مهما تزايدَت سُبُل الإمتاعِ والمعرفة، وبزغَ منها الجديدُ تلو الجديد، يظل الكتاب مُتربعًا بهيبته السَّاحرة على عرش مَنابِع المعرفة ومناهل اللذة الروحية، وبكونِهِ الإمبراطور الذي لا تخيب آمال المُخلصينَ في صداقته، ومن ألمع نجوم القراءة المعروفين على السَّاحة العربيَّة القارئ النّهِم «حسين سعدون الحيدري»، الذي اختطفهُ سحرُ القراءة وصنَع منهُ ظاهرةً فريدة في عالم النجومية الثقافيَّة لأنهُ «قارئ» استثنائي قبل أن يكون كاتبًا، لذا اختارت هيئة البحرين للثقافة والآثار بالتعاون مع جمعية «كلنا نقرأ» أن يكون ضيفها والفرصة التي تُقدمها لعُشَّاق القراءة والكُتُب احتفاء باليوم العالمي للكتاب وحقوق المؤلّف، وبمناسبة انطلاقة مُبادرة «كتاب ومكان» في نسختها الثالثة.
تحت سماءٍ مُرصعةٍ بنجومٍ ترنو نحو قلعة البحرين بإجلال؛ استُهلَّت أُمسية مُناقشة كتاب «خفايا القراءة» مع الكاتب «حسين سعدون» بكلمة رئيس جمعية «كلنا نقرأ» الأستاذة «أمينة الرويعي» التي أشارت فيها إلى أهمية دور القراءة في حياة الفرد والمُجتمع قائلة: «القراءة ليست مَهربًا من الواقع؛ بل وسيلة راقية لمواجهته وفهمه والتصالُح معه والحلم فيه ومن أجله. إن القراءة هي النُّور في عتمة الجهل، والصوت الهادئ الذي يبقى في زمنٍ يعجُّ بالضجيج، نحن نقرأ لنتغير، ولأن التغيير يبدأ بحرف ويكبر بفكرة ويُثمر بحضارة»، أمَّا مُستشار الشؤون الثقافيَّة بهيئة البحرين للثقافة والآثار الأستاذة «عائشة السادة» فقد وجهَّت حديثها الذي اتسم بالعفوية وأناقة التعبير في الوقت ذاته نحو المُنصتين قائلة: «كل مرة ننتقل في إحدى جلسات هذه المُبادرة من موقع ثقافي أو تُراثي أو آثاري إلى آخَر في مملكة البحرين لربط الشباب بتاريخهم العريق وتعزيز هويتهم الثقافية، اليوم نحن في موقع قلعة البحرين بَوَّابة حضارة دِلمون منذ آلاف السنين، بوابة التبادل الاقتصادي والتجاري والإنساني والمعرفي والتواصُل مع حضارة بلاد الرافدين.. واليوم بعد آلاف السنين نلتقي هنا في مملكة البحرين بضيفنا من جمهورية العراق، تجمعنا الكلمة والفكرة والمعرفة والتواصل الإنساني.. وسط الأزمات الكبيرة في العالم الذي نعيشه يبقى الأدب والفكر والتواصل الإنساني من أهم أهداف الثقافة. نحن في عالمٍ سريع التغيُّر بفضل ثورة التكنولوجيا لكن ثمة فوضى في ضخ المعلومات، اعتياد الإنسان على التصفح السريع قلل من قدرته على الصبر في القراءة الواعية، لذا سُررتُ بفكرة مبادرة «كلنا نقرأ» لاستضافة الباحث والكاتِب صانع المحتوى المفيد وصانع المعرفة الأستاذ «حسين سعدون» الذي يملك قدرة مُتميزة على تقديم الكتب العميقة والمعلومات القيّمة بصورة ذات طابعٍ فريد يمكنها الوصول إلى وجدان الجميع».
انتقلَت دفَّة إدارة الحوار إلى السيد/ عبدالله الجودر ليسأل ضيف الأمسية عن سر تحاشيه سؤال «بماذا نقرأ؟» في الفصول الأولى من كتابه رغم اهتمامه بسؤالَي: «ماذا نقرأ؟ وكيف نقرأ؟»، فما كان منه إلا أن أجاب بثقة: «أظن أن هذا السؤال قد لا يسأله القارئ، فهو لا يسأل لمَ يأكُل أو ينام أو يتنفَّس. أعتقدِ أن ثمة نداء داخليا لدى الإنسان يدفعهُ إلى الكمال الذي من أوجُهه القراءة، وقد لا يسعه العُمر أو الوقت ليتساءل: لماذا؟ محمد شُكري مؤلف كتاب «الخُبز الحافي» الذي يُعتبر من نماذج أدب السِّيرة الذاتية المكشوف أو الممنوع كان حتى سن الثلاثين لا يستطيع القراءة والكتابة، لقد تعلمهما مُتأخرًا، ورغم هذا كتب تلك السيرة من دون أن يسأل نفسه «لماذا؟»، ربما لأن ذلك بالنسبة له أشبه بالتنفُّس».. وردًا على سؤال طبيعة تلك الروح التي كان يعنيها في قوله على سطور كتابه بأن: «الكتاب الجيد هو الذي تخرج منه بروح غير الروح التي بدأتَ بها القراءة» أجاب: «عادةً ما تكشف القراءة مدى جهل الإنسان بالموضوع الذي يقرأ فيه وتوسِّع مداركه، نحن نراهن بقدرة القراءة على رفع مستوى الوعي لدى الناس، ونقول إنها تُسهِم في تقليل الجرائم والمُشكلات والخلافات، فالإنسان القارئ ينظر للأمور من خلال زوايا رؤى أكثر اتساعًا، يغفر للناس ويتقبل الخلاف والاختلاف ويجنح نحو التسامُح.. هُنا يمكننا تسليط الضوء على مسألة غاية في الأهميَّة؛ وهو كون «العلوم الإنسانيَّة» التي تُعنى بالإنسان كعلم النفس، علم الاجتماع، الفلسفة، الاقتصاد، هذه العلوم التي تُعتبر «مُحركات المعرفة» مظلومة في عالمنا العربي، حتى الدراما العربيَّة تصور عالم النفس مجنونًا! بينما يُركز الاهتمام على العلوم الطبيعية كالطب والهندسة حيث المكانة المُجتمعيَّة العالية.. قد يُنقذ الطبيب حياة شخص؛ لكن عالم الاجتماع يُنقذ حياة شعب. د. علي الوردي هو الكاتب الأكثر مقروئيَّة في العراق، ومازال يُقرأ حتى اليوم رغم أن آخر كتابٍ كتبه كان عام 1979م لأنه طبيب المُجتمع العراقي، ابن خلدون الذي وُضعت مُقدمته بين تقسيمات أهم كتب التاريخ البشري مع كتاب «جمهورية أفلاطون»، «أصل الأنواع»، والنظرية النسبية «لآينشتاين لم يكُن ذلك من باب الترف، بل لأنهُ تكلَّم عن مُعظم الأمراض التي تُعانيها المُجتمعات حتى اليوم. يجدر بنا الإشارة إلى أن من المُهم للقارئ عدم فَرض أفكار مُسبقة على الكتاب، لنفتح حوارًا مع المؤلّف؛ وإن كان دليله قويًا فلنتبعه. إنني أهوى قراءة الكتاب الذي يهدم قناعاتي المُسبقة ويُعيد تشكيلها».
ويستطرِد قائلاً في مكانٍ آخر من الحوار: «على القارئ أن يضع شرطين للقراءة: المتعة والفائدة، الاستمتاع بكل سطرٍ من الكتاب هو ما يدفعنا لإكمال قراءته، إذ مهما كانت أفكار الكاتب عظيمة قد لا تتمكن من طرق أبواب وجدان القارئ ما لم يملك القدرة على إيصالها إلى القارئ بأسلوبٍ ممتِع. ويُضيف: «النظريَّة الحديثة التي تحدَّث عنها عبدالله الغذامي وغيره من المُفكرين تقول أن القارئ هو المؤلف الثاني للنص، فالكتاب نصوص ميّتة تُحييها المُناقشات التي قد تصل إلى نتائج لا يقبلها المؤلف ذاته.. إن أردتَ أن تُكرم كاتبًا ناقِش أفكاره».
zainabahrani@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك