بعد حالة من الشد والجذب بين الإدارة الأمريكية وإيران بشأن حث الأخيرة على توقيع اتفاق نووي جديد يضمن عدم تحول البرامج النووية الإيرانية للأغراض العسكرية، أشارت وسائل الإعلام إلى الرسالة التي بعث بها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى المرشد الأعلى علي خامنئي في الثاني عشر من مارس 2025 من خلال الدكتور أنور قرقاش المستشار الدبلوماسي لرئيس دولة الإمارات العربية المتحدة الذي سلمها لوزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، وكما هو معتاد في مثل تلك الرسائل المهمة لا يتم الكشف عن مضامينها بشكل كامل سوى من خلال تسريبات كان منها أنها تتضمن منح إيران مهلة شهرين للتوصل إلى اتفاق نووي جديد وإلا ستكون هناك عواقب أخرى «ستحل المشكلة» على حد وصف الرئيس ترامب لإحدى المحطات التليفزيونية الأمريكية.
وقبيل تسلم تلك الرسالة كان الرد الإيراني واضحاً على لسان المرشد الأعلى في إيران علي خامنئي بالقول: «إنهم يطرحون مطالب جديدة لن تقبلها إيران مثل قدراتنا الدفاعية، ومدى صواريخنا، ونفوذنا الإقليمي، وألا نتواصل مع جهات»، وهو تصريح يعكس جوهر المشكلة الحقيقية بل إنه ما يهم دول الخليج العربي، فحسناً فعلت الإدارة الأمريكية أن يكون نقل الرسالة من خلال أحد مسؤولي دول الخليج العربي وهي التي لطالما طالبت بأن تكون جزءا من تلك المفاوضات لأنها معنية بالقضية النووية سواء تمت تسويتها سلماً من خلال اتفاق نووي جديد أو من خلال خيارات أخرى غير سلمية، ولكن المسألة الإيرانية لا يمكن حصرها في البرامج النووية فهناك التسلح الإيراني التقليدي ومجمل الوضع الإقليمي بما يعنيه ذلك من أن حل المسالة النووية لا يعني انتهاء حالة عدم الاستقرار الإقليمي، صحيح أن دول الخليج العربي بدأت بالفعل مسارا تصالحيا مع إيران من خلال الاتفاق بين المملكة العربية السعودية وإيران عام 2023 والتصريحات الإيجابية من جانب مملكة البحرين تجاه عودة العلاقات مع إيران ولكن ذلك ليس سوى غيض من فيض، فهناك قضايا أخرى منها الخلافات الحدودية بين إيران وبعض دول الخليج العربي ورؤية الجانبين لأمن وتسمية الخليج العربي والصراعات الإقليمية وغيرها من القضايا التي تحتاج لحل قبيل الحديث عن الاستقرار الإقليمي، والمتتبع لسياسات دول الخليج العربي يجد أنها لم ترغب في علاقات عدائية مع إيران بل رجحت كفة الجغرافيا على السياسة ولكن مجمل الوضع الإقليمي لم يشهد استقراراً مما حال دون استمرار حالة حياد دول الخليج العربي تجاه أزمات الأمن الإقليمي.
وعود على ذي بدء ومع أهمية أن تكون دول الخليج العربي طرفا في تلك المفاوضات فإن التساؤل هو: ما خيارات إيران للرد على رسالة ترامب؟ أخذاً في الاعتبار ما تردد بأن ترامب أشار في رسالته أنه لا يريد مفاوضات مطولة ولكن مدة شهرين للتوصل لاتفاق، وواقع الأمر أنه في ظل حالة الفوضى الإقليمية والتحولات الدولية الراهنة التي تعكس حسابات أمريكية مغايرة للإدارات السابقة سواء في الثوابت أو في آليات الدفاع عن المصالح والتي تتخذ بعداً عسكرياً عنيفاً أكثر منه مسارات تفاوضية فإن إيران لديها خياران أولهما: الدخول في مفاوضات بحيث تقتصر على البرامج النووية في توجه إيراني لعدم التخلي عن تلك البرامج التي تراها سلمية واستراتيجية في آن واحد ، بيد أن التحدي أمام إيران هو كيفية إنجاز تلك المفاوضات في مدى زمني حدده ترامب بشهرين إذ كانت استراتيجية شراء الوقت هي جوهر المفاوضات السابقة بين إيران والولايات المتحدة، ولكن التساؤل هو هل يمكن التوصل إلى اتفاق حصراً حول البرامج النووية دون القضايا الإقليمية الأخرى، بغض النظر عن تأثير التطورات الإقليمية في دور إيران الإقليمي وهي أحداث غزة وسوريا والضربات الأمريكية ضد الحوثيين حيث ألقى ترامب بالمسؤولية على إيران جراء هجماتهم؟ ويقودنا ذلك إلى الخيار الثاني: وهو رفض إيران التفاوض مما يثير الحديث عن الخيارات الأخرى، ومازلت من المؤيدين لاستبعاد هجوم عسكري على إيران لأسباب عديدة ليس أقلها إذا كان الهدف من ذلك الهجوم هو تدمير المنشآت النووية الإيرانية، فهل تعرف أجهزة الاستخبارات الأمريكية على وجه اليقين أماكن مكونات البرنامج النووي الإيراني، فهو ليس المنشآت النووية فحسب بل العلماء وكميات اليورانيوم المخصب، وما الضمانات أن تؤدي الضربة العسكرية إلى تدمير شامل لمكونات ذلك البرنامج؟ بل والأهم ما طبيعة الرد الإيراني، ويعيد ذلك إلى الأذهان تحذيرا أمريكيا لإيران خلال إحدى الإدارات الأمريكية السابقة والذي تضمن أن إيران في مرمى النيران الأمريكية، فكان الرد الإيراني أن المصالح الأمريكية في المنطقة هي كذلك أيضاً، وبالتالي من يهدد من؟ وخاصة أن الفرصة كانت سانحة خلال إدارة بايدن لتوجيه ضربة لتلك المنشآت خلال المواجهات بين إيران وإسرائيل.
وبعيداً عن أي من السيناريوهين، فإن الحديث حول النفوذ الإقليمي يعد عاملاً مهماً في أي مفاوضات مستقبلية وكذلك تأثير كل الخيارات في دول الخليج العربي، وواقع الأمر أن هناك حالة من الجدل حول أوراق القوة والضعف الراهنة لدى إيران، صحيح أنه لا يمكن تجاهل تأثير تراجع دور حزب الله وأحداث غزة وسوريا وما ستؤول إليه الضربات ضد الحوثيين على النفوذ الإقليمي لإيران ولكن في الوقت ذاته لا تزال لدى إيران أوراق قوة ومنها أنها دولة بحرية لديها القدرة على تهديد الملاحة البحرية وعرقلتها بشكل كبير في مضيق هرمز وكذلك باب المندب كما هو عليه الحال حالياً، بالإضافة إلى الضبابية بشأن برامجها النووية وتسلحها التقليدي بل والأهم التكنولوجيا العسكرية، فعلى الرغم من العقوبات المفروضة عليها فقد أصبحت منتجاً ومصدراً للطائرات دون طيار «الدرونز»، فضلاً عن سعيها لتوظيف التطورات الراهنة في النظام العالمي والتي تصب بكل تأكيد في المصلحة الإيرانية وهي حالة الشقاق بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين والانشغال الأمريكي بعيداً عن الشرق الأوسط مما أتاح الفرصة لكل من الصين وروسيا لتوظيف ما أحدثته السياسات الأمريكية من ثغرات.
في ضوء ذلك المشهد فإن دول الخليج العربي يتعين عليها إيصال رسالة جماعية للطرفين مفادها أنها يجب أن تكون ضمن تلك المفاوضات وليس مجرد وسيط، بالإضافة إلى الجهود التي من شأنها الحيلولة دون اتخاذ مسارات غير تفاوضية لأنها في النهاية ستكون أمام خيارات بالغة التعقيد وخاصة أن تهديد الأمن القومي لم يعد من خلال حروب تقليدية في ظل التكنولوجيا الحديثة، وكذلك المخاوف من تداعيات أي مواجهات على المنشآت الحيوية لدول الخليج العربي بما يعنيه ذلك من أهمية دور خليجي جماعي تجاه طرفي الصراع.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك