للقاص والروائي البحريني أحمد المؤذن، «بصمة» خاصة في فضاء القصة والرواية العربية، فهو بجانب ما يُميز أعـماله من سرديات جمالية مُحكمة، فهو كاتب روائي يجيد «التزحلق» وبمهارة فائقة بين تلك الفراغات المسدولة بين مدارات الحكي وحوار الشخصيات داخل أعـماله الروائية، ينتقل بينهما من دون أن تتأثر شخصية «الراوي» المستقلة، أو من دون أن يشعر القارئ بأي انحياز عـاطفي مشترك بين الكاتب والراوي، حتى لو كان الراوي هو أحـد أبطال روايتـه.
ومع غـزارة إنتاج المؤذن في مجال الرواية والقصة، إلا أن المؤذن تسعفـه ذاكـرته الحيّة والمتقدة، بأن لا يقـع في فخ التكرار لأساليبه السردية، وكذلك لا يتورط مثل غـيره من الكتاب - في عـادة استنساخ هياكل البناء الدرامي الذي تقوم عـليه أعـمدة العمل الروائي. فهو في نظري روائي وقاص متعـدد المواهب وموسوع المعارف، يجمع بين الفانتازيا والواقعيـة، وكثيرًا ما تتسرب منه طاقة شعرية رومانسية، تضع ظلالاً وارفة على أسلوبه السردي، ومما يكسب لغـة الكاتب جمالاً إضافيًا يكاد أن يحيل الرواية «فزاعة بوجه الريح.. كاكاشي» متحرر من قيوده النمطيـة.
فضلاً عـن قدرة المؤذن على توظيف آرائه الفلسفية ومجمل تصوراته الشخصية في بناء موقف حياتي ذا سمـة خاصة ومستقلة، تجعل أعماله الأدبية تبدُ وكأنها سِـفر عـتيق للتربية الأخلاقية المضبوطة على معايير القيم الإنسانية، دون إخلال بالذوق العام حتى لو تباينت الأزمنة واختلفت الثقافات وتعـددت الوجهات الحضرية. وفي هذا المبحث المختصر، سوف أتطرق لمثال واحد من أعـمال المؤذن الروائية التي لفتت انتباهي وهي رواية / فزاعـة بوجه الريح.. كاكاشي، الصادرة عن دار الكتب والدراسات العربية، الإسكندرية 2019م.
في هذه الرواية عـرّج المؤذن لمعالجة قضية ذات أبعـاد مركبـة وتعتبر من أكثـر قضايا العصر الحديث تعقيدًا من حيث المحتوى النظري، لارتباطها بعـدة اتجاهات فلسفيـة في تفسير دلالاتها العقديـة والسياسية والمجتمعية والاقتصادية والثقافية، وهي قضية الجدل والصراع الدائـر بين الهامش والمركـز.
وهي القضية ذاتها التي لطالما سُكـب فيها مداد الفلاسفة والمفكريـن ورواد المنابـر السياسية والثقافية والمهتميـن بالبحوث في مجال عـلوم النفس والمجتمع. إلا أن المؤذن ومن خلال براعـته في غـزل ونسج خيوط الحبكـة الروائية، استطاع توظيف موقفـه الفكري الإنساني حول ذات القضية، عـبر هندسـة تصميمية متقنـة للشخصيات المحورية في الرواية. وأراد المؤذن لروايته «فزاعـة بوجه الريح.. كاكاشي»، أن تكـون شخصية «عـارف» بطـل الرواية، هي رمـزًا لشخصية تُجسـد فكـرة (الضحية) الناجمة من قسوة المركز الحضري، إنسان جعلته ظروفه الحياتية الخاصة، يزحف في مسارات وتعرجات القاع أو الهامش في رحلة حياة عـبثيـة لا تنتهـي، ولا أعـتقد أن الكاتب قصد أن يكون «عـارف» إنسانًـا مسحوقًـا أو يمكن تصنيفـه من طبقة «البرولتاريا» وفقًـا لنظرية الصراع الطبقي التي تحتفي بها متون الاقتصاد الماركسـي الاشتراكي، كما أنه لم يقصد أن يكون عـارف بمثابة نسخـة مكـررة من «أوليفر تويست» في أدب شارلـز ديكينز في حقبة العصر الإنجليزي الفيكتوري، بـل هـو وبحسب المؤذن ، أنموذجًـا لضحايا الانزلاقات الحضرية التي أعـترت كثير من عـواصم الدول العربية خلال رحلة نهوضها وعـمرانها ومركزيتها على مستوى السلطة والاقتصاد وسوق العمل .
ولقد اختار المؤذن أن تكون المنامة هي الموقـع الذي تتطابق مواصفاته مـع موقفه الحسي الذي ينظر من خلاله لمشاهدة المفارقات الكبرى، وتلك الأضداد المتصارعـة بين القمـة والقاع، والمركـز والهامش، والوعـي والـلاوعـي. وعـبر «ميكانيزمات» القوة الكامنة في سلطة الـلاشعور أو الوعـي الباطن، حـرّك المؤذن بطل روايته «عـارف» وجعله يدور في شوارع المنامة وأزقتها مُجسدًا للذات الإنسانية التي يتصارع بداخلها شبح الضدين، «المنتمي والـلا منتمي»، فجعلهُ شخصًـا هائمًـا بين معالم المدينة التي يعرف تفاصيلها وخباياها عـن كثب، لكنه في الوقت ذاته يبدُ وكأنهُ غـريبًـا عـنها ولا ينتمي إليها. في ص 12 يصف المؤذن عـارف.. (كم تحوي هذه الدنيا من نماذج بشرية مسحوقة مثل شخصية عـارف! إنه أشبه ما يكون بـ.. خيال رجل بلاستيكي يُترك مصلوبًـا عـند واجهة بوتيك ملابس بإحدى المجمعات الفخمة، شيء مفرغ من الحياة، عـليه قشرة خارجيـة، بدونها يصبح عـاريًا ولا يكترث له أحـد).
لكن المؤذن لا ينسى أن يقتاد القارئ في وعـورة السكك التي تقـود إلى العالم الباطني لشخصية عـارف، ذلك العالم الذي يضج بصخب التناقضات ويتصارع فيه جدل الانتماء والـلا انتماء.. يقول عـن عـارف في ص 19/ (يتمشى في ليل المنامة، تضج بالخلق من كـل أصقاع الدنيا.. يتمشى مطلقًـا صفيره الموسيقي، لا يعـبأ بشيء الآن، يقف متأملاً طابور الناس التي تحتشد عـند جهاز الصراف الآلـي، الكل يتلهف صرف الراتب، الكل في عـجلة من أمـره، هو أيضًا في هذه اللحظة التي يحدق فيهم، يفكـر، لو أنـه يشبههم فيكون طبيعيًا مثلهم).
لم يتحرر قط من غـربة المثقف المعتكف في الشعور بالانكسار وخيبات الرجاء في عـالم تسوده القيم المادية، وتعلو فيه موجات الطرد المركزي التي تتقزم تحتها ضمائر المثقفين وحكمتهم ومبادئهم. فهو يتحرك وفقًـا لـ.. (بوصلة) المؤذن نفسه، والتي تستشـعر اتجاهات الحياة في المنامة من خلال تيلسكوب مُثبت في قاعـها الخفي الذي لا يدركه إلا الذين لفظهم انفجار المركز مثل شظايا متناثرة بعيدًا. والمؤذن الذي استعصى عـليه تحرير «روشتة» عـلاجية لإفرازات الصراع بين المركز والهامش، تـراه وبشكل غـير مباشر عـمد على استعارة الدين كمعامل موضوعـي لتسكين أوجـاع التوهـان والحيرة وفقدان الخرائط في عـالم كـله خراب. إلا أن مفهوم الدين الذي لجأ إليه المؤذن في روايته، هو الدين المحرر من سلطـة (الظواهر)، هو الدين ذاته المنسجم مـع قوة الباطن والذي يغرق في تفاسير الروح وممكناتها الخفيـة.
ولقد ظهـر ذلك حينما تعمـد الكاتب ترسيم شخصية زكيـة بائعـة الذرة المسلوق، وهي تعالج تجاذباتها الباطنية وصراعـها مع الوحدة وانحسار الرجاءات، كلما لجأت إلى الصندوق الخشبي الذي قبلتـه على مضض هدية من الحاج مرزوق، وتستغرق في شـم واستنشاق عـبير الياسمين العابق في اخضرار القطعة القماشية لصاحبة ضريح الشيخ عـزيز. المؤذن يصف تلك اللحظة في ص 32 / (عـلها قوة خفيـة طيبة او بركات ملائكية مسخرة من الضريح تتنزل اطمئنانًـا على روحها المعذبة، كلما فتحت الصندوق يغمرها شعـور بالسكينـة). والشيخ عـزيز هو ضريح ومقام لأحد الأولياء الصالحين بالقرب من المنامة، وهو ما لم يستطع المؤذن تجاهله في روايتـه التي حفلت بالعديد من معالم المدينة، إلا أن الضريح وحـده هو الذي حمل ترميزًا إيجابيًـا لأسرار القوى الباطنة في مواجهة العنف المادي الظاهر، وكأن مجمل الرواية التي جاءت مثل (عـرض حال) لفضح الصراع بين المركز والهامش وجدل القاع والقمـة، ما هي إلا صرخـة استثنائية للمؤذن في الضريح.. أو بمعنى آخـر هي استغاثة جريئـة من المؤذن لاستدعـاء سلطة الباطـن لقهر تسلط الوجود المادي وإبطال عـذابات الروح الناجمة من جـدل الذات والموضوع.
{ كاتب وصحفي وروائي سوداني
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك