القراء الأعزاء،
كُلّ الدروب تبدأ بخطوةٍ، إلا درب المروءة فهو يبدأ بوقفة.
كان جدّي امام المسجد الغربي في قريتنا، ويسمّي الناس المسجد باسمه (مسجد عبدالله بن عيسى)، في وقت كان فيه مسمى المسجد يتغير بتغيّر امامه، والشاهد أن إمامة المسجد كانت ترتبط عند جدتي باقتناء التقويم السنوي الذي يُعدّ مرجعاً لمواعيد الصلاة والصوم ووقت الإمساك والافطار، ومسميات مراحل فصول السنة المرتبطة بحركة النجوم والأجرام، وكان أكثر ما يلفت نظري أثناء مطالعتي للتقويم معه بعض المسميات التي تحملها المراحل الانتقالية بين الفصول، من أهمها مسمى (السرايات) تلك الرياح الموسميّة التي تأتي في ذيل فصل الشتاء مُعلنة قدوم الربيع، وهي مرحلة طقسية مميزة لأنها متقلّبة وغير مستقرة ويصعب على الانسان حينها التنبؤ بالتالي من تفاصيلها، ولكنها بشكل عام تأتي في صورة رياح شمالية شديدة متخبطة في اتجاهاتها، جافة غالباً، مصحوبة بالغبار أو بعاصفة رملية حيناً، وبالغيوم الركامية والأمطار الرعدية الغزيرة حيناً آخر.
وفي تعريفٍ أدبيّ للسرايات يقول: (إنها مزاج الريح عندما تفقد صوابها في شهوة الجنون للعصف والاقتلاع من وراء الغفلة، غير آبهة بحرمة السكون وأمن الكائنات).
فقد أسقط الأديب البحريني الفنان عيسى محمد هجرس فكرة موسم السرايات على إصدار له يحمل نفس الاسم مُعللا ذلك بأنه (لموجات الفكر سراياتها التي تهبّ في مناخات الأحاسيس والعواطف، فتجُرّ قوافل التأمل في مساحات البلاغة وأفق الخيال، بحثاً عن طرائد الإبداع، حرفاً ونغماً في شفرة الأسرار وغموض الذات).
وقد تم تدشين كتاب السرايات في يناير عام 2022، ونال ما ناله من اطراء وقراءات نقدية وتحليلية هنا وهناك، ولا أذكر أنني كتبت عنه للقراء وإن كان كاتبه قد ناله من إطرائي ما ناله وقتها، ولكن مع إعادة اصدار الطبعة الثانية له، وجدت أن تلك السرايات الأدبية -على الرُغم من انها قد تكون مزيجا من تجارب مختلفة شخصية وغير شخصية لكاتبها- هي ترجمة حقيقية لمشاعر الإنسان الموحدّة وتجاربه المتكررة، فهي قصص الانسان وحكاياته ومشاعره المتناقضة مجتمعة في ومضات فلسقية ترتقي إلى مرتبة الحكمة التي تكونت عبر مراحل عمرية مختلفة بحلوها ومُرّها، فقد وجدتها جديرة بأن يصل بعضها إلى القارئ كما هي ليتلمس ما فيها من جمال، لذا ستكون الفقرات التالية عبارة عن سرايات فكرية انتقيتها من ما مجموعه 1060 سراية مليئة بالحكمة والعاطفة والإنسانية:
الكلمة قد تسقُط من شاهق ولا تُصاب بأذى وقد تسقط من كلمةٍ ولا تقوم لك قائمة.
الأخوّة لا تموت الأخوّة إن كُنت تأكل وأنا أشبع وكُلّ منّا للخرق يرقع.
حكمة الحياة بين ظُلمة الرحم وظلمة القبر خيطُ نورٍ نُسمّيه الحياة، ومسافة خطوة ندعوها العمر.
رجولة.. رأيت من بجسمه قد وصل محطات الرجولة، ومازال عقله يحبو في شوارع الطفولة.
وفي مدرسة الحياة كثيرً ممّن تخرّجوا إلى مرحلة الرجولة، لم تخرج منهم الطفولة.
في التسامح
لا أريد قوة لمُحاربة الأعداء وقهرهم، ولكني بحاجة للمحبّة لكسر الكراهية بسيف ودّهم.
لنكُن كالشموع مهما اختلفت ألوانها وتعددت أشكالها في الاحتراق، لها لون ضوء واحد.
صديق لم يبق للعمر مسافة أجدد فيها اسم صديق، قديمي هو رفيق دربي وكلّ قادمٍ عابر طريق.
وطن لم أجد في الأيام زمن، ولا في المسافات سكن،
وكلّ مقامٍ لا يُساوي نغمة، إذا ضاعت معزوفة الوطن.
Hanadi_aljowder@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك