قال دوستويفسكي عندما توفيت والدته:
لو أنني أعرف كلمة أعمق من انطفأت لقلتها، أنا لم أشعر من قبل بانطفاء روحي مثلما أشعر بها الآن.
وفي قول آخر: حين يهيلون عليّ التراب فانثر فوقه فتات خبز فتتهافت عليه العصافير فأسمع صوتها فلا أشعر بأنني وحيد.
تلك ما رمت إليه القاصة أمل عبدالوهاب، ولكن بأسلوب آخر، ورمزيات مختلفة، في مجموعتها القصصية الأخيرة «فقد»، الصادرة عن مؤسسة أبجد للترجمة والنشر والتوزيع، بابل العراق، والتي تحتوي في دفتيها 18 قصة قصيرة، ولوحة غلافها للفنان عبدالجبار الغضبان، ويتصدرها إهداء إلى رفيق عمرها الراحل الحاضر في قلوب البحرينيين الروائي والسيناريست البحريني فريد رمضان «إلى فريد رمضان».
تلك القصص التي تفردت بها أمل في جعل شخصياتها في كل قصة تتفاعل رمزياً مع بعضها البعض، متخذة في كل قصة إحالات لواقع يعرف نفسه، ليسهل لها الغوص سردياً في حبكة القصص وعدم انفكاك حبل أفكارها المتصل.
وضمت القاصة كوكبة قصصها في المجموعة القصصية إلى عنوان المجموعة «فقد»، حيث شكلت القصص هالة من الفقد بمختلف أشكاله، سواء وجداني أو جسدي أو روحي، وذاك قد يعود لفقدها إلى روحها الأخرى فريد رمضان، وهذا ما ذكرتهُ سابقاً في قراءتي لمجموعتها القصصية السابقة «ورد الغريب»، وهذا ما يتبين أيضاً ويتضح من خلال إهدائها المتصدر لصفحات المجموعة «إلى فريد رمضان»، إهداء بسيط لا يتشح بأي تعبير في سياقه، ولكن عند ربطه بالقصص وشخصية القاصة أمل سترى كمية التعبيرات الدلالية المتشحة فيه والتي تحاول أمل من خلال قصص المجموعة التعبير عن مشاعرها ومكنوناتها، وتلك الهالة من الفقد التي حاولت منها تشكيل مشهد مسرحي من خلال قصصها، فعندما تقرأ كل قصة، فأنك تدخل في عالم مسرحي تستمتع من خلاله بقراءة القصص وتخيلها.
ورغم ما رأيناه من أمل عبدالوهاب في مجموعتها السابقة «ورد الغريب» من دخول في الفانتازيا والدخول إلى عوالم من ضرب الخيال ثم الانتقال إلى الواقع في الوقت ذاته، قد يتوقع القارئ عندما يقرأ للوهلة الأولى المجموعة القصصية «فقد» أنها أيضاً تبحر بسفينتها في هذا الجانب من الفنتازيا، ولكن عندما تتعمق في قراءتها فتكتشف أنها تعمل على واقع من الاشتغال الرمزي، وبعض الرمزيات في إيصال الرسائل الخفية.
هذا العقل الذي تخطى حاجز القصة البسيطة، فجعلها منبع للفهم والتفكير الإبداعي والرسائل العميقة، متضمنة في سطورها جانباً من السيكولوجية النفسية، جاعلاً القارئ في موقف حرج في فهم حيثيات وفكرة القصة من البرهة الأولى، مصاباً بالالتباس، من حيث لعب بعض الكلمات في المجموعة القصصية دوراً في تضمنها لأكثر من معنى، قد يكون صحيحاً وقد يكون عكس ذلك، «والمعنى في قلب الشاعر»، وهذا ما أشار له الكاتب أمين صالح على غلاف المجموعة القصصية: «لكي تقرأ نصوص أمل عبد الوهاب، وتتفاعل معها على نحو إيجابي، وتستمتع بها، ينبغي أن تتخلى عن طريقتك المعتادة في تلقي النصوص، قصص أمل لا توفر لك أجوبة جاهزة ومرضية».
فمن الرمزيات، تجسدها النخلة في قصة «سماء»، فأعطت أمل إيحاءً بأنه من الممكن أن تتحرر جسدياً وفكرياً لتكون شيئاً آخر، ولكن في الوقت ذاته تبدلها لنخلة يعطي رمزية للألم الداخلي للشخصية في القصة، وثباتها وعدم قدرتها على التحرك بما يعني (الكبت والقيد).
كل هذا في جانب وإبداعها البصري في جعل التشبيه والسرد الوصفي كصورة بانورامية جميلة في جانب آخر، «وعشب طري يتلألأ بندى سقيا قريبة» (المكتبة العامة)، «بل كل الحضور يرنون إليه كإله ترك عرشه» (أول الربيع)، «وتحرك رأسها فيتطاير شعرها الأسود بمراوح مجهدة» (حب غير مشروط)، «وقفت تلتفت، وشعرها الأسود كسبيب الخيل تطيره الهبات الشمالية الباردة» (ذات برد).
وعندما نتطرق إلى البعد الفلسفي في المجموعة، فمن الواضح أن مسار حبكة القصص كان يبدأ بواقعية خالصة ثم تتصاعد الأحداث بعدها لتنقلنا إلى عالم فلسفي عميق (من الصعب تفسيره مبكراً)، وما هذا التبدل من الواقع إلى الفلسفة في القصص ما هو إلى استدلال على أن أمل كانت تحيك خياط القصص لتحويلها من اتجاه واقعي إلى اتجاه فلسفي يحمل بعض الرمزيات المبطنة، وهذا التحول الفلسفي الرمزي جعل القارئ يغوص في عالم القاصة أمل عبدالوهاب، والإحساس بألم شخصياتها في كل قصة والغوص في بواعثها.
والقصص في المجموعة من الممكن أن يكون لها طابعاً تراجيدياً في بعضها، وهذا الذي يجعل بعضها كمشهد مسرحي، فأرى أن هناك بعض من القصص إذا نظرنا إليها بجانب مسرحي، فهي تتصف حقاً بكثير من السمات المسرحية الجميلة، فهذا الإبداع الذي أتقنته أمل عبدالوهاب برسم النص بهذه الصورة، ما هو إلا لإبداعها الفذ في رسم شخصيات القصص وحبكتها.
وصيّرت القاصة من قصصها عالماً مفتوح لإضافة ما هو جديد، حيث كانت القصص بخاتمة مفتوحة تجعل الشخص يفكر ماذا تريد أمل عبدالوهاب أن تضيف بحبرها على الورق أيضاً، فربما يتشارك معها بنفس الأفكار أو الخاتمة.
والجدير بالذكر، صدر للكاتبة والقاصة أمل عبد الوهاب قبل المجموعة الحالية «فقد»، مجموعتين آخر، «وقت ليس لي» 2017، «ورد الغريب» 2023.
r.alstrawi10@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك