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬الكوميديا‭ ‬تكشف‭ ‬واقعا‭ ‬مزيفا‭ ‬ومرا‭ ‬وتعرض‭ ‬مشاكل‭ ‬اجتماعية‭ ‬ملحة‭ ‬بما‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬الضحك‭ ‬المبكي‭ ‬أو‭ ‬كما‭ ‬يقال‭ ‬كوميديا‭ ‬سوداء‭ ‬نفكر‭ ‬في‭ ‬الهدف‭ ‬منها‭ ‬بحيث‭ ‬تتماهى‭ ‬مع‭ ‬قلقنا‭ ‬وهواجسنا؛‭ ‬لا‭ ‬على‭ ‬شخصيات‭ ‬مهرجة‭ ‬وثقيلة‭ ‬دم‭.‬

إن‭ ‬الهدف‭ ‬من‭ ‬الإضحاك‭ ‬في‭ ‬الكوميديا‭ ‬المتزنة‭ ‬والملتزمة‭ ‬هو‭ ‬ترك‭ ‬الأثر‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬المتلقي،‭ ‬والتأثير‭ ‬فيه؛‭ ‬لينفس‭ ‬عما‭ ‬في‭ ‬خاطره‭ ‬من‭ ‬قلق‭ ‬ومخاوف،‭ ‬ومشاكسته‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬عما‭ ‬بين‭ ‬تلك‭ ‬الأفيهات‭ ‬والضحكات،‭ ‬فالكوميديا‭ ‬ليست‭ ‬مجرد‭ ‬دغدغة‭ ‬تنتهي‭ ‬بانتهاء‭ ‬المسرحية،‭ ‬ولكن‭ ‬دغدغة‭ ‬مسؤولة‭ ‬تثير‭ ‬التساؤل،‭ ‬وتبحث‭ ‬عن‭ ‬المغزى،‭ ‬وتحترم‭ ‬المتلقي‭ ‬أولا‭ ‬وأخيرا‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا