الأمريكيون مولعون بالإشارة إلى آلية «للرقابة والتوازن» باعتبارها أهم ما يميز «الديمقراطية الأمريكية». لكنني لا أملُّ من أن أجدد على مسامع دارسي النظام الأمريكي أن هذه الآلية رائعة بالفعل.. إذا كُللت بالنجاح على أرض الواقع.
وأذكّرهم بالمرات المتكررة التي انهارت فيها تلك الآلية. واللحظة الراهنة ستُكتب في التاريخ الأمريكي باعتبارها تجسيدًا للانهيار الشامل لآلية «الرقابة والتوازن» التي صممها الدستور الأمريكي لئلا تنفرد واحدة من المؤسسات السياسية بعملية صنع القرار. وترامب حين فرض بمفرده التعريفات الجمركية على العالم بأسره يمثل إحدى تلك الحالات الصارخة.
فالدستور الأمريكي أعطى الكونجرس، لا الرئيس، سلطة «تنظيم التجارة مع الدول الأجنبية»، ومنحه وحده سلطة «فرض الضرائب والجمارك.. وتحصيلها». غير أن الكونجرس منذ عام 1974 صار يفوض سلطة «التفاوض» التجاري للرئيس، ولكن بشروط. فطوال عملية التفاوض يلتزم الرئيس باطلاع الكونجرس، أولًا بأول، على مجريات المفاوضات. ثم ما إن يُعقد الاتفاق، يتحتم عليه التقدم به للكونجرس الذي يُصدر، عندئذ، تشريعًا يوافق على الاتفاق أو يرفضه.
وقد أصدر الكونجرس في ذلك العام قانونًا ينص على منح الرئيس ذلك التفويض لخمسة أعوام ويمكن الموافقة على تجديدها. لكن حين حل موعد التجديد الأخير عام 2021، لم تتقدم إدارة بايدن أبدًا بطلب للكونجرس لتجديد منح الرئيس سلطة التفاوض. بعبارة أخرى، فإن تفويض الكونجرس للرئيس للقيام بالتفاوض بخصوص التجارة لم يعد موجودًا أصلًا حتى يتولى ترامب القيام بتلك المهمة، ناهيك عن أن يفرض التعريفات الجمركية بموجبها!
غير أن ترامب استخدم نصًا آخر تمامًا لفرض تلك الجمارك كان ريتشارد نيكسون أول من استخدمه. ففي خضم الحرب العالمية الأولى أصدر الكونجرس ما يسمى قانون «التجارة مع العدو» لعام 1917 الذي يمنح الرئيس في «حالات الطوارئ» سلطة «تنظيم التجارة» مع تلك الدول. وهذا بالضبط ما فعله ترامب. فهو أعلن «حالة الطوارئ»، ثم فرض بموجبها الجمارك، ليس فقط على «العدو» بنص القانون، وإنما على الحلفاء أيضًا! ولأن قانون 1917 وتعديلاته عام 1977 لم يُعرّف «الطوارئ» وإنما أحال لتعريفها في قانون «الطوارئ»، لم يشغل ترامب نفسه بتعريف ما يقصده بالضبط بالطوارئ، ولا قدم تبريرًا وافيًا لإعلانها!
لكن أين «الرقابة والتوازن»؟ الإجابة أنها من الناحية النظرية موجودة، إذ بإمكان الكونجرس التدخل. فهو وحده القادر على إصدار «قرار مشترك» من المجلسين بإلغاء «حالة الطوارئ». بل يمكنه نظريًا أيضًا أن يعدل قانون 1977 وقانون الطوارئ ذاته، حتى يوصد هذا الباب في وجه الرئيس. بعبارة أخرى، فإن الكونجرس، متى امتلك الإرادة، بإمكانه تكبيل يد الرئيس في التجارة وغيرها بالمناسبة.
ومن هنا، يصبح السؤال: هل من رد فعل من الكونجرس تجاه المسألة؟ والإجابة عندي أن الديمقراطيين حين شغلوا مقاعد الأغلبية في إدارة ترامب الأولى، وهدد وقتها ترامب بفرض جمارك على كندا والمكسيك، قدموا تعديلات لقانون 1977 لكنهم لم يولوا الأمر الأهمية الكافية لدفع مشروع القانون قدمًا.
أما اليوم فتوجد محاولات بالكونجرس متباطئة للغاية لمواجهة إجراءات ترامب، أولاها مشروع قانون يتبناه جمهوريون وديمقراطيون وينص على ضرورة موافقة الكونجرس على تلك الجمارك خلال 60 يومًا من فرضها، وهو بذلك يشبه إلى حد كبير الإجراءات التشريعية التي كانت تمر بها اتفاقات التجارة التي يعقدها الرئيس شرط أن يكون الكونجرس قد جدد له سلطة التفاوض. أما المشروع الأهم، ويتبناه أعضاء من الحزبين أيضًا، فينص على إلغاء حالة الطوارئ التي أعلنها ترامب، وحينئذ تسقط تلك الجمارك.
باختصار فإن السؤال ليس «أين الرقابة والتوازن»، وإنما أين الكونجرس؟!
{ باحثة أمريكية مختصة
في الشؤون الأمريكية
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك