العدد : ١٧١٩٣ - السبت ١٩ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ٢١ شوّال ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٩٣ - السبت ١٩ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ٢١ شوّال ١٤٤٦هـ

الثقافي

إشكالية الحقيقة بين الذاتية والموضوعية

{ بقلم: د. إكرام عيد.

السبت ١٩ أبريل ٢٠٢٥ - 02:00

الحقيقة‭... ‬تلك‭ ‬الفكرة‭ ‬المراوغة‭ ‬التي‭ ‬سحرت‭ ‬الفلاسفة‭ ‬وأرهقت‭ ‬العقول‭. ‬لطالما‭ ‬حاول‭ ‬الإنسان‭ ‬الإمساك‭ ‬بها،‭ ‬أن‭ ‬يثبتها‭ ‬ككيان‭ ‬صلب‭ ‬لا‭ ‬يتغير،‭ ‬لكنه‭ ‬كلما‭ ‬اقترب‭ ‬منها،‭ ‬انزلقت‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬يديه،‭ ‬كما‭ ‬يهرب‭ ‬السراب‭ ‬من‭ ‬الظامئ‭ ‬في‭ ‬الصحراء‭. ‬فهل‭ ‬الحقيقة‭ ‬كيان‭ ‬مطلق‭ ‬ومستقل‭ ‬عن‭ ‬وعينا؟‭ ‬أم‭ ‬أنها‭ ‬مجرد‭ ‬انعكاس‭ ‬لتجربتنا‭ ‬الذاتية؟‭ ‬والأهم‭: ‬هل‭ ‬يمكننا،‭ ‬وسط‭ ‬هذا‭ ‬التشابك‭ ‬الفلسفي،‭ ‬أن‭ ‬نصل‭ ‬إلى‭ ‬معرفة‭ ‬يقينية‭ ‬لا‭ ‬يعتريها‭ ‬الشك؟

 

الحقيقة‭ ‬بين‭ ‬الموضوعية‭ ‬والنسبية

منذ‭ ‬أفلاطون‭ ‬وأرسطو،‭ ‬ارتبطت‭ ‬الحقيقة‭ ‬بفكرة‭ ‬التطابق‭ ‬بين‭ ‬الفكر‭ ‬والواقع‭. ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬عالم‭ ‬مستقل‭ ‬عن‭ ‬وعينا،‭ ‬فمن‭ ‬المنطقي‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬الحقيقة‭ ‬موجودة‭ ‬هناك،‭ ‬ثابتة،‭ ‬تنتظر‭ ‬من‭ ‬يكتشفها‭. ‬هذا‭ ‬التصور‭ ‬الموضوعي‭ ‬للحقيقة‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬تبنّاه‭ ‬العلم‭ ‬قرونا؛‭ ‬فقوانين‭ ‬الفيزياء،‭ ‬مثل‭ ‬الجاذبية،‭ ‬لا‭ ‬تتغير‭ ‬بتغير‭ ‬آرائنا‭ ‬عنها‭. ‬لكن،‭ ‬هل‭ ‬يعني‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬العلم‭ ‬يمنحنا‭ ‬‮«‬الحقيقة‭ ‬النهائية»؟

توماس‭ ‬كون،‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬بنية‭ ‬الثورات‭ ‬العلمية،‭ ‬قلب‭ ‬هذا‭ ‬التصور‭ ‬رأسًا‭ ‬على‭ ‬عقب‭. ‬رأى‭ ‬أن‭ ‬العلم‭ ‬لا‭ ‬يعكس‭ ‬الحقيقة‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬يعيد‭ ‬تشكيلها؛‭ ‬فالنظريات‭ ‬العلمية‭ ‬ليست‭ ‬مجرد‭ ‬مرايا‭ ‬تعكس‭ ‬الواقع،‭ ‬بل‭ ‬عدسات‭ ‬تصوغ‭ ‬رؤيتنا‭ ‬له‭. ‬الحقيقة‭ ‬العلمية،‭ ‬إذن،‭ ‬ليست‭ ‬مطلقة،‭ ‬بل‭ ‬تتغير‭ ‬بتغير‭ ‬الأطر‭ ‬الفكرية‭ ‬التي‭ ‬ننظر‭ ‬من‭ ‬خلالها‭.‬

أما‭ ‬الاتجاهات‭ ‬الفلسفية‭ ‬الذاتية،‭ ‬فقدمت‭ ‬رؤية‭ ‬مغايرة‭ ‬تمامًا‭: ‬الحقيقة‭ ‬ليست‭ ‬شيئًا‭ ‬‮«‬هناك‮»‬،‭ ‬خارجنا،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬شيء‭ ‬‮«‬هنا‮»‬،‭ ‬يتشكل‭ ‬داخل‭ ‬وعينا‭. ‬ديكارت،‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬يقينًا‭ ‬سوى‭ ‬في‭ ‬جملته‭ ‬الشهيرة‭: ‬‮«‬أنا‭ ‬أفكر،‭ ‬إذن‭ ‬أنا‭ ‬موجود‮»‬‭. ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬آخر‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬وهمًا،‭ ‬لكن‭ ‬تجربة‭ ‬التفكير‭ ‬ذاتها‭ ‬تظل‭ ‬يقينية‭.‬

ومع‭ ‬ظهور‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثة،‭ ‬أصبحت‭ ‬فكرة‭ ‬الحقيقة‭ ‬أكثر‭ ‬تعقيدًا‭. ‬نيتشه‭ ‬كان‭ ‬أكثر‭ ‬جذرية‭ ‬حين‭ ‬رأى‭ ‬أن‭ ‬الحقيقة‭ ‬ليست‭ ‬سوى‭ ‬بناء‭ ‬لغوي‭ ‬يخدم‭ ‬من‭ ‬يملك‭ ‬القوة،‭ ‬سواء‭ ‬كانت‭ ‬سياسية‭ ‬أو‭ ‬معرفية‭. ‬ما‭ ‬نعدّه‭ ‬‮«‬حقائق‮»‬‭ ‬ليس‭ ‬سوى‭ ‬سرديات‭ ‬فرضها‭ ‬الأقوياء‭. ‬وهكذا،‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬الحقيقة‭ ‬هدفًا‭ ‬للبحث،‭ ‬بل‭ ‬أصبحت‭ ‬أداة‭ ‬تُستخدم‭ ‬في‭ ‬لعبة‭ ‬السلطة‭.‬

 

ما‭ ‬بعد‭ ‬الحقيقة‭.. ‬هل‭ ‬فقدنا‭ ‬اليقين؟

في‭ ‬عصر‭ ‬الإنترنت‭ ‬وصناعة‭ ‬المحتوى،‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬الحقيقة‭ ‬تعني‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬واقعي،‭ ‬بل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬مقنع‭. ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬مسألة‭ ‬تطابق‭ ‬مع‭ ‬الواقع،‭ ‬بل‭ ‬أصبحت‭ ‬مسألة‭ ‬سرديات‭ ‬مهيمنة‭.‬

هذا‭ ‬العصر،‭ ‬الذي‭ ‬يسميه‭ ‬البعض‭ ‬‮«‬عصر‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحقيقة‮»‬،‭ ‬يطرح‭ ‬معضلة‭ ‬خطيرة‭: ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬نسبيًا،‭ ‬وإذا‭ ‬كانت‭ ‬الحقيقة‭ ‬مجرد‭ ‬سردية،‭ ‬فكيف‭ ‬نميز‭ ‬بين‭ ‬المعرفة‭ ‬الحقيقية‭ ‬والتضليل؟‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬هناك‭ ‬معايير‭ ‬يقينية،‭ ‬ألا‭ ‬يؤدي‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬فوضى‭ ‬معرفية،‭ ‬يصبح‭ ‬فيها‭ ‬كل‭ ‬رأي‭ ‬مساويًا‭ ‬لأي‭ ‬رأي‭ ‬آخر،‭ ‬مهما‭ ‬كان‭ ‬زائفًا؟

كارل‭ ‬بوبر‭ ‬حاول‭ ‬تفكيك‭ ‬هذه‭ ‬الإشكالية‭ ‬بمفهوم‭ ‬‮«‬القابلية‭ ‬للتكذيب‮»‬‭: ‬لا‭ ‬يمكننا‭ ‬إثبات‭ ‬صحة‭ ‬أي‭ ‬نظرية‭ ‬بشكل‭ ‬مطلق،‭ ‬لكن‭ ‬يمكننا‭ ‬اختبارها،‭ ‬فإذا‭ ‬صمدت‭ ‬أمام‭ ‬محاولات‭ ‬الدحض،‭ ‬اقتربت‭ ‬من‭ ‬الصواب‭. ‬بهذا‭ ‬المعنى،‭ ‬الحقيقة‭ ‬ليست‭ ‬يقينية،‭ ‬لكنها‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تصبح‭ ‬أكثر‭ ‬قوة‭ ‬كلما‭ ‬نجحت‭ ‬في‭ ‬مقاومة‭ ‬النقد‭.‬

 

الحقيقة‭ ‬كرحلة‭ ‬لا‭ ‬تنتهي

إذن،‭ ‬هل‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬الحقيقة‭ ‬ممكن؟‭ ‬الإجابة‭ ‬ليست‭ ‬نعم‭ ‬أو‭ ‬لا،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬سؤال‭ ‬يتجدد‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬عصر‭. ‬الحقيقة‭ ‬ليست‭ ‬غاية‭ ‬ثابتة،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬عملية‭ ‬مستمرة،‭ ‬تفرض‭ ‬علينا‭ ‬مساءلة‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬نؤمن‭ ‬به،‭ ‬وتدعونا‭ ‬إلى‭ ‬تجاوز‭ ‬المسلّمات‭ ‬التي‭ ‬نظن‭ ‬أنها‭ ‬يقينية‭.‬

وربما،‭ ‬في‭ ‬النهاية،‭ ‬ليست‭ ‬الحقيقة‭ ‬هي‭ ‬الغاية‭ ‬الأهم،‭ ‬بل‭ ‬رحلة‭ ‬البحث‭ ‬عنها‭... ‬هذا‭ ‬القلق‭ ‬الفكري،‭ ‬هذا‭ ‬الشغف‭ ‬بالتساؤل،‭ ‬هذا‭ ‬الفضول‭ ‬الذي‭ ‬يدفعنا‭ ‬إلى‭ ‬إعادة‭ ‬النظر‭ ‬فيما‭ ‬نعرفه‭. ‬هذا‭ ‬وحده‭ ‬كافٍ‭ ‬لجعلنا‭ ‬أكثر‭ ‬وعيًا،‭ ‬أكثر‭ ‬إنسانية،‭ ‬وأكثر‭ ‬اقترابًا‭ ‬من‭ ‬جوهر‭ ‬الفكر‭ ‬ذاته‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا