في عالمٍ تتكاثر فيه الأصوات، تنسلُّ فاطمة الدبيس من بين الصخب كهمسةٍ تسكن المسافة بين الذات والعالم، بين البوح والصمت. ليست شاعرةً تقف عند حدود اللغة، بل تتجاوزها إلى ما وراء النص، حيثُ تتحول الكلمات إلى ظلالٍ تتحرك في فضاءٍ من التأمل والدهشة. قصيدتها ليست مجرد كتابة، بل عملية خلق مستمرة، تشبه رحلة الضوء بين الوجود والعدم، بين الظهور والاحتجاب.
«تقول: في ذكريات امرأة مبعثرة»
هنا، لا تطلب الدبيس تأريخًا منمقًا لحياتها، بل تريد أن تُروى حكايتها كما هي: مبعثرة، متشظية في الزمان والمكان، كأنها ذاكرةٌ تتناثر بين القلوب والكتب. إنها لا تؤمن بالسيرة الخطية، بل ترى أن المرأة، مثل القصيدة، لا تُقرأ دفعةً واحدة، بل عبر تفاصيلها المتفرقة، حيثُ كل شظيةٍ منها تحمل جزءًا من حقيقتها.
«هنا قلبي أوزعه في وريقات»
في هذا السطر، تنبثق نزعتها الكرونولوجية، إذ تبدو نصوصها كأوراقٍ متناثرةٍ في الزمن، لا تنتمي إلى لحظةٍ واحدة، بل تُوزع بين الأمس والغد، بين الذكرى والتوقع. كل ورقةٍ تحتفظ بجزءٍ من القلب، وكل قلبٍ هو حكايةٌ تُسكب على الورق، لا لكي تكتمل، بل لتظل ناقصةً بشكلٍ جميل، كأنها نصٌ لا ينتهي إلا ليبدأ من جديد.
«لأنني امرأة متسربة من ذاتها»
في «حزنائيل»، تكتب الدبيس عن ذاتٍ لا تثبت في شكلٍ واحد، بل تتسرب كما يتسرب الضوء عبر الشقوق. إنها ليست امرأةً جامدة في هويةٍ محددة، بل كيانٌ في حالة تدفقٍ دائم، تتنقل بين الحضور والغياب، كأنها تحاول الإمساك بروحها قبل أن تفلت منها. هنا، يصبح الشعر وسيلتها للبقاء، وسيلتها لملامسة ذاتها حتى لو كانت هذه الذات متحركة كالماء، عصيةً على التقييد.
«متأرجحة ما بين لائها ونعمها»
لا يعكس هذا التذبذب حيرةً بقدر ما يكشف عن وعيٍ عميقٍ بحتمية الخيارات، حيثُ كل قرارٍ هو مفترق طرق بين الرفض والقبول، بين التمسك والتخلي. في عالمها، لا توجد إجاباتٌ نهائية، بل أسئلةٌ مستمرةٌ تنسج المعنى، وكأنها تكتب من المنطقة التي تسبق اليقين، حيثُ التردد هو جزءٌ من الحقيقة وليس نقيضها.
«على حافة وجود لا موجود»
إنها تقف عند التخوم، حيثُ لا شيء واضحٌ تمامًا، حيثُ الشعر نفسه يصبح جسرًا بين الملموس والغامض، بين الحقيقة والخيال. الدبيس ليست شاعرةً توثق الواقع، بل تحلق فوقه، تراقبه من زاويةٍ لا يصلها أحد، تكتب وكأنها ترى الكون من مسافةٍ تجعلها تدرك تفاصيله الخفية. إنها ليست هنا تمامًا، لكنها أيضًا ليست بعيدةً كليًا، تترك أثرها كما يفعل النسيم: يمر دون أن يُرى لكنه يُحس.
«مغمورة ملء الأقصي والدواني بالرحمة»
رغم كل تيهها الجميل، فهي ليست غارقةً في العدم، بل ممتلئةٌ حتى أقاصيها بالرحمة، حتى أدناها وأعلاها بلطفٍ خفي. إنها تعرف أن الحياة رغم تناقضاتها تحتضنها، وأن الشعر، مهما كان منفلتًا، يظل عودةً دائمةً إلى حضن الروح، إلى ذلك الامتلاء الذي لا يحتاج إلى برهان، لأنه يُحس قبل أن يُقال.
الظهور حين يكون الغياب اختيارًا
في زمنٍ أصبحت فيه الصورة أداة التعريف الأولى، اختارت فاطمة الدبيس أن تكون شاعرةً بلا ملامح، أن تترك صوتها يتحدث دون أن تربطه بالضوء. إنها تدرك أن الشعر ليس بحاجةٍ إلى هويةٍ مرئية، بل إلى شعورٍ صادق إلى كلماتٍ تصل قبل أن يُعرف صاحبها. إن غيابها ليس نقصًا، بل هو جزءٌ من تجربتها الإبداعية، حيثُ يكون الحضور في أثر الكلمات، لا في صاحبها.
ختامًا
إن فاطمة الدبيس ليست مجرد شاعرة، بل تجربةٌ متكاملة، تكتب بوعيٍ عميقٍ بأن الجمال ليس في الاكتمال، بل في التبعثر الجميل، في الامتلاء الذي لا يلغي الفراغ، في البوح الذي يظل معلقًا بين الوضوح والهمس. في كل قصيدة، تترك للقارئ جزءًا من نفسها، وفي كل كلمة، ترسم طريقًا نحو ذاتها التي تتجدد مع كل حرف.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك