تُعقد الدورة السابعة من القمة الثقافية تحت عنوان «الثقافة لأجل الإنسانية وما بعد»، في لحظة تاريخية تتسم بتسارع التحولات العالمية على المستويات السياسية، والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وتأتي هذه الدورة لتسلّط الضوء على الدور المحوري للثقافة بوصفها قوة ناعمة وشاملة، تتجاوز الفنون والآداب إلى أن تمس جوهر الكينونة الإنسانية، من خلال ما تحمله من معانٍ مشتركة وقيم عابرة للحدود. فالثقافة، في هذا السياق، تُعد وعاءً جامعًا لهويات الشعوب وذاكراتها ورؤاها للمستقبل، وهي عنصر أساسي في صياغة الوعي الجمعي وتشكيل المبادئ التي تُبنى عليها العلاقات الإنسانية.
ويرتكز شعار القمة «الثقافة لأجل الإنسانية وما بعد» على إدراك عميق للتحولات البنيوية التي يشهدها العالم منذ بداية القرن الحادي والعشرين، لا سيما ما يتعلق بإعادة توزيع مراكز القوى العالمية، وتعدد الأقطاب، وظهور أنماط جديدة من النزاعات الجيوسياسية والفكرية، الأمر الذي انعكس على طبيعة العلاقات بين الدول والمجتمعات والأفراد، وولد حالة من القلق الوجودي والشعور بعدم اليقين حيال المستقبل.
وفي ظل هذا الواقع المضطرب، تبرز الحاجة إلى إعادة تأمل المفاهيم الأساسية التي شكلت مرتكزات الفكر الإنساني الحديث، وعلى رأسها مفاهيم العدالة، والمساواة، والحرية، والكرامة الإنسانية. إذ ان هذه القيم التي كانت تمثل في يوم من الأيام إجماعًا عالميًا نسبيًا، باتت اليوم موضوعًا للنقاش وإعادة التقييم، في ظل تنامي النزعات الفردية، وتصاعد الخطابات القومية والإقصائية، وتزايد التحديات العالمية المشتركة، مثل التغير المناخي، والهجرة، والأزمات الصحية، والرقمنة المفرطة.
وقد أولت القمة اهتماماً خاصاً للتأمل في التأثيرات العميقة للذكاء الاصطناعي على مفهوم «الإنسانية»، إذ برزت تساؤلات فلسفية وعملية حول معنى الإبداع في عصر تنتج فيه الآلات محتوىً فنياً وأدبياً يشبه، بل أحياناً يتفوق على، ما ينتجه الإنسان. فهل يمكن اعتبار هذا الإبداع الآلي شكلاً من أشكال التعبير الفني؟ وما الفرق بين المعرفة التي تُنتج عن طريق التجربة الإنسانية وما يُولّده الذكاء الاصطناعي من معلومات ومعارف استناداً إلى الخوارزميات الضخمة؟
كما ناقشت القمة مسألة العدالة المعرفية وإمكانية الوصول المتكافئ إلى أدوات وتقنيات الذكاء الاصطناعي، حيث أن الفجوة الرقمية بين المجتمعات قد تتسع، مما يعيد إنتاج علاقات الهيمنة الثقافية والاقتصادية، إذا لم تُراعَ مبادئ الشمول والانفتاح. وحذّر بعض المتحدثين من مركزية رقمية آخذة في التشكل، تحتكر فيها بعض الكيانات الكبرى السيطرة على البيانات والبنية التحتية للذكاء الاصطناعي، ما يُهدد التنوع الثقافي العالمي، ويُضعف من قدرة الثقافات المحلية على التعبير عن نفسها في الفضاء الرقمي.
وفي المقابل، لم تخلُ النقاشات من التفاؤل، فقد طُرحت رؤى طموحة حول الإمكانات الإيجابية للذكاء الاصطناعي في خدمة الثقافة. فواحدة من أبرز هذه الإمكانات هي رقمنة التراث الثقافي المادي وغير المادي، وحمايته من الاندثار، من خلال استخدام تقنيات المسح ثلاثي الأبعاد، والتحليل اللغوي، والتوثيق الرقمي، ما يجعل الثقافة أكثر استدامة وأقرب إلى الأجيال الجديدة.
ولم تقف القمة عند حدود التوصيف، بل تقدمت برؤية استراتيجية تُؤطر العلاقة بين الإنسان والآلة على أنها علاقة شراكة تكاملية، لا تنافسية. فالتحدي اليوم، وفق ما خلصت إليه المناقشات، لا يكمن في وجود الذكاء الاصطناعي، بل في كيفية تسخيره لخدمة الثقافة الإنسانية بدلاً من تقويضها.
وفي هذا السياق، أوصت القمة بضرورة وضع أطر تنظيمية وأخلاقية واضحة تحكم استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في مجالات الإنتاج الثقافي، بما يضمن عدم انتهاك الخصوصية، أو تشويه الروايات الثقافية الأصيلة. كما دعت إلى دعم المبادرات المحلية والإقليمية التي تُعنى بإنتاج محتوى ثقافي عربي رقمي عالي الجودة يعتمد على الذكاء الاصطناعي، بما يسهم في تعزيز الحضور الثقافي العربي في المشهد الرقمي العالمي.
وانتهت نقاشات القمة إلى أن الثقافة، في عصر الذكاء الاصطناعي، يجب ألا تكتفي بدور المستجيب السلبي للتحولات التقنية، بل تضطلع بدور ريادي استشرافي يُعيد تأطير المسار الإنساني من منظور قيمي وأخلاقي. فالمطلوب اليوم، أكثر من أي وقت مضى، هو بناء خطاب ثقافي إنساني يُقاوم النزعة التقنية البحتة التي تُهدد بتجريد الإنسان من خصوصيته، ويُعلي من شأن الحوار والاعتراف بالآخر، بوصفهما أساسًا لإعادة بناء عالم أكثر عدلاً وتشاركية واستدامة.
تمثل القمة الثقافية في أبو ظبي تجسيداً عملياً لرؤية الإمارات في أن تكون منصة عالمية للحوار الثقافي والتنوع الفكري. فبينما تزداد حدة الأزمات العالمية، من صراعات إلى أوبئة إلى تحولات رقمية متسارعة، تبرز الثقافة كجسر للتفاهم وبناء السلام واستشراف المستقبل.
كما أكدت القمة الثقافية في أبوظبي مكانة الإمارة كمركز ثقافي عالمي، يضع الثقافة في صلب جهود التنمية وبناء المجتمعات. ومع تزايد التحديات التي تواجه العالم اليوم، تبرز الحاجة الماسّة لمنصات كهذه، تُعلي من قيمة الحوار، وتُبرز دور الثقافة كأداة فاعلة لإعادة تشكيل العالم نحو مزيد من العدالة والابتكار والسلام.
إن الثقافة، وفق هذه الرؤية، لم تعد مجرد تعبير عن الهوية أو وسيلة للتعبير الفني، بل أصبحت ركيزة أساسية في تشكيل الاستجابات العالمية للتحديات المعاصرة، ومنصة للحوار الحضاري القادر على تجاوز الانقسامات السياسية والإيديولوجية، وبناء فضاء إنساني مشترك قوامه التفاهم والاعتراف بالآخر.
{ باحثة في السياسة الثقافية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك