خلال القرون الثلاثة الأخيرة التي شَهِدَتْ تكوّن الحداثة الغربيّة وسيطرتها، تكوّنت عن الصين وترسّخت صورة صين صاحبة كتابة رمزية، خاضعة لموروث استبداديّ، معزولة عن سائر بقاع العالم طوال قرون، وهو ما يفسر جمودها الفلسفيّ والسياسيّ والعلميّ الذي جاء الغرب في الوقت المناسب لإيقاظها منه. وفي المقابل ترسّخ في فكر النخب الصينيّة شعور متعاظم بمديح الذات القومية الصينيّة. وهو ما يشكّل نوعًا من الرد بالكتابة المضادة على اختزالات الصين النمطية وفقًا لرؤية المركزية الأوروبيّة التي كانت حاكمة ثقافيًا على مدى قرون ولاتزال تمارسُ سطوتها التي خفَّ بريقها في عصر ما بعد الكولونياليّة وانهيار الحدود والتخوم الثقافية المتوهمة بين المراكز والهوامش «الثقافية». بهذه الكلمات صدّرت المفكرة الفرنسيّة من أصول صينيّة وأستاذة كرسي في الكوليج دي فرانس آن شنغ كتابها المهم «الفكر في الصين اليوم».
سعت آن شنغ مع مجموعة من الباحثين المشاركين في كتابة «الفكر في الصين اليوم» إلى تفكيك أساطير المركزية الأوروبيّة عن الصين وثقافتها وهي أساطير تأسيسيّة مضلّلة جدًا لاتصفُّ ماضي الصين ولا حاضرها. ولذلك يسعى كتاب «الفكر في الصين اليوم» من خلال مداخل علمية مزدوجة إلى تجاوز هذه «الآخرية»؛ إذ يشتغل الكتاب على علم الحضارة الصينية، والتاريخ الفكري، وتاريخ العلوم، والأنثروبولوجيا، والألسنية وغيرها. والأطروحة الأساسية التي يصدر عنها هذا الكتاب هي أنَّه ليس هناك فكر صيني أوحد، وبأنَّ الصين لم تتوقف عن التفكير بعد العصور القديمة ولا بعد دخول الحداثة الغربيّة إليها. لقد انتظم الكتاب في ثلاثة مباحث كبرى هي العلاقة التي أقامها المثقفون الصينيون القدامى والمعاصرون مع موروثهم الخاصّ من خلال دينامية ذاتية سابقة على كلّ تدخل خارجي من خلال حداثة وانغ فيزهي (1619) إلى التصوّر الصيني للتاريخ ومن كونفوشيوس إلى الروائي جين يونغ والإغراء البراغماتي في الصين المعاصرة إلى لي كزياو بو عودة الأخلاق. والمبحث الثاني يتناول المعارف الصينية من الفلسفة والدين والطب من محن الفلسفة الصينية إلى اختراع الأديان في الصين الحديثة والطب الصينيّ التقليدي في جمهورية الصين الشعبية من «تقليد مخترع» إلى «حداثة بديلة». والمبحث الثالث تصدّى للميثات الأكثر ثباتًا التي تدور حول الكتابة واللغة، إضافة إلى المسألة الحسّاسة الملازمة لها، وهي الهوية الصينية التاريخية الثقافية والقومية. فمن الكتابة الصينيّة إلى توضيح مسألة إلى هوية اللغة إلى هوية الصين، إلى «الصينوية».
كتب الناقد البنيوي الفرنسي رولان بارت كتابه المهم (إمبراطورية العلامات) الذي هو تحليل سيميائي ثقافي عن اليابان في علاماتها الثقافية الكبرى والصغرى من الطعام، والهدية، والمسرح، وشعر الهايكو، والأجسام، والوجوه وغيرها. والسيميائيات الثقافية هي ضرب من السيميائيات تتناول العلامات الثقافية على أنها ضرب من الرموز التي تعمل في نطاقات ثقافية معينة؛ وبناءً على ذلك، فإنَّ الثقافة يمكن أن تقسّم إلى مجالات صغرى ولكلّ مجال فرعيّ من مجالاتها علامات مخصوصة تعمل فيه بشكل نظامي. فالطبخ مجال ثقافي فرعي، والمسرح، والرسوم، والهدية، والشعر وغيرها مجالات فرعية تعمل بناءً على نظام علامي معلوم تشتغل الكتابة والقراءة العلامية في نطاقه. صنَّف بعض الباحثين كتاب (إمبراطورية العلامات) على أنه ينتمي إلى (الاستشراق المتنوِّر) في حين رآه آخرون على أنه ضرب من سرد السفر أو من كتابة السفر. إن مدينة طوكيو التي زارها بارت هي مدينة فعلية لكنها تتألف من شوارع ضيقة أو متسعة من العلامات؛ والعلامات التي تتجاور كتجاور مدينة قديمة هي الدوال القديمة التي تجاور مدينة حديثة. إنَّ مدينة طوكيو، كما يرى بارت، هي مدينة بلا مركز وشوارعها بلا أرقام. لقد أضاءته اليابان بعدة ومضات وجعلته في وضع كتابة. تساعدنا مثل هذه التحليلات السيميائية الثقافية على إعادة فهم العالم ثقافيًا تمامًا كما فعل الناقد الروسي يوري لوتمان في تحليله الثقافي لمدينة سانت بطرسبورغ الروسية.
أستاذة السرديات والنقد الأدبيّ الحديث
المشارك، كلية الآداب، جامعة البحرين.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك