ارتبط المسرح لدى الكثيرين بالكوميديا والفكاهة التي يلجأ إليها المتفرج للتنفيس والترفيه عن النفس للهروب من ضنك العيش وضغط الحياة؛ حيث يقضي في المسرحية الكوميدية أيا كانت أوقاتا من الضحك والمرح؛ وهو يشاهد الممثلين بحركاتهم وإيماءاتهم وقفشاتهم وأفيهاتهم وما يسمونه اليوم باللقطات التي يتنافس في ابتكارها وتجديدها نجوم الكوميديا.
لم تكن الكوميديا بدعا من الفنون المسرحية، بل هي إحدى اثنتين في تصنيف أرسطو للدراما حينما سماها المهاة بجانب التراجيديا، وقد عرضت مسرحيات كوميدية منذ القدم، ولا يمكن أن نتجاهل مسرحية الضفادع لأريستوفانيس التي تتمظهر بالكوميديا، ولكنها تبطن النقد اللاذع للوضع الاجتماعي والسياسي المعيش فيما قبل الميلاد، كما أن شكسبير كتب مسرحيات كوميدية كثيرة، وأحبها إلي الليلة الثانية عشرة ويعد البعض مسرحيته الشهيرة تاجر البندقية بالكوميدية، وفيها فعلا الحس الكوميدي واضح، وغير ذلك.
بينما هناك من يفضل المسرح النوعي والجاد الذي يطرح قضايا الإنسان والوجود والهدف من هذه الحياة؛ وما يعتري الإنسان من قلق ومخاوف تهدد كينونته البشرية في ظل تغول الإنسان المنفعي، وما تفرزه الاتجاهات الحديثة من نظريات فساد وإفساد كالليبرالية الجديدة المتوحشة والإرهاب وغيرها.
ذلك المسرح الجاد أصبح مع شديد الأسف للنخب المثقفة، والمفكرين أو للمهرجانات المسرحية والمسابقات الفنية بحيث يميل النص إلى الحبكات المعقدة والتكنيكات الإخراجية التجريبية والتمثيل الرمزي، وما يتطلبه من تقنيات فنية؛ وسينوغرافيا معبرة تتسق مع عناصر العرض المسرحي.
المسرح الكوميدي يختلف بلا شك عن كل ما سبق من جهة حيثياته الفنية؛ فهو يقدم العرض المسرحي المباشر الذي يستهدف الإضحاك؛ ومما لا يختلف عليه اثنان بأن الهدف هو الإضحاك واستجداء البسمة من وجوه المتفرجين، ولكن عن أي طريق وحوار وحركة وحكاية وفكرة؟
هنالك الإسفاف والتهريج الممجوج الذي يكون من أجل الإضحاك من دون هادفية وموضوع إنساني، كما هو في المسرح النوعي أو الجاد أو النخبوي، فنرى الكوميديان ينتقل من مرحلة كونه فنانا مسرحيا ملتزما إلى مهرج يستل الضحكات من خلال التعليق على ذوي الاحتياجات الخاصة أو ذوي البشرة السمراء أو يتمادى في التطاول على مختلف المكونات المجتمعية أو الشعوب الأخرى في عقائدها وموروثها ولهجتها ومظاهرها الاجتماعية.
إن الكوميديا الهادفة صعبة جدا لا يستطيع أداءها إلا الفنانون والنجوم المتمكنون ذوو الثقافة العالية والاطلاع الواسع، وأذكر بعضا من الفنانين البارعين في أداء المسرح الكوميدي الهادف في العموم وليس في التفاصيل وعلى رأسهم الأستاذ محمد صبحي ودريد لحام وسهير البابلي وعبدالحسين عبدالرضا، ومن الكتاب يمكن بعض مسرحيات سعد الله ونوس وغيرهم.
في أغلب عروضهم قدموا كوميديا ناقدة للأوضاع الاجتماعية والسياسية المختلفة بروح من المسؤولية والالتزام الفني من دون إسفاف وقلة أدب حتى لا تنحو بالمسرح إلى أماكن الانحطاط الأخلاقي والقيمي حينما يتحول إلى حفلة منافسة في أيهما يستطيع السخرية ممن على خشبة المسرح من شخوص لا شخصيات أو الفكرة المطروحة.
نحن بحاجة إلى أن نضحك ونقهقه بأعلى ما نستطيع إذا كانت الكوميديا تكشف واقعا مزيفا ومرا وتعرض مشاكل اجتماعية ملحة بما يؤدي إلى الضحك المبكي أو كما يقال كوميديا سوداء نفكر في الهدف منها بحيث تتماهى مع قلقنا وهواجسنا؛ لا على شخصيات مهرجة وثقيلة دم.
إن الهدف من الإضحاك في الكوميديا المتزنة والملتزمة هو ترك الأثر في نفس المتلقي، والتأثير فيه؛ لينفس عما في خاطره من قلق ومخاوف، ومشاكسته في البحث عما بين تلك الأفيهات والضحكات، فالكوميديا ليست مجرد دغدغة تنتهي بانتهاء المسرحية، ولكن دغدغة مسؤولة تثير التساؤل، وتبحث عن المغزى، وتحترم المتلقي أولا وأخيرا.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك