العدد : ١٧١٦٥ - السبت ٢٢ مارس ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٢ رمضان ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٦٥ - السبت ٢٢ مارس ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٢ رمضان ١٤٤٦هـ

الثقافي

الصعود من أسفل المدينة..
صرخة «المؤذن» في روايته.. فزاعـة بوجه الريح

السبت ١٥ مارس ٢٠٢٥ - 02:00

للقاص‭ ‬والروائي‭ ‬البحريني‭ ‬أحمد‭ ‬المؤذن،‭ ‬‮«‬بصمة‮»‬‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬فضاء‭ ‬القصة‭ ‬والرواية‭ ‬العربية،‭ ‬فهو‭ ‬بجانب‭ ‬ما‭ ‬يُميز‭ ‬أعـماله‭ ‬من‭ ‬سرديات‭ ‬جمالية‭ ‬مُحكمة،‭ ‬فهو‭ ‬كاتب‭ ‬روائي‭ ‬يجيد‭ ‬‮«‬التزحلق‮»‬‭ ‬وبمهارة‭ ‬فائقة‭ ‬بين‭ ‬تلك‭ ‬الفراغات‭ ‬المسدولة‭ ‬بين‭ ‬مدارات‭ ‬الحكي‭ ‬وحوار‭ ‬الشخصيات‭ ‬داخل‭ ‬أعـماله‭ ‬الروائية،‭ ‬ينتقل‭ ‬بينهما‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تتأثر‭ ‬شخصية‭ ‬‮«‬الراوي‮»‬‭ ‬المستقلة،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يشعر‭ ‬القارئ‭ ‬بأي‭ ‬انحياز‭ ‬عـاطفي‭ ‬مشترك‭ ‬بين‭ ‬الكاتب‭ ‬والراوي،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬الراوي‭ ‬هو‭ ‬أحـد‭ ‬أبطال‭ ‬روايتـه‭.‬

ومع‭ ‬غـزارة‭ ‬إنتاج‭ ‬المؤذن‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الرواية‭ ‬والقصة،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬المؤذن‭ ‬تسعفـه‭ ‬ذاكـرته‭ ‬الحيّة‭ ‬والمتقدة،‭ ‬بأن‭ ‬لا‭ ‬يقـع‭ ‬في‭ ‬فخ‭ ‬التكرار‭ ‬لأساليبه‭ ‬السردية،‭ ‬وكذلك‭ ‬لا‭ ‬يتورط‭ ‬مثل‭ ‬غـيره‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭ - ‬في‭ ‬عـادة‭ ‬استنساخ‭ ‬هياكل‭ ‬البناء‭ ‬الدرامي‭ ‬الذي‭ ‬تقوم‭ ‬عـليه‭ ‬أعـمدة‭ ‬العمل‭ ‬الروائي‭. ‬فهو‭ ‬في‭ ‬نظري‭ ‬روائي‭ ‬وقاص‭ ‬متعـدد‭ ‬المواهب‭ ‬وموسوع‭ ‬المعارف،‭ ‬يجمع‭ ‬بين‭ ‬الفانتازيا‭ ‬والواقعيـة،‭ ‬وكثيرًا‭ ‬ما‭ ‬تتسرب‭ ‬منه‭ ‬طاقة‭ ‬شعرية‭ ‬رومانسية،‭ ‬تضع‭ ‬ظلالاً‭ ‬وارفة‭ ‬على‭ ‬أسلوبه‭ ‬السردي،‭ ‬ومما‭ ‬يكسب‭ ‬لغـة‭ ‬الكاتب‭ ‬جمالاً‭ ‬إضافيًا‭ ‬يكاد‭ ‬أن‭ ‬يحيل‭ ‬الرواية‭ ‬‮«‬فزاعة‭ ‬بوجه‭ ‬الريح‭.. ‬كاكاشي‮»‬‭ ‬متحرر‭ ‬من‭ ‬قيوده‭ ‬النمطيـة‭.‬

فضلاً‭ ‬عـن‭ ‬قدرة‭ ‬المؤذن‭ ‬على‭ ‬توظيف‭ ‬آرائه‭ ‬الفلسفية‭ ‬ومجمل‭ ‬تصوراته‭ ‬الشخصية‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬موقف‭ ‬حياتي‭ ‬ذا‭ ‬سمـة‭ ‬خاصة‭ ‬ومستقلة،‭ ‬تجعل‭ ‬أعماله‭ ‬الأدبية‭ ‬تبدُ‭ ‬وكأنها‭ ‬سِـفر‭ ‬عـتيق‭ ‬للتربية‭ ‬الأخلاقية‭ ‬المضبوطة‭ ‬على‭ ‬معايير‭ ‬القيم‭ ‬الإنسانية،‭ ‬دون‭ ‬إخلال‭ ‬بالذوق‭ ‬العام‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬تباينت‭ ‬الأزمنة‭ ‬واختلفت‭ ‬الثقافات‭ ‬وتعـددت‭ ‬الوجهات‭ ‬الحضرية‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬المبحث‭ ‬المختصر،‭ ‬سوف‭ ‬أتطرق‭ ‬لمثال‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬أعـمال‭ ‬المؤذن‭ ‬الروائية‭ ‬التي‭ ‬لفتت‭ ‬انتباهي‭ ‬وهي‭ ‬رواية‭ / ‬فزاعـة‭ ‬بوجه‭ ‬الريح‭.. ‬كاكاشي،‭ ‬الصادرة‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬الكتب‭ ‬والدراسات‭ ‬العربية،‭ ‬الإسكندرية‭ ‬2019م‭.‬

في‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬عـرّج‭ ‬المؤذن‭ ‬لمعالجة‭ ‬قضية‭ ‬ذات‭ ‬أبعـاد‭ ‬مركبـة‭ ‬وتعتبر‭ ‬من‭ ‬أكثـر‭ ‬قضايا‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭ ‬تعقيدًا‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬المحتوى‭ ‬النظري،‭ ‬لارتباطها‭ ‬بعـدة‭ ‬اتجاهات‭ ‬فلسفيـة‭ ‬في‭ ‬تفسير‭ ‬دلالاتها‭ ‬العقديـة‭ ‬والسياسية‭ ‬والمجتمعية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬والثقافية،‭ ‬وهي‭ ‬قضية‭ ‬الجدل‭ ‬والصراع‭ ‬الدائـر‭ ‬بين‭ ‬الهامش‭ ‬والمركـز‭.‬

وهي‭ ‬القضية‭ ‬ذاتها‭ ‬التي‭ ‬لطالما‭ ‬سُكـب‭ ‬فيها‭ ‬مداد‭ ‬الفلاسفة‭ ‬والمفكريـن‭ ‬ورواد‭ ‬المنابـر‭ ‬السياسية‭ ‬والثقافية‭ ‬والمهتميـن‭ ‬بالبحوث‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬عـلوم‭ ‬النفس‭ ‬والمجتمع‭. ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬المؤذن‭ ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬براعـته‭ ‬في‭ ‬غـزل‭ ‬ونسج‭ ‬خيوط‭ ‬الحبكـة‭ ‬الروائية،‭ ‬استطاع‭ ‬توظيف‭ ‬موقفـه‭ ‬الفكري‭ ‬الإنساني‭ ‬حول‭ ‬ذات‭ ‬القضية،‭ ‬عـبر‭ ‬هندسـة‭ ‬تصميمية‭ ‬متقنـة‭ ‬للشخصيات‭ ‬المحورية‭ ‬في‭ ‬الرواية‭. ‬وأراد‭ ‬المؤذن‭ ‬لروايته‭ ‬‮«‬فزاعـة‭ ‬بوجه‭ ‬الريح‭.. ‬كاكاشي‮»‬،‭ ‬أن‭ ‬تكـون‭ ‬شخصية‭ ‬‮«‬عـارف‮»‬‭ ‬بطـل‭ ‬الرواية،‭ ‬هي‭ ‬رمـزًا‭ ‬لشخصية‭ ‬تُجسـد‭ ‬فكـرة‭ (‬الضحية‭) ‬الناجمة‭ ‬من‭ ‬قسوة‭ ‬المركز‭ ‬الحضري،‭ ‬إنسان‭ ‬جعلته‭ ‬ظروفه‭ ‬الحياتية‭ ‬الخاصة،‭ ‬يزحف‭ ‬في‭ ‬مسارات‭ ‬وتعرجات‭ ‬القاع‭ ‬أو‭ ‬الهامش‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬حياة‭ ‬عـبثيـة‭ ‬لا‭ ‬تنتهـي،‭ ‬ولا‭ ‬أعـتقد‭ ‬أن‭ ‬الكاتب‭ ‬قصد‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬‮«‬عـارف‮»‬‭ ‬إنسانًـا‭ ‬مسحوقًـا‭ ‬أو‭ ‬يمكن‭ ‬تصنيفـه‭ ‬من‭ ‬طبقة‭ ‬‮«‬البرولتاريا‮»‬‭ ‬وفقًـا‭ ‬لنظرية‭ ‬الصراع‭ ‬الطبقي‭ ‬التي‭ ‬تحتفي‭ ‬بها‭ ‬متون‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الماركسـي‭ ‬الاشتراكي،‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يقصد‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬عـارف‭ ‬بمثابة‭ ‬نسخـة‭ ‬مكـررة‭ ‬من‭ ‬‮«‬أوليفر‭ ‬تويست‮»‬‭ ‬في‭ ‬أدب‭ ‬شارلـز‭ ‬ديكينز‭ ‬في‭ ‬حقبة‭ ‬العصر‭ ‬الإنجليزي‭ ‬الفيكتوري،‭ ‬بـل‭ ‬هـو‭ ‬وبحسب‭ ‬المؤذن‭ ‬،‭ ‬أنموذجًـا‭ ‬لضحايا‭ ‬الانزلاقات‭ ‬الحضرية‭ ‬التي‭ ‬أعـترت‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬عـواصم‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬خلال‭ ‬رحلة‭ ‬نهوضها‭ ‬وعـمرانها‭ ‬ومركزيتها‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬السلطة‭ ‬والاقتصاد‭ ‬وسوق‭ ‬العمل‭ .‬

ولقد‭ ‬اختار‭ ‬المؤذن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬المنامة‭ ‬هي‭ ‬الموقـع‭ ‬الذي‭ ‬تتطابق‭ ‬مواصفاته‭ ‬مـع‭ ‬موقفه‭ ‬الحسي‭ ‬الذي‭ ‬ينظر‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬لمشاهدة‭ ‬المفارقات‭ ‬الكبرى،‭ ‬وتلك‭ ‬الأضداد‭ ‬المتصارعـة‭ ‬بين‭ ‬القمـة‭ ‬والقاع،‭ ‬والمركـز‭ ‬والهامش،‭ ‬والوعـي‭ ‬والـلاوعـي‭. ‬وعـبر‭ ‬‮«‬ميكانيزمات‮»‬‭ ‬القوة‭ ‬الكامنة‭ ‬في‭ ‬سلطة‭ ‬الـلاشعور‭ ‬أو‭ ‬الوعـي‭ ‬الباطن،‭ ‬حـرّك‭ ‬المؤذن‭ ‬بطل‭ ‬روايته‭ ‬‮«‬عـارف‮»‬‭ ‬وجعله‭ ‬يدور‭ ‬في‭ ‬شوارع‭ ‬المنامة‭ ‬وأزقتها‭ ‬مُجسدًا‭ ‬للذات‭ ‬الإنسانية‭ ‬التي‭ ‬يتصارع‭ ‬بداخلها‭ ‬شبح‭ ‬الضدين،‭ ‬‮«‬المنتمي‭ ‬والـلا‭ ‬منتمي‮»‬،‭ ‬فجعلهُ‭ ‬شخصًـا‭ ‬هائمًـا‭ ‬بين‭ ‬معالم‭ ‬المدينة‭ ‬التي‭ ‬يعرف‭ ‬تفاصيلها‭ ‬وخباياها‭ ‬عـن‭ ‬كثب،‭ ‬لكنه‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬ذاته‭ ‬يبدُ‭ ‬وكأنهُ‭ ‬غـريبًـا‭ ‬عـنها‭ ‬ولا‭ ‬ينتمي‭ ‬إليها‭. ‬في‭ ‬ص‭ ‬12‭ ‬يصف‭ ‬المؤذن‭ ‬عـارف‭.. (‬كم‭ ‬تحوي‭ ‬هذه‭ ‬الدنيا‭ ‬من‭ ‬نماذج‭ ‬بشرية‭ ‬مسحوقة‭ ‬مثل‭ ‬شخصية‭ ‬عـارف‭! ‬إنه‭ ‬أشبه‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬بـ‭.. ‬خيال‭ ‬رجل‭ ‬بلاستيكي‭ ‬يُترك‭ ‬مصلوبًـا‭ ‬عـند‭ ‬واجهة‭ ‬بوتيك‭ ‬ملابس‭ ‬بإحدى‭ ‬المجمعات‭ ‬الفخمة،‭ ‬شيء‭ ‬مفرغ‭ ‬من‭ ‬الحياة،‭ ‬عـليه‭ ‬قشرة‭ ‬خارجيـة،‭ ‬بدونها‭ ‬يصبح‭ ‬عـاريًا‭ ‬ولا‭ ‬يكترث‭ ‬له‭ ‬أحـد‭). ‬

لكن‭ ‬المؤذن‭ ‬لا‭ ‬ينسى‭ ‬أن‭ ‬يقتاد‭ ‬القارئ‭ ‬في‭ ‬وعـورة‭ ‬السكك‭ ‬التي‭ ‬تقـود‭ ‬إلى‭ ‬العالم‭ ‬الباطني‭ ‬لشخصية‭ ‬عـارف،‭ ‬ذلك‭ ‬العالم‭ ‬الذي‭ ‬يضج‭ ‬بصخب‭ ‬التناقضات‭ ‬ويتصارع‭ ‬فيه‭ ‬جدل‭ ‬الانتماء‭ ‬والـلا‭ ‬انتماء‭.. ‬يقول‭ ‬عـن‭ ‬عـارف‭ ‬في‭ ‬ص‭ ‬19‭/ (‬يتمشى‭ ‬في‭ ‬ليل‭ ‬المنامة،‭ ‬تضج‭ ‬بالخلق‭ ‬من‭ ‬كـل‭ ‬أصقاع‭ ‬الدنيا‭.. ‬يتمشى‭ ‬مطلقًـا‭ ‬صفيره‭ ‬الموسيقي،‭ ‬لا‭ ‬يعـبأ‭ ‬بشيء‭ ‬الآن،‭ ‬يقف‭ ‬متأملاً‭ ‬طابور‭ ‬الناس‭ ‬التي‭ ‬تحتشد‭ ‬عـند‭ ‬جهاز‭ ‬الصراف‭ ‬الآلـي،‭ ‬الكل‭ ‬يتلهف‭ ‬صرف‭ ‬الراتب،‭ ‬الكل‭ ‬في‭ ‬عـجلة‭ ‬من‭ ‬أمـره،‭ ‬هو‭ ‬أيضًا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬اللحظة‭ ‬التي‭ ‬يحدق‭ ‬فيهم،‭ ‬يفكـر،‭ ‬لو‭ ‬أنـه‭ ‬يشبههم‭ ‬فيكون‭ ‬طبيعيًا‭ ‬مثلهم‭).‬

لم‭ ‬يتحرر‭ ‬قط‭ ‬من‭ ‬غـربة‭ ‬المثقف‭ ‬المعتكف‭ ‬في‭ ‬الشعور‭ ‬بالانكسار‭ ‬وخيبات‭ ‬الرجاء‭ ‬في‭ ‬عـالم‭ ‬تسوده‭ ‬القيم‭ ‬المادية،‭ ‬وتعلو‭ ‬فيه‭ ‬موجات‭ ‬الطرد‭ ‬المركزي‭ ‬التي‭ ‬تتقزم‭ ‬تحتها‭ ‬ضمائر‭ ‬المثقفين‭ ‬وحكمتهم‭ ‬ومبادئهم‭. ‬فهو‭ ‬يتحرك‭ ‬وفقًـا‭ ‬لـ‭.. (‬بوصلة‭) ‬المؤذن‭ ‬نفسه،‭ ‬والتي‭ ‬تستشـعر‭ ‬اتجاهات‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬المنامة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تيلسكوب‭ ‬مُثبت‭ ‬في‭ ‬قاعـها‭ ‬الخفي‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يدركه‭ ‬إلا‭ ‬الذين‭ ‬لفظهم‭ ‬انفجار‭ ‬المركز‭ ‬مثل‭ ‬شظايا‭ ‬متناثرة‭ ‬بعيدًا‭. ‬والمؤذن‭ ‬الذي‭ ‬استعصى‭ ‬عـليه‭ ‬تحرير‭ ‬‮«‬روشتة‮»‬‭ ‬عـلاجية‭ ‬لإفرازات‭ ‬الصراع‭ ‬بين‭ ‬المركز‭ ‬والهامش،‭ ‬تـراه‭ ‬وبشكل‭ ‬غـير‭ ‬مباشر‭ ‬عـمد‭ ‬على‭ ‬استعارة‭ ‬الدين‭ ‬كمعامل‭ ‬موضوعـي‭ ‬لتسكين‭ ‬أوجـاع‭ ‬التوهـان‭ ‬والحيرة‭ ‬وفقدان‭ ‬الخرائط‭ ‬في‭ ‬عـالم‭ ‬كـله‭ ‬خراب‭. ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬مفهوم‭ ‬الدين‭ ‬الذي‭ ‬لجأ‭ ‬إليه‭ ‬المؤذن‭ ‬في‭ ‬روايته،‭ ‬هو‭ ‬الدين‭ ‬المحرر‭ ‬من‭ ‬سلطـة‭ (‬الظواهر‭)‬،‭ ‬هو‭ ‬الدين‭ ‬ذاته‭ ‬المنسجم‭ ‬مـع‭ ‬قوة‭ ‬الباطن‭ ‬والذي‭ ‬يغرق‭ ‬في‭ ‬تفاسير‭ ‬الروح‭ ‬وممكناتها‭ ‬الخفيـة‭.‬

ولقد‭ ‬ظهـر‭ ‬ذلك‭ ‬حينما‭ ‬تعمـد‭ ‬الكاتب‭ ‬ترسيم‭ ‬شخصية‭ ‬زكيـة‭ ‬بائعـة‭ ‬الذرة‭ ‬المسلوق،‭ ‬وهي‭ ‬تعالج‭ ‬تجاذباتها‭ ‬الباطنية‭ ‬وصراعـها‭ ‬مع‭ ‬الوحدة‭ ‬وانحسار‭ ‬الرجاءات،‭ ‬كلما‭ ‬لجأت‭ ‬إلى‭ ‬الصندوق‭ ‬الخشبي‭ ‬الذي‭ ‬قبلتـه‭ ‬على‭ ‬مضض‭ ‬هدية‭ ‬من‭ ‬الحاج‭ ‬مرزوق،‭ ‬وتستغرق‭ ‬في‭ ‬شـم‭ ‬واستنشاق‭ ‬عـبير‭ ‬الياسمين‭ ‬العابق‭ ‬في‭ ‬اخضرار‭ ‬القطعة‭ ‬القماشية‭ ‬لصاحبة‭ ‬ضريح‭ ‬الشيخ‭ ‬عـزيز‭. ‬المؤذن‭ ‬يصف‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬في‭ ‬ص‭ ‬32‭ / (‬عـلها‭ ‬قوة‭ ‬خفيـة‭ ‬طيبة‭ ‬او‭ ‬بركات‭ ‬ملائكية‭ ‬مسخرة‭ ‬من‭ ‬الضريح‭ ‬تتنزل‭ ‬اطمئنانًـا‭ ‬على‭ ‬روحها‭ ‬المعذبة،‭ ‬كلما‭ ‬فتحت‭ ‬الصندوق‭ ‬يغمرها‭ ‬شعـور‭ ‬بالسكينـة‭). ‬والشيخ‭ ‬عـزيز‭ ‬هو‭ ‬ضريح‭ ‬ومقام‭ ‬لأحد‭ ‬الأولياء‭ ‬الصالحين‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬المنامة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يستطع‭ ‬المؤذن‭ ‬تجاهله‭ ‬في‭ ‬روايتـه‭ ‬التي‭ ‬حفلت‭ ‬بالعديد‭ ‬من‭ ‬معالم‭ ‬المدينة،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الضريح‭ ‬وحـده‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬حمل‭ ‬ترميزًا‭ ‬إيجابيًـا‭ ‬لأسرار‭ ‬القوى‭ ‬الباطنة‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬العنف‭ ‬المادي‭ ‬الظاهر،‭ ‬وكأن‭ ‬مجمل‭ ‬الرواية‭ ‬التي‭ ‬جاءت‭ ‬مثل‭ (‬عـرض‭ ‬حال‭) ‬لفضح‭ ‬الصراع‭ ‬بين‭ ‬المركز‭ ‬والهامش‭ ‬وجدل‭ ‬القاع‭ ‬والقمـة،‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬إلا‭ ‬صرخـة‭ ‬استثنائية‭ ‬للمؤذن‭ ‬في‭ ‬الضريح‭.. ‬أو‭ ‬بمعنى‭ ‬آخـر‭ ‬هي‭ ‬استغاثة‭ ‬جريئـة‭ ‬من‭ ‬المؤذن‭ ‬لاستدعـاء‭ ‬سلطة‭ ‬الباطـن‭ ‬لقهر‭ ‬تسلط‭ ‬الوجود‭ ‬المادي‭ ‬وإبطال‭ ‬عـذابات‭ ‬الروح‭ ‬الناجمة‭ ‬من‭ ‬جـدل‭ ‬الذات‭ ‬والموضوع‭.‬

 

{ كاتب‭ ‬وصحفي‭ ‬وروائي‭ ‬سوداني‭ ‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا