العدد : ١٧٢٠٨ - الأحد ٠٤ مايو ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٦ ذو القعدة ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٢٠٨ - الأحد ٠٤ مايو ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٦ ذو القعدة ١٤٤٦هـ

الثقافي

سرديات: إمبراطورية العلامات

{ بقلم : د. ضياء عبدالله الكعبيّ

السبت ٠٣ مايو ٢٠٢٥ - 02:00

خلال‭ ‬القرون‭ ‬الثلاثة‭ ‬الأخيرة‭ ‬التي‭ ‬شَهِدَتْ‭ ‬تكوّن‭ ‬الحداثة‭ ‬الغربيّة‭ ‬وسيطرتها،‭ ‬تكوّنت‭ ‬عن‭ ‬الصين‭ ‬وترسّخت‭ ‬صورة‭ ‬صين‭ ‬صاحبة‭ ‬كتابة‭ ‬رمزية،‭ ‬خاضعة‭ ‬لموروث‭ ‬استبداديّ،‭ ‬معزولة‭ ‬عن‭ ‬سائر‭ ‬بقاع‭ ‬العالم‭ ‬طوال‭ ‬قرون،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يفسر‭ ‬جمودها‭ ‬الفلسفيّ‭ ‬والسياسيّ‭ ‬والعلميّ‭ ‬الذي‭ ‬جاء‭ ‬الغرب‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬المناسب‭ ‬لإيقاظها‭ ‬منه‭. ‬وفي‭ ‬المقابل‭ ‬ترسّخ‭ ‬في‭ ‬فكر‭ ‬النخب‭ ‬الصينيّة‭ ‬شعور‭ ‬متعاظم‭ ‬بمديح‭ ‬الذات‭ ‬القومية‭ ‬الصينيّة‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يشكّل‭ ‬نوعًا‭ ‬من‭ ‬الرد‭ ‬بالكتابة‭ ‬المضادة‭ ‬على‭ ‬اختزالات‭ ‬الصين‭ ‬النمطية‭ ‬وفقًا‭ ‬لرؤية‭ ‬المركزية‭ ‬الأوروبيّة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬حاكمة‭ ‬ثقافيًا‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬قرون‭ ‬ولاتزال‭ ‬تمارسُ‭ ‬سطوتها‭ ‬التي‭ ‬خفَّ‭ ‬بريقها‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الكولونياليّة‭ ‬وانهيار‭ ‬الحدود‭ ‬والتخوم‭ ‬الثقافية‭ ‬المتوهمة‭ ‬بين‭ ‬المراكز‭ ‬والهوامش‭ ‬‮«‬الثقافية‮»‬‭. ‬بهذه‭ ‬الكلمات‭ ‬صدّرت‭ ‬المفكرة‭ ‬الفرنسيّة‭ ‬من‭ ‬أصول‭ ‬صينيّة‭ ‬وأستاذة‭ ‬كرسي‭ ‬في‭ ‬الكوليج‭ ‬دي‭ ‬فرانس‭ ‬آن‭ ‬شنغ‭ ‬كتابها‭ ‬المهم‭ ‬‮«‬الفكر‭ ‬في‭ ‬الصين‭ ‬اليوم‮»‬‭.‬

سعت‭ ‬آن‭ ‬شنغ‭ ‬مع‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ ‬المشاركين‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬‮«‬الفكر‭ ‬في‭ ‬الصين‭ ‬اليوم‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬تفكيك‭ ‬أساطير‭ ‬المركزية‭ ‬الأوروبيّة‭ ‬عن‭ ‬الصين‭ ‬وثقافتها‭ ‬وهي‭ ‬أساطير‭ ‬تأسيسيّة‭ ‬مضلّلة‭ ‬جدًا‭ ‬لاتصفُّ‭ ‬ماضي‭ ‬الصين‭ ‬ولا‭ ‬حاضرها‭. ‬ولذلك‭ ‬يسعى‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬الفكر‭ ‬في‭ ‬الصين‭ ‬اليوم‮»‬‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مداخل‭ ‬علمية‭ ‬مزدوجة‭ ‬إلى‭ ‬تجاوز‭ ‬هذه‭ ‬‮«‬الآخرية»؛‭ ‬إذ‭ ‬يشتغل‭ ‬الكتاب‭ ‬على‭ ‬علم‭ ‬الحضارة‭ ‬الصينية،‭ ‬والتاريخ‭ ‬الفكري،‭ ‬وتاريخ‭ ‬العلوم،‭ ‬والأنثروبولوجيا،‭ ‬والألسنية‭ ‬وغيرها‭. ‬والأطروحة‭ ‬الأساسية‭ ‬التي‭ ‬يصدر‭ ‬عنها‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬هي‭ ‬أنَّه‭ ‬ليس‭ ‬هناك‭ ‬فكر‭ ‬صيني‭ ‬أوحد،‭ ‬وبأنَّ‭ ‬الصين‭ ‬لم‭ ‬تتوقف‭ ‬عن‭ ‬التفكير‭ ‬بعد‭ ‬العصور‭ ‬القديمة‭ ‬ولا‭ ‬بعد‭ ‬دخول‭ ‬الحداثة‭ ‬الغربيّة‭ ‬إليها‭. ‬لقد‭ ‬انتظم‭ ‬الكتاب‭ ‬في‭ ‬ثلاثة‭ ‬مباحث‭ ‬كبرى‭ ‬هي‭ ‬العلاقة‭ ‬التي‭ ‬أقامها‭ ‬المثقفون‭ ‬الصينيون‭ ‬القدامى‭ ‬والمعاصرون‭ ‬مع‭ ‬موروثهم‭ ‬الخاصّ‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬دينامية‭ ‬ذاتية‭ ‬سابقة‭ ‬على‭ ‬كلّ‭ ‬تدخل‭ ‬خارجي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬حداثة‭ ‬وانغ‭ ‬فيزهي‭ (‬1619‭) ‬إلى‭ ‬التصوّر‭ ‬الصيني‭ ‬للتاريخ‭ ‬ومن‭ ‬كونفوشيوس‭ ‬إلى‭ ‬الروائي‭ ‬جين‭ ‬يونغ‭ ‬والإغراء‭ ‬البراغماتي‭ ‬في‭ ‬الصين‭ ‬المعاصرة‭ ‬إلى‭ ‬لي‭ ‬كزياو‭ ‬بو‭ ‬عودة‭ ‬الأخلاق‭. ‬والمبحث‭ ‬الثاني‭ ‬يتناول‭ ‬المعارف‭ ‬الصينية‭ ‬من‭ ‬الفلسفة‭ ‬والدين‭ ‬والطب‭ ‬من‭ ‬محن‭ ‬الفلسفة‭ ‬الصينية‭ ‬إلى‭ ‬اختراع‭ ‬الأديان‭ ‬في‭ ‬الصين‭ ‬الحديثة‭ ‬والطب‭ ‬الصينيّ‭ ‬التقليدي‭ ‬في‭ ‬جمهورية‭ ‬الصين‭ ‬الشعبية‭ ‬من‭ ‬‮«‬تقليد‭ ‬مخترع‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬حداثة‭ ‬بديلة‮»‬‭. ‬والمبحث‭ ‬الثالث‭ ‬تصدّى‭ ‬للميثات‭ ‬الأكثر‭ ‬ثباتًا‭ ‬التي‭ ‬تدور‭ ‬حول‭ ‬الكتابة‭ ‬واللغة،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬المسألة‭ ‬الحسّاسة‭ ‬الملازمة‭ ‬لها،‭ ‬وهي‭ ‬الهوية‭ ‬الصينية‭ ‬التاريخية‭ ‬الثقافية‭ ‬والقومية‭. ‬فمن‭ ‬الكتابة‭ ‬الصينيّة‭ ‬إلى‭ ‬توضيح‭ ‬مسألة‭ ‬إلى‭ ‬هوية‭ ‬اللغة‭ ‬إلى‭ ‬هوية‭ ‬الصين،‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬الصينوية‮»‬‭.‬

كتب‭ ‬الناقد‭ ‬البنيوي‭ ‬الفرنسي‭ ‬رولان‭ ‬بارت‭ ‬كتابه‭ ‬المهم‭ (‬إمبراطورية‭ ‬العلامات‭) ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬تحليل‭ ‬سيميائي‭ ‬ثقافي‭ ‬عن‭ ‬اليابان‭ ‬في‭ ‬علاماتها‭ ‬الثقافية‭ ‬الكبرى‭ ‬والصغرى‭ ‬من‭ ‬الطعام،‭ ‬والهدية،‭ ‬والمسرح،‭ ‬وشعر‭ ‬الهايكو،‭ ‬والأجسام،‭ ‬والوجوه‭ ‬وغيرها‭. ‬والسيميائيات‭ ‬الثقافية‭ ‬هي‭ ‬ضرب‭ ‬من‭ ‬السيميائيات‭ ‬تتناول‭ ‬العلامات‭ ‬الثقافية‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬ضرب‭ ‬من‭ ‬الرموز‭ ‬التي‭ ‬تعمل‭ ‬في‭ ‬نطاقات‭ ‬ثقافية‭ ‬معينة؛‭ ‬وبناءً‭ ‬على‭ ‬ذلك،‭ ‬فإنَّ‭ ‬الثقافة‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تقسّم‭ ‬إلى‭ ‬مجالات‭ ‬صغرى‭ ‬ولكلّ‭ ‬مجال‭ ‬فرعيّ‭ ‬من‭ ‬مجالاتها‭ ‬علامات‭ ‬مخصوصة‭ ‬تعمل‭ ‬فيه‭ ‬بشكل‭ ‬نظامي‭. ‬فالطبخ‭ ‬مجال‭ ‬ثقافي‭ ‬فرعي،‭ ‬والمسرح،‭ ‬والرسوم،‭ ‬والهدية،‭ ‬والشعر‭ ‬وغيرها‭ ‬مجالات‭ ‬فرعية‭ ‬تعمل‭ ‬بناءً‭ ‬على‭ ‬نظام‭ ‬علامي‭ ‬معلوم‭ ‬تشتغل‭ ‬الكتابة‭ ‬والقراءة‭ ‬العلامية‭ ‬في‭ ‬نطاقه‭. ‬صنَّف‭ ‬بعض‭ ‬الباحثين‭ ‬كتاب‭ (‬إمبراطورية‭ ‬العلامات‭) ‬على‭ ‬أنه‭ ‬ينتمي‭ ‬إلى‭ (‬الاستشراق‭ ‬المتنوِّر‭) ‬في‭ ‬حين‭ ‬رآه‭ ‬آخرون‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬ضرب‭ ‬من‭ ‬سرد‭ ‬السفر‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬كتابة‭ ‬السفر‭. ‬إن‭ ‬مدينة‭ ‬طوكيو‭ ‬التي‭ ‬زارها‭ ‬بارت‭ ‬هي‭ ‬مدينة‭ ‬فعلية‭ ‬لكنها‭ ‬تتألف‭ ‬من‭ ‬شوارع‭ ‬ضيقة‭ ‬أو‭ ‬متسعة‭ ‬من‭ ‬العلامات؛‭ ‬والعلامات‭ ‬التي‭ ‬تتجاور‭ ‬كتجاور‭ ‬مدينة‭ ‬قديمة‭ ‬هي‭ ‬الدوال‭ ‬القديمة‭ ‬التي‭ ‬تجاور‭ ‬مدينة‭ ‬حديثة‭. ‬إنَّ‭ ‬مدينة‭ ‬طوكيو،‭ ‬كما‭ ‬يرى‭ ‬بارت،‭ ‬هي‭ ‬مدينة‭ ‬بلا‭ ‬مركز‭ ‬وشوارعها‭ ‬بلا‭ ‬أرقام‭. ‬لقد‭ ‬أضاءته‭ ‬اليابان‭ ‬بعدة‭ ‬ومضات‭ ‬وجعلته‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬كتابة‭. ‬تساعدنا‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬التحليلات‭ ‬السيميائية‭ ‬الثقافية‭ ‬على‭ ‬إعادة‭ ‬فهم‭ ‬العالم‭ ‬ثقافيًا‭ ‬تمامًا‭ ‬كما‭ ‬فعل‭ ‬الناقد‭ ‬الروسي‭ ‬يوري‭ ‬لوتمان‭ ‬في‭ ‬تحليله‭ ‬الثقافي‭ ‬لمدينة‭ ‬سانت‭ ‬بطرسبورغ‭ ‬الروسية‭.‬

 

أستاذة‭ ‬السرديات‭ ‬والنقد‭ ‬الأدبيّ‭ ‬الحديث

‭ ‬المشارك،‭ ‬كلية‭ ‬الآداب،‭ ‬جامعة‭ ‬البحرين‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا