الحروب كلها شر، وكلها دمار، وكلها إفساد للحرث والنسل، والشجر والحجر، فهي لا تُبقي ولا تذر، وتقضي على الأخضر واليابس، ولا يجني أحد منها إلا الخسائر والضحايا والكوارث المادية، والمعنوية، والنفسية.
ولكن في كل الحالات يتم التركيز على الضحايا البشرية وإبادة الإنسان الجماعية، والاهتمام بمعاناة هؤلاء الناس الذين قُتلوا أو جرحوا، والآلام التي يقاسون منها هم وأسرهم ووقعوا فيها جراء الخوض في الحروب، سواء أكانت جسدية عضوية، أو نفسية عقلية.
أما الضحايا الصامتة الأخرى التي تسقط بسبب الحروب، والتي ليس بقُدرتها التكلم والتعبير عن نفسها ورفع صوتها، وتقديم الشكوى لما أصابها من ضررٍ جسيم وعميق، فقد يتم عادة نسيانها وغض الطرف عنها، ولا تُحسب الخسائر التي نجمت عنها وتعرضت لها. وفي مقدمة هذه الضحايا الصامتة هي البيئة ومكوناتها الحية وغير الحية، من حياة فطرية نباتية وحيوانية، ومن عناصر البيئة الأخرى كالهواء، والمسطحات المائية، والتربة السطحية. ففي حالات كثيرة تقع إبادة جماعية شاملة، وجرائم منهجية متعمدة للبيئة برمتها، بكل مكوناتها، وبكل أنظمتها البيئية، بحيث يتم تدميرها كليا، فتكون بعدها غير صالحة للحياة البشرية، وغير قادرة على الإنتاج والعطاء للناس مرة ثانية. فهذا يؤكد أن الإبادة الجماعية المباشرة للبيئة هي في حد ذاتها إبادة جماعية غير مباشرة للبشر، فمن دون سلامة البيئة وأمنها لا تستديم حياة الإنسان. وهذه الإبادة الشاملة المنهجية المتعمدة لعناصر البيئة ومواردها وثرواتها الفطرية الحية وغير الحية يُطلق عليها مصطلح تعريف (Ecocide) عند منظمات الأمم المتحدة.
ومن الحروب التي نراها اليوم أمامنا وعانت منها البيئية الكرب العظيم وعلى نطاقٍ واسع هي حرب غزة، وأوكرانيا، والسودان. ولكن معظم المعلومات الموثقة، والتقارير الميدانية تكون أولاً حول أوكرانيا حيث وفرة المعلومات لسهولة الوصول إلى مواقع الأحداث والمعارك، إضافة إلى تركيز وسائل الإعلام ومراكز الأبحاث الغربية عليها والاهتمام بها بصورة أكبر وأعمق، ثم في المرتبة الثانية تأتي غزة، حيث معظم المشاهد تكون منقولة وعلى الهواء مباشرة، ولكن لا يمكن زيارتها ميدانيا من الناحية الأمنية لإجراء تقييم نوعي وكيفي لحجم الضرر والخسائر، ونوعية البيئات والحياة الفطرية التي تدمرت كليا أو جزئيا، وأعداد الكائنات الفطرية النباتية والحيوانية التي تم القضاء عليها. وأخيراً فهناك شح كبير في البيانات الموثقة حول التغييرات التي نزلت على البيئة والحياة الفطرية في السودان.
أما بالنسبة للحرب الروسية الأوكرانية فقد عانت البيئة الأوكرانية الفطرية الطبيعية معاناة شديدة، إضافة إلى أنواع كثيرة من الحياة الفطرية النباتية، وهذه الأضرار المادية لحقت بشكلٍ مباشر موارد البيئة والأنظمة البيئية البرية، والبحرية على حدٍ سواء. فهناك دراسة ميدانية أُجريت على التغيرات الكيميائية، والفيزيائية، والحيوية التي طرأت على تربة أوكرانيا بسبب الحرب، والمنشورة في مايو 2023 من «مركز المبادرات البيئية في ألمانيا» (Ecoaction) تحت عنوان: «تأثير الحرب الروسية على التربة الأوكرانية». كذلك التحقيق الميداني الذي قام به فريق من صحيفة النيويورك تايمز الأمريكية لأكثر من أربعة أشهر، ونُشر في 2 أبريل 2025 تحت عنوان: «بيئة أوكرانيا المدمرة»، حيث قام فريق العمل بزيارات ميدانية للمواقع التي حدثت فيها المعارك الحربية، كما أُجريت مقابلات شخصية لخبراء وعلماء البيئة المحليين.
ومن أهم الجرائم البيئية التي ارتكبت أثناء الحرب هي تفجير سد «كاكوفكا» (Kakhovka) في 6 يونيو 2023، مما أدى إلى وقوع فيضانات في مواقع كثيرة وواسعة، وغمر الملايين من الأمتار المكعبة من مياه السد لكل الأنظمة البيئية التي كانت في طريقها، كما قضت على المحاصيل الزراعية، وبعض الغابات، ولوثت التربة الزراعية والفطرية وغيرت من خواصها الكيميائية والفيزيائية. كذلك هدمت هذه المياه الجارفة جميع المصانع التي كانت تقف أمامها، ومنها مصانع تكرير النفط ومصانع كيميائية، مما أدى إلى تلويث مساحات واسعة من تربة أوكرانيا بالملوثات الزيتية، والعناصر الثقيلة السامة، إضافة إلى تلويث الأنهار والبحار بهذه السموم المسرطنة الخطرة. والعناصر الثقيلة التي لوثت مساحات شاسعة من التربة والمياه السطحية، مثل الرصاص، والكادميوم، والكروميوم لتبقى عقودا طويلة من الزمن وتتراكم في هذه العناصر البيئية لأنها عناصر مستقرة، لا تتحلل، ولا تتغير، وتمتلك القدرة على التضخم والتركيز في جميع عناصر البيئية، ثم الانتقال مع الزمن إلى جسم الإنسان.
ومن ناحية أخرى فإن مستوى تلوث الهواء ارتفع بشكل عام في أوكرانيا، وبخاصة من غاز ثاني أكسيد الكربون الذي يسبب التغير المناخي وسخونة الأرض، إضافة إلى الملوثات الأخرى التي تفسد جودة الهواء وتضر مباشرة بصحة الإنسان. وهناك عدة مصادر لتلوث الهواء منها الانبعاثات من حركة الدبابات، والطائرات، وحرق الغابات، حسب التقرير المنشور من «الهيئة شبه الحكومية حول التغير المناخي» في 24 فبراير 2025 تحت عنوان: «ثلاث سنوات من الحرب في أوكرانيا: التدمير البيئي لا يعرف الحدود بسبب ارتفاع نسبة انبعاث الملوثات».
أما بالنسبة لغزة فقد أَجمعت منظمات الأمم المتحدة المعنية بالبيئة، وحقوق الإنسان، والسكن العمراني، إضافة إلى محكمة الجنايات الدولية، ومحكمة العدل الدولية، بأن ما حدث في غزة يعد أفضل مثال يمكن تقديمه للإبادة الجماعية للبشر وجرائم الحرب ضد الإنسانية، إضافة إلى الإبادة الجماعية للشجر والحجر والبيئة الطبيعية الفطرية برمتها.
أما بالنسبة لمكونات البيئة من هواء، وماء، وتربة فلم يبق شبر منها إلا وقد أصابه الضرر، ولحق به الأذى الشديد المستدام. فهناك أولاً مخلفات الحرب الخطرة والقابلة للانفجار من الذخائر، والصواريخ، والقنابل، والألغام الموجودة الآن في غزة، وستبقى جزءاً من بيئة غزة لعقود طويلة قادمة، وستسبب أزمات أمنية مستمرة لسكان غزة جميعهم. وثانياً هناك المخلفات الصلبة غير الخطرة الناجمة عن تفجير وهدم المباني التي تقدر بملايين الأطنان، وبعضها يحتوي على مادة الأسبستوس المسببة لمرض الأسبستوسيس السرطاني. وثالثاً المخلفات الصلبة، المعروفة بالقمامة، والتي لا يمكن في مثل هذه الظروف القاسية أن تُدار بأسلوب بيئي وصحي سليمين، فهي تتراكم وتتجمع فتلوث التربة السطحية وتلوث مياه البحر لسوء إدارتها والتخلص منها، كما أن الرشيح الناجم من تحلل الجزء العضوي من هذه المخلفات تتسرب إلى المياه الجوفية وتدهور نوعيتها وسلامتها، وتسبب للسكان مشكلات وأزمات صحية خطيرة. وعلاوة على المخلفات الصلبة، فهناك مخلفات المجاري السائلة التي لا توجد محطات لمعالجتها بسبب تفجيرها وتدميرها كليا، ولذلك فإن هذه المياه الآسنة المحملة بكل أنواع الجراثيم والميكروبات المرضية يتعرض لها الناس بشكلٍ مباشر، ويصابون بأمراض حادة معدية تنتشر بين الناس كانتشار النار في الهشيم.
ورابعاً هناك الكثير من المصادر التي تسببت في تدهور صحة الهواء الجوي وسلامة الإنسان من التفجيرات المستمرة كل يوم، وحركة الطائرات، وتنقل الدبابات والجرافات والآليات الثقيلة الأخرى التي تلوث الهواء من جهة، ومن جهة أخرى تدمر التربة، وتفككها وتفتتها وتجعلها غير صالحة للزراعة مستقبلاً، فتؤثر في الأمن الغذائي للناس، كما تقضي كليا على النباتات الفطرية الأصيلة والنادرة التي تنمو في بعض مناطق غزة، إضافة إلى الحياة الحيوانية البرية. وقد نشرت صحيفة «الواشنطن بوست» الأمريكية تحقيقا في 4 مايو 2024 تحت عنوان: «الهجمات الإسرائيلية دمرت قدرة غزة على زراعة غذائها»، حيث أكدت فيه أن الجرافات كانت بشكلٍ ممنهج ومتعمد تقتحم مزارع المحاصيل الزراعية فتدمر الغطاء النباتي كليا كجزء من حرب المجاعة والجوع لسكان غزة على المدى القصير والطويل.
وبالرغم من تعرض غزة الأبية والصامدة لجميع أنواع الإبادة الجماعية الشاملة التي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، وبالرغم من اعتراف جميع المنظمات الأممية بهذه الإبادة الفاشية، إلا أن المجتمع الدولي عجز كلياً عن نصرة هذا الشعب الضعيف المظلوم، ومحاسبة الكيان الصهيوني على جرائمه التي ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولم تخطر على قلب بشر.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك