الحقيقة... تلك الفكرة المراوغة التي سحرت الفلاسفة وأرهقت العقول. لطالما حاول الإنسان الإمساك بها، أن يثبتها ككيان صلب لا يتغير، لكنه كلما اقترب منها، انزلقت من بين يديه، كما يهرب السراب من الظامئ في الصحراء. فهل الحقيقة كيان مطلق ومستقل عن وعينا؟ أم أنها مجرد انعكاس لتجربتنا الذاتية؟ والأهم: هل يمكننا، وسط هذا التشابك الفلسفي، أن نصل إلى معرفة يقينية لا يعتريها الشك؟
الحقيقة بين الموضوعية والنسبية
منذ أفلاطون وأرسطو، ارتبطت الحقيقة بفكرة التطابق بين الفكر والواقع. إذا كان هناك عالم مستقل عن وعينا، فمن المنطقي أن تكون الحقيقة موجودة هناك، ثابتة، تنتظر من يكتشفها. هذا التصور الموضوعي للحقيقة هو ما تبنّاه العلم قرونا؛ فقوانين الفيزياء، مثل الجاذبية، لا تتغير بتغير آرائنا عنها. لكن، هل يعني ذلك أن العلم يمنحنا «الحقيقة النهائية»؟
توماس كون، في كتابه بنية الثورات العلمية، قلب هذا التصور رأسًا على عقب. رأى أن العلم لا يعكس الحقيقة بقدر ما يعيد تشكيلها؛ فالنظريات العلمية ليست مجرد مرايا تعكس الواقع، بل عدسات تصوغ رؤيتنا له. الحقيقة العلمية، إذن، ليست مطلقة، بل تتغير بتغير الأطر الفكرية التي ننظر من خلالها.
أما الاتجاهات الفلسفية الذاتية، فقدمت رؤية مغايرة تمامًا: الحقيقة ليست شيئًا «هناك»، خارجنا، بل هي شيء «هنا»، يتشكل داخل وعينا. ديكارت، على سبيل المثال، لم يجد يقينًا سوى في جملته الشهيرة: «أنا أفكر، إذن أنا موجود». كل شيء آخر قد يكون وهمًا، لكن تجربة التفكير ذاتها تظل يقينية.
ومع ظهور ما بعد الحداثة، أصبحت فكرة الحقيقة أكثر تعقيدًا. نيتشه كان أكثر جذرية حين رأى أن الحقيقة ليست سوى بناء لغوي يخدم من يملك القوة، سواء كانت سياسية أو معرفية. ما نعدّه «حقائق» ليس سوى سرديات فرضها الأقوياء. وهكذا، لم تعد الحقيقة هدفًا للبحث، بل أصبحت أداة تُستخدم في لعبة السلطة.
ما بعد الحقيقة.. هل فقدنا اليقين؟
في عصر الإنترنت وصناعة المحتوى، لم تعد الحقيقة تعني ما هو واقعي، بل ما هو مقنع. لم تعد مسألة تطابق مع الواقع، بل أصبحت مسألة سرديات مهيمنة.
هذا العصر، الذي يسميه البعض «عصر ما بعد الحقيقة»، يطرح معضلة خطيرة: إذا كان كل شيء نسبيًا، وإذا كانت الحقيقة مجرد سردية، فكيف نميز بين المعرفة الحقيقية والتضليل؟ إذا لم تكن هناك معايير يقينية، ألا يؤدي ذلك إلى فوضى معرفية، يصبح فيها كل رأي مساويًا لأي رأي آخر، مهما كان زائفًا؟
كارل بوبر حاول تفكيك هذه الإشكالية بمفهوم «القابلية للتكذيب»: لا يمكننا إثبات صحة أي نظرية بشكل مطلق، لكن يمكننا اختبارها، فإذا صمدت أمام محاولات الدحض، اقتربت من الصواب. بهذا المعنى، الحقيقة ليست يقينية، لكنها يمكن أن تصبح أكثر قوة كلما نجحت في مقاومة النقد.
الحقيقة كرحلة لا تنتهي
إذن، هل الوصول إلى الحقيقة ممكن؟ الإجابة ليست نعم أو لا، بل هي سؤال يتجدد مع كل عصر. الحقيقة ليست غاية ثابتة، بل هي عملية مستمرة، تفرض علينا مساءلة كل ما نؤمن به، وتدعونا إلى تجاوز المسلّمات التي نظن أنها يقينية.
وربما، في النهاية، ليست الحقيقة هي الغاية الأهم، بل رحلة البحث عنها... هذا القلق الفكري، هذا الشغف بالتساؤل، هذا الفضول الذي يدفعنا إلى إعادة النظر فيما نعرفه. هذا وحده كافٍ لجعلنا أكثر وعيًا، أكثر إنسانية، وأكثر اقترابًا من جوهر الفكر ذاته.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك