تتعدد اتجاهات الأحداث الشائعة أو المواضيع الرائجة (التريند) على منصات التواصل الاجتماعي، وتختلف فترة رواجها وتداولها ما بين المستخدمين بعمق تأثيرها وإمكانية تمريرها ما بين المنصات، ويأتي هذا الاختلاف بتنوع المنصات وشرائح المستخدمين من حيث النوع والسن والسلوك والاهتمامات، لذلك من الطبيعي والبديهي أن نلمس مدى الاختلاف والتفاوت النوعي في محتواها؛ إلا إذا ما كانت تتسق مع توجه مختلف المنصات أو ذات توجه يمس قضايا الرأي العام على الأغلب.
ومؤخرًا اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي هبة جديدة؛ تتمثل في تحويل الصور الشخصية إلى رسوم كارتونية تحاكي أسلوب استوديو (غيبلي) الشهير، وذلك باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، والجدير بالذكر أن استوديو (غيبلي) هو استوديو ياباني متخصص في صناعة الرسوم المتحركة بشكل خاص، إلا أنه اتجه أيضًا نحو إنتاج الإعلانات والأفلام، ومن المعروف عنه دقة الرسوم المتقنة والمتميزة بألوانها الدافئة، وقد فازت وترشحت العديد من أعماله لجوائز مهمة متعلقة بذات السياق.
وبدأ هذا (التريند) بعدما طرحت شركة (أوبن إيه آي) المختصة في إنتاج وتطوير أدوات الذكاء الاصطناعي تحديثًا جديدًا لتوليد الصور بالذكاء الاصطناعي؛ يتمثل في تحميل المستخدم صوره الشخصية لتخضع لعمليات معالجة بمجرد إدخال الطلب في النظام، ومن ثم تتحول إلى رسوم على غرار رسوم (غيبلي) حتى يتسنى للمستخدم تنزيلها واستخدامها، حيث أتاحت هذه الميزة التي انتشرت بشكل سريع وحازت شعبية عالية بين المستخدمين، وأثارت حماس الكثير من عشاق رسوم استوديو (غيبلي) لتجربتها؛ بهدف الاحتفاظ بذكرى تحاكي نمط أفلام الكارتون المفضلة لديهم إمكانية تجربة هذا التحديث بما يسمح حصولهم على صورتين مجانيتين على أن تكون باقي الصور مدفوعة باشتراك شهري.
وبالرغم من إن هذا (التريند) لاقى استحسان المستخدمين؛ فإنه أثار موجة من الجدل حول الجوانب الأخلاقية والقانونية لاستباحة شركات الذكاء الاصطناعي استخدام نماذج فنية مستوحاة أو مقتبسة من أساليب محمية بحقوق الطبع والنشر من دون مراعاة لهذه الحقوق، فضلا عن الاستفادة المادية الخيالية التي حققتها شركة الذكاء الاصطناعي من وراء موجة (التريند) التي تتفوق بأضعاف مضاعفة على ما يحققه مؤسسو الاستوديو الذين افنوا سنوات في صناعة هذه الأفلام وتطويرها ومن دون أن يكون لهم نسبة من الأرباح التي حققتها الشركة نتيجة لهذا الاقتباس الفني!
إن الاعتراض المطروح لا يمثل اعتراضًا على جوهر الذكاء الاصطناعي ولا على إمكانياته كأداة قادرة على تحقيق سرعة الإنتاج والانتشار للفن والفنانين؛ وإنما موضع الاعتراض جاء على فكرة التجاوزات الصريحة والانتهاك الصارخ لحقوق الملكية الفكرية وضرب عرض الحائط بجهود الفنانين المبذولة، من دون أي مراعاة تذكر!
ومن منطلق هذه الفكرة لجأ الاستوديو إلى القضاء ورفع دعوى انتهاك لحقوق الملكية ضد الشركة، وحذا حذوه العديد من الأشخاص والجهات الأخرى الذين رفعوا قضايا مماثلة على نفس الشركة وفي ذات السياق، التي نأمل أن تجيء نتائجها لصالح الحقوق المنتهكة حتى يتم تلافي أي انتهاكات مماثلة مستقبلًا، وخاصة إبان غياب الأطر القانونية التي تجرم تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي على أنماط الأساليب البصرية.
حاليًا تتوجه أبصار المهتمين نحو ما ستؤول إليه نتائج هذه الدعوى القضائية، وذلك إبان ادعاء الشركة أنها اتخذت إطار «الاستخدام العادل» في تدريب نماذجها؛ وهو مبدأ قانوني يتيح الاستخدام المحدود للمحتوى المحمي بهدف البحث أو النقد أو التعليم من دون انتهاك حقوق النشر، إلا أن الاستوديو يعتمد في معرض دعواه على فكرة أن الشركة اعتمدت في تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي على محتوى محمي بحقوق النشر دون أذن، وهو ما قد يغير مجرى القضية لصالحهم، لذلك تضغط الشركة في الوقت الراهن على البيت الأبيض والكونغرس لتضمين استخدام المحتوى المحمي ضمن مفهوم «الاستخدام العادل»، إلا أن الانتشار العالمي للميزة التي أتاحتها التي جاءت بشكل مدفوع وحققت من ورائها نسبة أرباح خيالية يتنافى مع هذا المفهوم جملًا وتفصيلًا، ويبقى الحكم النهائي لشرعية الاستخدام رهن قرار القضاء الأمريكي وخاصة أن القضية من دون سابقة قانونية واضحة كمرجع تستند عليه.
وبغض النظر عن تصادم الآراء المتباينة والجدل المتصاعد حول القضية إلا أن من المهم أن يوضع الذكاء الاصطناعي تحت مجهر المشرع القانوني بشكل عالمي، وذلك لوضع أطر قانونية واضحة وصريحة لتنظيم عمليات تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي بما يكفل حماية حقوق الفنانين والمبدعين وحفظ جهودهم، وذلك لتلافي تحقيق مكاسب مادية ومعنوية على ظهورهم وبما يضر بهم وبمصالحهم، وخاصة أن منبثق فكرة التكنولوجيا وأساس الذكاء الاصطناعي هو تسهيل حياة الفرد والمجتمع، وأن غياب التشريعات القانونية التي تقوض هذه التجاوزات من شأنه أن يزيد من أنانية شركات الذكاء الاصطناعي على حساب ظلم المبدعين والفنانين.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك