في سلسلة مقالاتي حول الحوكمة، تناولت هذا المفهوم بوصفه أداة تحولية تتجاوز الإطار النظري لتلامس جوهر العمل الحكومي. تحدثت في المقال الأول عن الحوكمة كجسر نحو استدامة الأداء وجودته، وفي الثاني عن أهمية تحويل المبادئ إلى سلوك مؤسسي يُمارس. وفي هذا المقال، أتوقف عند المحرك الفعلي لهذا التحول «الموظف الحكومي».
ليست الأنظمة وحدها كافية.. فكل إصلاح مؤسسي، وكل برنامج طموح، يستند في تطبيقه إلى وعي الموظف والتزامه. فهو من يمنح النصوص معناها، ويترجم المبادئ إلى ممارسات. وقد أرست مملكة البحرين إطاراً متقدماً للحوكمة من خلال قرار رئيس مجلس الوزراء رقم (13) لسنة 2013 بشأن اعتماد دليل حوكمة المؤسسات الحكومية، وما تبعه من أدلة إرشادية أعدتها مختلف الوزارات لترسيخ مبادئ الشفافية والمساءلة وتعزيز كفاءة الأداء المؤسسي.
لكن السؤال الجوهري يبقى: هل تتحقق كفاءة الإنفاق واستدامة الأداء من دون موظف واعٍ بدوره، مستشعر لمسؤوليته؟
التحول الحقيقي يبدأ من إدراك الموظف أن سلوكه المهني ليس تفصيلاً، بل هو ما يصنع فارق الأداء في مؤسسته. لم يعد دوره يقتصر على تنفيذ التعليمات، بل أصبح شريكاً في صياغة الأداء المؤسسي وصناعة نتائجه.. الموظف الحوكمي هو من يبادر، ويفكر، ويقترح، ويلتزم طوعاً بمبادئ الشفافية والمساءلة مما يعزز الثقة داخل المؤسسة وخارجها ويرفع من جودة الأداء.
كفاءة الإنفاق تبدأ من موقع الموظف ذاته في كل وثيقة ينجزها، وكل دقيقة عمل، وكل قرار صغير يتخذه. فترشيد الموارد، وتقصير الإجراءات، وتفادي الهدر، لا تتحقق إلا عندما يدرك الموظف أنه مسؤول عن المال العام، وأن إدارته الفاعلة لهذا المال تعدّ شكلاً من أشكال الولاء المؤسسي.
وتبرز أمثلة تطبيقية لهذا الدور في عدد من الجهات الحكومية التي تبنت نهج الحوكمة كإطار ناظم للأداء المؤسسي.. ففي وزارة شؤون مجلسي الشورى والنواب، يشير دليل الحوكمة إلى أهمية ربط تقييم الأداء المؤسسي بالأهداف الوطنية، بما يجعل من الموظف عنصراً محورياً في ضمان الكفاءة وترشيد الأداء، عبر دوره في التنسيق بين السلطتين التنفيذية والتشريعية.
أما في مجلس المناقصات والمزايدات فتُعدّ نزاهة الموظف وشفافيته والتزامه بالمعايير المهنية حجر الزاوية في صون المال العام وتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص، وهو ما يشكل أساساً لترسيخ العدالة في إجراءات الطرح والترسية.
وفي وزارة الصناعة والتجارة، يبرز الموظف كفاعل رئيسي في إدارة الأداء المؤسسي وتحقيق مستهدفات رؤية البحرين الاقتصادية 2030، من خلال تطوير قواعد البيانات، وتحليل المؤشرات، وتقديم التغذية الراجعة التي تدعم القرار القائم على المعرفة.
وتدعم هذا التوجه مدونة قواعد السلوك الوظيفي وأخلاقيات الوظيفة العامة، الصادرة بموجب تعليمات الخدمة المدنية رقم (16) لسنة 2016، والتي تشكل إطاراً مهنياً ملزماً لسلوك الموظف، في الحفاظ على المال العام، وتقديم الخدمة بكفاءة ونزاهة، والالتزام بالقوانين، وتجنب تضارب المصالح.
ولعل بناء الموظف الحوكمي لا يتحقق عشوائياً، بل يتطلب استراتيجية مؤسسية متكاملة، تشمل التدريب التخصصي المستمر على مفاهيم الحوكمة، وربط تقييم الأداء بالسلوكيات المهنية، وتحفيز النماذج المتميزة، وتمكين الموظف من المساهمة في تطوير الإجراءات عبر قنوات الاقتراح وورش العمل. وتكتمل المنظومة بقيادة تمارس الحوكمة فعلاً لا قولاً، وتكون قدوة في الالتزام والانضباط.
أما المستقبل، فلا مكان فيه لثقافة «ساعات الدوام» بل لمفهوم «أثر العمل». لم يعد الانضباط يقاس بعدد ساعات الحضور والانصراف، بل بما يُحدثه الموظف من قيمة مضافة في بيئة عمله. إنه عصر النتائج، حيث تقدر المؤسسات بما تحققه من مخرجات، لا بما تستنزفه من وقت. وتُقيم الكوادر بما تُنجزه، لا بما تلتزم به شكلياً.
من هنا تتجذر الرقابة الذاتية، ويتبلور الوعي المهني المسؤول. فالمؤسسات الرائدة هي التي تنقل موظفيها من ثقافة الامتثال إلى ثقافة المبادرة، ومن التقييم على الحضور إلى التقييم على التأثير، لتصنع بيئة عمل تتنفس إنتاجاً وتزدهر بالثقة.
إن ما أطرحه هنا يستند إلى دراسة أكاديمية معمقة أعددتها بعنوان: «أثر تطبيق مبادئ الحوكمة في تعزيز الأداء الوظيفي في مملكة البحرين»، والتي تعد من أوائل الجهود البحثية الوطنية التي تناولت العلاقة بين المبادئ المؤسسية وسلوك الموظف الحكومي. وقد استندت إلى منهجية ميدانية شملت استبانات وتحليل بيانات من واقع عدد من الوزارات، وأظهرت وجود علاقة طردية إيجابية بين وعي الموظف بمبادئ الحوكمة، كالشفافية والمساءلة والعدالة، وبين تحسن الأداء الوظيفي وجودة الإنجاز وكفاءة استخدام الموارد.
لم تكشف الدراسة عن غياب الكفاءة، بل عن حاجة ملحة إلى التمكين المعرفي والمهني.. الموظف لا يحتاج فقط إلى أن يُوجّه، بل أن يُحفّز، ويُشرك، ويُمنح مساحة للمبادرة.. فالتحول لا يتم بتغيير الأشخاص، بل بالاستثمار في وعيهم وتعزيز شعورهم بالمسؤولية والانتماء.
لدينا في البحرين أسس قوية وقرارات متقدمة. وما نحتاج إليه هو أن نُحيي هذه النصوص بروح الموظف، وأن نمنحها نبضاً من واقع العمل اليومي. فالنجاح المؤسسي لا يُبنى على اللوائح وحدها، بل على وعي الأفراد والتزامهم.
الموظف ليس مجرد رقم وظيفي. إنه رأس مال بشري، وركيزة للاستدامة، ومحرك رئيسي في رحلة كفاءة الإنفاق وجودة الأداء.
وفي المقال المقبل، سأتناول: «الثقة المؤسسية: الحوكمة كإطار لتعزيز العلاقة بين المواطن والدولة»، مسلطة الضوء على سبل ترسيخ الثقة المتبادلة من خلال الشفافية والمساءلة والمشاركة الفاعلة في القرار.
{ مهتمة بالحوكمة وتطوير الأداء المؤسسي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك