أذكر ذلك اليوم جيدا حين اصطحبني أبي (رحمه الله) في إحدى الصباحات إلى مبنى جريدة «أخبار الخليج» الواقعة بشارع المعارض بالقرب من مبنى إدارة الهجرة والجوازات. كانت هي الجريدة الوحيدة التي تصدر في البحرين آنذاك الى جانب جريدة الأضواء الأسبوعية والتي تقع في المبنى نفسه. حينها كنت شابة يافعة للتو تخرجت في الجامعة قسم اللغة العربية. عدت إلى الوطن بأحلام تتسع لها السماء. المعادلة المنطقية تقول: إن تخصص اللغة العربية سيؤهلني لأن أكون معلمة لغة عربية في احدى المدارس. لكن في داخلي يقينا يعرف أنني لن أعمل مدرسة لغة عربية في أي مدرسة. صعدت السلم كان مبنى الجريدة يقع في الطابق الثاني. دخلت المبنى لأجده خاليا تماما ومكاتب خالية من أصحابها. انعطفت يسارا، حيث وجدت صالة كبيرة مستطيلة الشكل حالها كحال المدخل مكاتب خالية من أصحابها. ولحسن الحظ وجدت في الصدارة على اليمين مكتبا عليه رجل حنطي اللون بيده قلم رصاص وورقة كبيرة (المخرج سعيد عارف).
سألته: هل يوجد أحد من الصحفين هنا؟
أجابني بلهجة مصرية. لا يحضرون الآن. جميعهم في تغطيات خارجية ثم من بعد العاشرة يبدأون بالحضور للجريدة. حسنا في المرة القادمة سأحضر متأخرة.
ولم أكن أعرف أي من الصحافيين آنذاك. ولا يوجد استخدام للهاتف النقال. في المرة التالية جئت متأخرة، اصطحبني أبي أيضا لأنني لم أكن أمتلك سيارة ولا رخصة قيادة. هذه المرة لحسن حظي كانت المكاتب كلها عامرة. قلت لأحدهم أود أن أعمل كصحفية في الجريدة. فدلني على مكتب مدير التحرير. الذي يقع في زاوية من المدخل. أحمد عبدالغني كان اسمه.. رجل قصير القامة بنظارات طبية شديد البياض.
في مكتبه الصغير جلست قبالته. قلت له بكل ثقة بالرغم من خجلي: أريد أن أعمل معكم في الجريدة كصحفية.
رد علي: لا يوجد لدينا أعمال في الجريدة.
عرفته بنفسي قائلة: أنا أكتب منذ فترة طويلة وأراسل بعض الصحف الخليجية. ولا أعرف حقيقة كيف حضرني هذا القول.
لكنه أصر على إجابته الأولى: لا يوجد لدينا شاغر للعمل كصحفي في الجريدة.
وهنا قلت له: هل يوجد عمل آخر في الجريدة غير الصحافة
وهنا أجاب: بإمكانك العمل كمصححة مع السيد حجر
وأجبته على الفور: نعم أنا موافقة.
كنت أود أن أكون في مبنى الجريدة بأي شكل من الأشكال
ومن اليوم التالي كنت في مبنى الجريدة. وجلست على مكتب بالقرب من مكتب المصحح السيد حجر مصري الجنسية يقع مكتبه في المدخل رجل بقامة ضخمة. طيب ومتعاون وكنت سعيدة جدا بوجودي في مبنى الجريدة. بعدها بدأت أحضر اجتماعات الصحافيين صباح كل سبت. وبدأت اختار موضوعات وأنشرها في قسم التحقيقات المحلية. وقد اخترت موضوعات مهمة جدا جذبت أنظار القراء. وبعدها تركت قسم المراجعة اللغوية. وأصبح عملي الرسمي هو صحفية متعاونة تعمل بنظام القطعة. وكنت أتسلم عشرين دينارا عن التحقيق أو المقال. وكان هذا المبلغ البسيط يعني لي الكثير آنذاك. وأشعر بنشوة غامرة حين أتسلمه.
والآن بعد مرور أكثر من أربعة عقود على تلك الحادثة. أصبحت اسمي الأشياء بأسمائها أدركت أن شغفي هو ما دفعني وقادني لاختيار العمل في الصحيفة. الكتابة هي شغفي الأول وهي الموهبة الفطرية التي وهبني إياها الخالق. والمفارقة أن هذا الشغف ذاته هو ما أهلني للحصول على وظيفة ثابتة بعد ذلك.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك