في قريةٍ مغلقة على أسرارها، حيث الليل أكثر سوادًا من الحكايات المخبّأة في الزوايا، وقف عدنان أمام بيت عيسى. جسده المشدود كوتر قوسٍ يشي بتوترٍ غير معلن، ويداه المرتجفتان تفضحان صراعًا داخليًا. النخيل حوله تلوح بأوراقها، كأنها تشير بأصابعها الطويلة إلى دخوله في دوامة لا مهرب منها.
رفع يده ليطرق الباب، لكنه توقف. كان الهواء بينهما ثقيلًا، وكأن القرية كلها تحبس أنفاسها. في لحظة، فتح الباب ليخرج عيسى، كأنه جزء من الليل نفسه. عيناه الداكنتان تلمعان بسخرية مبطنة.
- عدنان؟!.
قالها وكأنها طعنة باردة. ثم أردف:
- جئت الآن؟ الليل وقت الحساب، لا الطلب.
حاول عدنان السيطرة على ارتجاف صوته. مدّ خطوته نحو عيسى بثبات مصطنع:
- جئتُ لأطلب أختك.
ظهرت على شفتي عيسى ابتسامة غريبة، نصفها سخرية ونصفها تهديد. قال بنبرة مشوبة بالازدراء:
- أختي؟ هل ظننت أن هذا الطلب سيمر بسهولة؟
- أنت يا عدنان، مجرد دخان عالق في هذه الرياح.
حاول عدنان التماسك، لكنه شعر بالظلام من حوله يقترب، وكأنه يختبر شجاعته. قال بصوتٍ مثقل بالتحدي:
- أنا أعرف.
- أعرف ما تخفيه يا عيسى.
- أسمع النخيل تهمس لي بأسرارٍ عنك.
اتسعت عينا عيسى قليلًا، ثم ضاقتا سريعًا كأنما يحاول دفن أثر الصدمة. تقدم خطوة نحو عدنان وقال:
- وماذا سمعت؟
- هل ترى كل شيء؟ أم أنك تدّعي المعرفة؟
تردد صوت الريح عاليًا، وأوراق النخيل بدأت تصطدم ببعضها كأنها تصرخ تحذيرًا. مدّ عدنان يده نحو الباب المفتوح وقال بصوتٍ هادئ لكنه يحمل تصميمًا لا يخلو من الحذر:
- أريد الخلاص.
- أريد أختك لأنها النجاة الوحيدة.
ارتفع حاجبا عيسى ببطء، كأنما يستوعب ما قاله عدنان. ثم أردف بضحكة ناعمة، لكنها حادة كأزيز السكين:
- النجاة؟ ومن قال إن الخلاص يبدأ هنا؟
وقبل أن يكمل عيسى، تسلل صوتٌ ناعم من أعماق البيت، لكنه كان مشحونًا برهبة خفية. كان صوت امرأة، لكنه جاء كصدى غريب، كأنه ينبثق من قلب الجدران نفسها:
- عيسى… لا تدعه يدخل. لا تدعه يأخذني.
تجمد عدنان مكانه. التفت نحو الباب، لكن عيسى كان أسرع. وقف بينه وبين المدخل، ثم قال بصوتٍ مشوب بالانتصار:
- أردت أختي؟
- لكنك لم تعلم أنني أخذت أختك، يا عدنان.
كانت الكلمات كضربة صاعقة. حاول عدنان أن يتقدم، لكن قدميه غاصتا في الرمال. قال بصوت متقطع:
- ماذا فعلت؟
اقترب عيسى منه حتى كاد يلتصق به، ثم همس:
- فعلتُ ما كنت ستفعله أنت.
- أختي ليست لك.
- وأختك؟ حسنًا، لا تبحث عنها بعد الآن.
اندفع عدنان نحو الباب، لكن صوت المرأة من الداخل كان أقوى هذه المرة:
- عدنان… ستبقى محاصرًا. لن تخرج من هذا.
كان الظلام من حوله يتكاثف، وكأنه يصبح حية. النخيل تحركت بعنف أكبر، أوراقها تصدر صريرًا أشبه بصرخات الاحتضار. شعر عدنان بأن الأرض تحت قدميه لم تعد صلبة. حاول أن يصرخ، لكن الكلمات ماتت في حلقه.
في اللحظة الأخيرة، أُغلق الباب بعنف. ترك عيسى المكان، وضحكته تتردد كصدى بعيد. أما عدنان فقد وقف هناك، محاصرًا بين الظلال التي أصبحت أشبه بجدران سجنٍ لا مهرب منه.
النخيل من حوله توقفت عن الحركة، لكنها ظلت تنظر. وفي الصمت، بدا وكأنها تهمس سرًّا أخيرًا لا يسمعه أحد.
{ قاص سعودي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك