لم يكن الأوسكار يومًا مجرد جائزة، بل كان معيارًا ووثيقة اعتراف عالمية يخلِّدان الأعمال التي تعيد تعريف السينما، تصنع الدهشة، تخلخل الثوابت، وتبقى في الذاكرة أبعد من لحظة التصفيق، تلك التي تحفر أثرها عميقًا في نفوسنا لا في قوائم الجوائز فقط، لكنها حين تمنح لمن لا يستحق ويتحول الاحتفاء بها إلى عرض، والإبداع إلى استعراض، يصبح السؤال حتميًا... لماذا؟
حقيقةً لم أشاهد Anora قبل توزيع الجوائز، شاهدته بعد ذلك، لأجد نفسي أمام عمل يثير أسئلة أكثر مما يقدم إجابات، ويترك أثرًا أقل مما يحدث صخبًا، العمل لم يكن كارثيًا، لكنه لم يكن استثنائيًا أيضًا، ومع ذلك، تسلق إلى القمة متجاوزًا أعمالًا أكثر عمقًا وتأثيرًا، وليس الأمر تقليلًا من صنّاعه، لكن حين تُمنح جائزة الأوسكار لا يكفي أن يكون الفيلم جيدًا بل يجب أن يكون الأفضل.
Anora هو فيلم ترفيهي للكبار وللكبار جدًا، ليس لأن فكرته معقدة أو مستفزة أيدلوجيًّا بل لأن مشاهده الحميمية هي بنيته الأساسية، فهي تُعرض بجرأة تفوق الحاجة الدرامية، وليست هنا القضية، فالسينما ليست ساحة وصاية، ومن لا يناسبه عمل فليتجاوزه، بل القضيّة والسؤال ماذا بعد هذه المشاهد؟ أين السينما؟ أين القصة التي تجعله يستحق أن يُوضع في مقدمة السينما العالمية لعام 2024؟
لنروي قصته.. Anora يحكي قصة الفتاة أنورا راقصة التعرّي التي تعمل في نيويورك، والتي تلتقي شابا روسيا ثريا يقع في حبها بسرعة ويتزوجان ثم يتعقد كل شيء حين يعلم والداه، فتتحول القصة إلى صراع بين الحب والضغوط العائلية، حبكة بسيطة، شخصيات نمطية، سيناريو يسير بخط مستقيم دون أي محاولة للغوص في أبعاد الشخصيات، أنورا شخصية مسطّحة، والشاب الروسي مجرد أداة للحبكة، بينما العائلة الروسية تكرار لصورة نمطية مألوفة، وكل هذا بدون بناء درامي متين، بل مجرد مشاهد متلاحقة وسط زخم بصري من دون عمق حقيقي.. هذا وهذا فقط ما قدمه Anora،،
فلنتتبع مبررات من أعطوه الاستحقاق للأوسكار، قيل إنّ رومانسيته طاغية، فكان هناك Touch، الذي لم يكن فقط أكثر شاعرية، بل كان أكثر صدقا في بناء العاطفة، وأكثر ذكاءً في تفكيك الحب كحالة لا كعلاقة جسدية مكثفة، وقيل إنه قدَّم مرآة لحياة المهمشين العاملين في الملاهي والدعارة، بينما تفوقت عليه أفلام غاصت أعمق في هذا العالم، كما أنه يتم الترويج لفكرة أن العمل يحمل رسالة سياسية.
أمّا عن مبررات من أعطوه هذا الاستحقاق فقد تجلّت في الترويج له لكونه تحفة رومانسية غامرة، لكن كان هناك فيلم Touch الذي لم يكن فقط أكثر شاعرية، بل كان أكثر صدقا في بناء العاطفة، وأكثر ذكاءً في تفكيك الحب كحالة لا كعلاقة جسدية مكثفة، وقيل إنه قدَّم مرآة لحياة المهمشين العاملين في الملاهي والدعارة، بينما تفوقت عليه أفلام غاصت أعمق في هذا العالم، مثل رحلة 404 لمنى زكي، الذي لم يكتفِ بتقديم شخصية تعيش على الهامش بذات المهنة بل صنع منها حالة إنسانية روحًا من لحم ودم، لا مجرد قالب جاهز ضمن حبكة سريعة الاستهلاك، حتى وإن لم تكن هذه الأفلام تنافس على نفس الفئة إلّا أنها استحقت ترشيح بلادها لها للمنافسة على الأوسكار. كما تمّ التسويق لفكرة أن العمل يحمل رسالة سياسية، وما هذا القول إلا محاولة عبثية لمنح الفيلم ثقلاً لا يملكه، ففكرة تقديم العلاقة الروسية الأمريكية من خلال قصة حب تقليدية بين شاب روسي وفتاة أمريكية لا يعدو كونه تبسيطًا مُخلًا، وكأننا بحاجة إلى إيماءة رومانسية لفهم العلاقات بين القوى العظمى، فقد اختبرنا السينما السياسية الحقيقية، تلك التي تفكك المعادلة، تطرح الأسئلة، تصنع الرمزية بذكاء لا بتسطيح مفضوح.
أمّا إخراجيًا فقد قدّم شون بيكر فيلمًا متقنًا بصريًا، لكن الإتقان التقني وحده لا يكفي، الإضاءة المكثفة، اللقطات القريبة، الألوان الحمراء العميقة، كلها أدوات تجميلية تُخفي فراغ النص، فالحوار ضعيف للغاية، والموسيقى التصويرية جميلة لكنها لا تخلق هوية للفيلم. باختصار هو عمل مصنوع بحرفية لكنه بلا روح، فهو لا يستند إلى حدث تاريخي مهم، ولا يحتوي على أداء رائع من الممثلين حتى في قمة أدائهم، ولا يقدم رسالة لنتأملها، ولا توجد حبكة رئيسية لم نتوقعها، أعتقد أن هذا العمل سيُسجل كواحد من أسوأ الأفلام التي فازت بجائزة أفضل فيلم.
لكن المسألة ليست عن الفيلم وحده، بل عن الأوسكار نفسه، كيف يتم اختيار الفائز؟ هل مازالت الجائزة تحمل ثقلها القديم؟ هل مازالت تُمنح للأفضل فعلًا، أم أصبحت خاضعة لمزاج ثقافي معين واعتبارات تسبق الفن نفسه؟ السينما لا تُعرَّف بالجوائز، لكن يفترض أنّ الأوسكار مؤشر على القمة، وحين يتم منح القمة لفيلم متوسط فهذا يعني أن المعيار نفسه أصبح موضع شك.
هل Anora يستحق المشاهدة؟ ربما فقد يراه البعض مسلّيًا، لكنه لا يحمل عناصر كافية ليكون علامة فارقة في سينما 2024، هو ليس أكثر من موجة مرت للحظة، قبل أن ينحسر ضجيجها، والأوسكار في جوهره ليس التمثال الذهبي بل السؤال الذي يتركه خلفه.. لماذا هذا الفيلم؟ لماذا الآن؟ والأهم… ماذا سيبقى منه حين تنطفئ الأضواء؟
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك