العدد : ١٧١٧٦ - الأربعاء ٠٢ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٤ شوّال ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٧٦ - الأربعاء ٠٢ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٤ شوّال ١٤٤٦هـ

الثقافي

ظل النخيل يهمس أسرارا

بقلم: عبدالله النصر.

السبت ٢٩ مارس ٢٠٢٥ - 02:00

في‭ ‬قريةٍ‭ ‬مغلقة‭ ‬على‭ ‬أسرارها،‭ ‬حيث‭ ‬الليل‭ ‬أكثر‭ ‬سوادًا‭ ‬من‭ ‬الحكايات‭ ‬المخبّأة‭ ‬في‭ ‬الزوايا،‭ ‬وقف‭ ‬عدنان‭ ‬أمام‭ ‬بيت‭ ‬عيسى‭. ‬جسده‭ ‬المشدود‭ ‬كوتر‭ ‬قوسٍ‭ ‬يشي‭ ‬بتوترٍ‭ ‬غير‭ ‬معلن،‭ ‬ويداه‭ ‬المرتجفتان‭ ‬تفضحان‭ ‬صراعًا‭ ‬داخليًا‭. ‬النخيل‭ ‬حوله‭ ‬تلوح‭ ‬بأوراقها،‭ ‬كأنها‭ ‬تشير‭ ‬بأصابعها‭ ‬الطويلة‭ ‬إلى‭ ‬دخوله‭ ‬في‭ ‬دوامة‭ ‬لا‭ ‬مهرب‭ ‬منها‭.‬

رفع‭ ‬يده‭ ‬ليطرق‭ ‬الباب،‭ ‬لكنه‭ ‬توقف‭. ‬كان‭ ‬الهواء‭ ‬بينهما‭ ‬ثقيلًا،‭ ‬وكأن‭ ‬القرية‭ ‬كلها‭ ‬تحبس‭ ‬أنفاسها‭. ‬في‭ ‬لحظة،‭ ‬فتح‭ ‬الباب‭ ‬ليخرج‭ ‬عيسى،‭ ‬كأنه‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬الليل‭ ‬نفسه‭. ‬عيناه‭ ‬الداكنتان‭ ‬تلمعان‭ ‬بسخرية‭ ‬مبطنة‭.‬

‭- ‬عدنان؟‭!. ‬

قالها‭ ‬وكأنها‭ ‬طعنة‭ ‬باردة‭. ‬ثم‭ ‬أردف‭:‬

‭- ‬جئت‭ ‬الآن؟‭ ‬الليل‭ ‬وقت‭ ‬الحساب،‭ ‬لا‭ ‬الطلب‭.‬

حاول‭ ‬عدنان‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬ارتجاف‭ ‬صوته‭. ‬مدّ‭ ‬خطوته‭ ‬نحو‭ ‬عيسى‭ ‬بثبات‭ ‬مصطنع‭:‬

‭- ‬جئتُ‭ ‬لأطلب‭ ‬أختك‭.‬

ظهرت‭ ‬على‭ ‬شفتي‭ ‬عيسى‭ ‬ابتسامة‭ ‬غريبة،‭ ‬نصفها‭ ‬سخرية‭ ‬ونصفها‭ ‬تهديد‭. ‬قال‭ ‬بنبرة‭ ‬مشوبة‭ ‬بالازدراء‭:‬

‭- ‬أختي؟‭ ‬هل‭ ‬ظننت‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الطلب‭ ‬سيمر‭ ‬بسهولة؟

‭- ‬أنت‭ ‬يا‭ ‬عدنان،‭ ‬مجرد‭ ‬دخان‭ ‬عالق‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الرياح‭.‬

حاول‭ ‬عدنان‭ ‬التماسك،‭ ‬لكنه‭ ‬شعر‭ ‬بالظلام‭ ‬من‭ ‬حوله‭ ‬يقترب،‭ ‬وكأنه‭ ‬يختبر‭ ‬شجاعته‭. ‬قال‭ ‬بصوتٍ‭ ‬مثقل‭ ‬بالتحدي‭:‬

‭- ‬أنا‭ ‬أعرف‭.‬

‭- ‬أعرف‭ ‬ما‭ ‬تخفيه‭ ‬يا‭ ‬عيسى‭.‬

‭- ‬أسمع‭ ‬النخيل‭ ‬تهمس‭ ‬لي‭ ‬بأسرارٍ‭ ‬عنك‭.‬

اتسعت‭ ‬عينا‭ ‬عيسى‭ ‬قليلًا،‭ ‬ثم‭ ‬ضاقتا‭ ‬سريعًا‭ ‬كأنما‭ ‬يحاول‭ ‬دفن‭ ‬أثر‭ ‬الصدمة‭. ‬تقدم‭ ‬خطوة‭ ‬نحو‭ ‬عدنان‭ ‬وقال‭:‬

‭- ‬وماذا‭ ‬سمعت؟

‭- ‬هل‭ ‬ترى‭ ‬كل‭ ‬شيء؟‭ ‬أم‭ ‬أنك‭ ‬تدّعي‭ ‬المعرفة؟

تردد‭ ‬صوت‭ ‬الريح‭ ‬عاليًا،‭ ‬وأوراق‭ ‬النخيل‭ ‬بدأت‭ ‬تصطدم‭ ‬ببعضها‭ ‬كأنها‭ ‬تصرخ‭ ‬تحذيرًا‭. ‬مدّ‭ ‬عدنان‭ ‬يده‭ ‬نحو‭ ‬الباب‭ ‬المفتوح‭ ‬وقال‭ ‬بصوتٍ‭ ‬هادئ‭ ‬لكنه‭ ‬يحمل‭ ‬تصميمًا‭ ‬لا‭ ‬يخلو‭ ‬من‭ ‬الحذر‭:‬

‭- ‬أريد‭ ‬الخلاص‭.‬

‭- ‬أريد‭ ‬أختك‭ ‬لأنها‭ ‬النجاة‭ ‬الوحيدة‭.‬

ارتفع‭ ‬حاجبا‭ ‬عيسى‭ ‬ببطء،‭ ‬كأنما‭ ‬يستوعب‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬عدنان‭. ‬ثم‭ ‬أردف‭ ‬بضحكة‭ ‬ناعمة،‭ ‬لكنها‭ ‬حادة‭ ‬كأزيز‭ ‬السكين‭:‬

‭- ‬النجاة؟‭ ‬ومن‭ ‬قال‭ ‬إن‭ ‬الخلاص‭ ‬يبدأ‭ ‬هنا؟

وقبل‭ ‬أن‭ ‬يكمل‭ ‬عيسى،‭ ‬تسلل‭ ‬صوتٌ‭ ‬ناعم‭ ‬من‭ ‬أعماق‭ ‬البيت،‭ ‬لكنه‭ ‬كان‭ ‬مشحونًا‭ ‬برهبة‭ ‬خفية‭. ‬كان‭ ‬صوت‭ ‬امرأة،‭ ‬لكنه‭ ‬جاء‭ ‬كصدى‭ ‬غريب،‭ ‬كأنه‭ ‬ينبثق‭ ‬من‭ ‬قلب‭ ‬الجدران‭ ‬نفسها‭:‬

‭- ‬عيسى‮…‬‭ ‬لا‭ ‬تدعه‭ ‬يدخل‭. ‬لا‭ ‬تدعه‭ ‬يأخذني‭.‬

 

تجمد‭ ‬عدنان‭ ‬مكانه‭. ‬التفت‭ ‬نحو‭ ‬الباب،‭ ‬لكن‭ ‬عيسى‭ ‬كان‭ ‬أسرع‭. ‬وقف‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬المدخل،‭ ‬ثم‭ ‬قال‭ ‬بصوتٍ‭ ‬مشوب‭ ‬بالانتصار‭:‬

‭- ‬أردت‭ ‬أختي؟

‭- ‬لكنك‭ ‬لم‭ ‬تعلم‭ ‬أنني‭ ‬أخذت‭ ‬أختك،‭ ‬يا‭ ‬عدنان‭.‬

كانت‭ ‬الكلمات‭ ‬كضربة‭ ‬صاعقة‭. ‬حاول‭ ‬عدنان‭ ‬أن‭ ‬يتقدم،‭ ‬لكن‭ ‬قدميه‭ ‬غاصتا‭ ‬في‭ ‬الرمال‭. ‬قال‭ ‬بصوت‭ ‬متقطع‭:‬

‭- ‬ماذا‭ ‬فعلت؟

اقترب‭ ‬عيسى‭ ‬منه‭ ‬حتى‭ ‬كاد‭ ‬يلتصق‭ ‬به،‭ ‬ثم‭ ‬همس‭:‬

‭- ‬فعلتُ‭ ‬ما‭ ‬كنت‭ ‬ستفعله‭ ‬أنت‭.‬

‭- ‬أختي‭ ‬ليست‭ ‬لك‭.‬

‭- ‬وأختك؟‭ ‬حسنًا،‭ ‬لا‭ ‬تبحث‭ ‬عنها‭ ‬بعد‭ ‬الآن‭.‬

اندفع‭ ‬عدنان‭ ‬نحو‭ ‬الباب،‭ ‬لكن‭ ‬صوت‭ ‬المرأة‭ ‬من‭ ‬الداخل‭ ‬كان‭ ‬أقوى‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭:‬

‭- ‬عدنان‮…‬‭ ‬ستبقى‭ ‬محاصرًا‭. ‬لن‭ ‬تخرج‭ ‬من‭ ‬هذا‭.‬

 

كان‭ ‬الظلام‭ ‬من‭ ‬حوله‭ ‬يتكاثف،‭ ‬وكأنه‭ ‬يصبح‭ ‬حية‭. ‬النخيل‭ ‬تحركت‭ ‬بعنف‭ ‬أكبر،‭ ‬أوراقها‭ ‬تصدر‭ ‬صريرًا‭ ‬أشبه‭ ‬بصرخات‭ ‬الاحتضار‭. ‬شعر‭ ‬عدنان‭ ‬بأن‭ ‬الأرض‭ ‬تحت‭ ‬قدميه‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬صلبة‭. ‬حاول‭ ‬أن‭ ‬يصرخ،‭ ‬لكن‭ ‬الكلمات‭ ‬ماتت‭ ‬في‭ ‬حلقه‭.‬

في‭ ‬اللحظة‭ ‬الأخيرة،‭ ‬أُغلق‭ ‬الباب‭ ‬بعنف‭. ‬ترك‭ ‬عيسى‭ ‬المكان،‭ ‬وضحكته‭ ‬تتردد‭ ‬كصدى‭ ‬بعيد‭. ‬أما‭ ‬عدنان‭ ‬فقد‭ ‬وقف‭ ‬هناك،‭ ‬محاصرًا‭ ‬بين‭ ‬الظلال‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬أشبه‭ ‬بجدران‭ ‬سجنٍ‭ ‬لا‭ ‬مهرب‭ ‬منه‭.‬

النخيل‭ ‬من‭ ‬حوله‭ ‬توقفت‭ ‬عن‭ ‬الحركة،‭ ‬لكنها‭ ‬ظلت‭ ‬تنظر‭. ‬وفي‭ ‬الصمت،‭ ‬بدا‭ ‬وكأنها‭ ‬تهمس‭ ‬سرًّا‭ ‬أخيرًا‭ ‬لا‭ ‬يسمعه‭ ‬أحد‭.‬

 

{‭ ‬قاص‭ ‬سعودي‭. ‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا