العدد : ١٧١٦٥ - السبت ٢٢ مارس ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٢ رمضان ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٦٥ - السبت ٢٢ مارس ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٢ رمضان ١٤٤٦هـ

الثقافي

السعودية فاطمة الدبيس: شاعرةٌ تمتلئ حتى تخوم الحرف

السبت ١٥ مارس ٢٠٢٥ - 02:00

في‭ ‬عالمٍ‭ ‬تتكاثر‭ ‬فيه‭ ‬الأصوات،‭ ‬تنسلُّ‭ ‬فاطمة‭ ‬الدبيس‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬الصخب‭ ‬كهمسةٍ‭ ‬تسكن‭ ‬المسافة‭ ‬بين‭ ‬الذات‭ ‬والعالم،‭ ‬بين‭ ‬البوح‭ ‬والصمت‭. ‬ليست‭ ‬شاعرةً‭ ‬تقف‭ ‬عند‭ ‬حدود‭ ‬اللغة،‭ ‬بل‭ ‬تتجاوزها‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬وراء‭ ‬النص،‭ ‬حيثُ‭ ‬تتحول‭ ‬الكلمات‭ ‬إلى‭ ‬ظلالٍ‭ ‬تتحرك‭ ‬في‭ ‬فضاءٍ‭ ‬من‭ ‬التأمل‭ ‬والدهشة‭. ‬قصيدتها‭ ‬ليست‭ ‬مجرد‭ ‬كتابة،‭ ‬بل‭ ‬عملية‭ ‬خلق‭ ‬مستمرة،‭ ‬تشبه‭ ‬رحلة‭ ‬الضوء‭ ‬بين‭ ‬الوجود‭ ‬والعدم،‭ ‬بين‭ ‬الظهور‭ ‬والاحتجاب‭.‬

‮«‬تقول‭: ‬في‭ ‬ذكريات‭ ‬امرأة‭ ‬مبعثرة‮»‬

هنا،‭ ‬لا‭ ‬تطلب‭ ‬الدبيس‭ ‬تأريخًا‭ ‬منمقًا‭ ‬لحياتها،‭ ‬بل‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تُروى‭ ‬حكايتها‭ ‬كما‭ ‬هي‭: ‬مبعثرة،‭ ‬متشظية‭ ‬في‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان،‭ ‬كأنها‭ ‬ذاكرةٌ‭ ‬تتناثر‭ ‬بين‭ ‬القلوب‭ ‬والكتب‭. ‬إنها‭ ‬لا‭ ‬تؤمن‭ ‬بالسيرة‭ ‬الخطية،‭ ‬بل‭ ‬ترى‭ ‬أن‭ ‬المرأة،‭ ‬مثل‭ ‬القصيدة،‭ ‬لا‭ ‬تُقرأ‭ ‬دفعةً‭ ‬واحدة،‭ ‬بل‭ ‬عبر‭ ‬تفاصيلها‭ ‬المتفرقة،‭ ‬حيثُ‭ ‬كل‭ ‬شظيةٍ‭ ‬منها‭ ‬تحمل‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬حقيقتها‭.‬

‮«‬هنا‭ ‬قلبي‭ ‬أوزعه‭ ‬في‭ ‬وريقات‮»‬

في‭ ‬هذا‭ ‬السطر،‭ ‬تنبثق‭ ‬نزعتها‭ ‬الكرونولوجية،‭ ‬إذ‭ ‬تبدو‭ ‬نصوصها‭ ‬كأوراقٍ‭ ‬متناثرةٍ‭ ‬في‭ ‬الزمن،‭ ‬لا‭ ‬تنتمي‭ ‬إلى‭ ‬لحظةٍ‭ ‬واحدة،‭ ‬بل‭ ‬تُوزع‭ ‬بين‭ ‬الأمس‭ ‬والغد،‭ ‬بين‭ ‬الذكرى‭ ‬والتوقع‭. ‬كل‭ ‬ورقةٍ‭ ‬تحتفظ‭ ‬بجزءٍ‭ ‬من‭ ‬القلب،‭ ‬وكل‭ ‬قلبٍ‭ ‬هو‭ ‬حكايةٌ‭ ‬تُسكب‭ ‬على‭ ‬الورق،‭ ‬لا‭ ‬لكي‭ ‬تكتمل،‭ ‬بل‭ ‬لتظل‭ ‬ناقصةً‭ ‬بشكلٍ‭ ‬جميل،‭ ‬كأنها‭ ‬نصٌ‭ ‬لا‭ ‬ينتهي‭ ‬إلا‭ ‬ليبدأ‭ ‬من‭ ‬جديد‭.‬

‮«‬لأنني‭ ‬امرأة‭ ‬متسربة‭ ‬من‭ ‬ذاتها‮»‬

في‭ ‬‮«‬حزنائيل‮»‬،‭ ‬تكتب‭ ‬الدبيس‭ ‬عن‭ ‬ذاتٍ‭ ‬لا‭ ‬تثبت‭ ‬في‭ ‬شكلٍ‭ ‬واحد،‭ ‬بل‭ ‬تتسرب‭ ‬كما‭ ‬يتسرب‭ ‬الضوء‭ ‬عبر‭ ‬الشقوق‭. ‬إنها‭ ‬ليست‭ ‬امرأةً‭ ‬جامدة‭ ‬في‭ ‬هويةٍ‭ ‬محددة،‭ ‬بل‭ ‬كيانٌ‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬تدفقٍ‭ ‬دائم،‭ ‬تتنقل‭ ‬بين‭ ‬الحضور‭ ‬والغياب،‭ ‬كأنها‭ ‬تحاول‭ ‬الإمساك‭ ‬بروحها‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تفلت‭ ‬منها‭. ‬هنا،‭ ‬يصبح‭ ‬الشعر‭ ‬وسيلتها‭ ‬للبقاء،‭ ‬وسيلتها‭ ‬لملامسة‭ ‬ذاتها‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬الذات‭ ‬متحركة‭ ‬كالماء،‭ ‬عصيةً‭ ‬على‭ ‬التقييد‭.‬

‮«‬متأرجحة‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬لائها‭ ‬ونعمها‮»‬

لا‭ ‬يعكس‭ ‬هذا‭ ‬التذبذب‭ ‬حيرةً‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬يكشف‭ ‬عن‭ ‬وعيٍ‭ ‬عميقٍ‭ ‬بحتمية‭ ‬الخيارات،‭ ‬حيثُ‭ ‬كل‭ ‬قرارٍ‭ ‬هو‭ ‬مفترق‭ ‬طرق‭ ‬بين‭ ‬الرفض‭ ‬والقبول،‭ ‬بين‭ ‬التمسك‭ ‬والتخلي‭. ‬في‭ ‬عالمها،‭ ‬لا‭ ‬توجد‭ ‬إجاباتٌ‭ ‬نهائية،‭ ‬بل‭ ‬أسئلةٌ‭ ‬مستمرةٌ‭ ‬تنسج‭ ‬المعنى،‭ ‬وكأنها‭ ‬تكتب‭ ‬من‭ ‬المنطقة‭ ‬التي‭ ‬تسبق‭ ‬اليقين،‭ ‬حيثُ‭ ‬التردد‭ ‬هو‭ ‬جزءٌ‭ ‬من‭ ‬الحقيقة‭ ‬وليس‭ ‬نقيضها‭.‬

‮«‬على‭ ‬حافة‭ ‬وجود‭ ‬لا‭ ‬موجود‮»‬

إنها‭ ‬تقف‭ ‬عند‭ ‬التخوم،‭ ‬حيثُ‭ ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬واضحٌ‭ ‬تمامًا،‭ ‬حيثُ‭ ‬الشعر‭ ‬نفسه‭ ‬يصبح‭ ‬جسرًا‭ ‬بين‭ ‬الملموس‭ ‬والغامض،‭ ‬بين‭ ‬الحقيقة‭ ‬والخيال‭. ‬الدبيس‭ ‬ليست‭ ‬شاعرةً‭ ‬توثق‭ ‬الواقع،‭ ‬بل‭ ‬تحلق‭ ‬فوقه،‭ ‬تراقبه‭ ‬من‭ ‬زاويةٍ‭ ‬لا‭ ‬يصلها‭ ‬أحد،‭ ‬تكتب‭ ‬وكأنها‭ ‬ترى‭ ‬الكون‭ ‬من‭ ‬مسافةٍ‭ ‬تجعلها‭ ‬تدرك‭ ‬تفاصيله‭ ‬الخفية‭. ‬إنها‭ ‬ليست‭ ‬هنا‭ ‬تمامًا،‭ ‬لكنها‭ ‬أيضًا‭ ‬ليست‭ ‬بعيدةً‭ ‬كليًا،‭ ‬تترك‭ ‬أثرها‭ ‬كما‭ ‬يفعل‭ ‬النسيم‭: ‬يمر‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يُرى‭ ‬لكنه‭ ‬يُحس‭.‬

‮«‬مغمورة‭ ‬ملء‭ ‬الأقصي‭ ‬والدواني‭ ‬بالرحمة‮»‬

رغم‭ ‬كل‭ ‬تيهها‭ ‬الجميل،‭ ‬فهي‭ ‬ليست‭ ‬غارقةً‭ ‬في‭ ‬العدم،‭ ‬بل‭ ‬ممتلئةٌ‭ ‬حتى‭ ‬أقاصيها‭ ‬بالرحمة،‭ ‬حتى‭ ‬أدناها‭ ‬وأعلاها‭ ‬بلطفٍ‭ ‬خفي‭. ‬إنها‭ ‬تعرف‭ ‬أن‭ ‬الحياة‭ ‬رغم‭ ‬تناقضاتها‭ ‬تحتضنها،‭ ‬وأن‭ ‬الشعر،‭ ‬مهما‭ ‬كان‭ ‬منفلتًا،‭ ‬يظل‭ ‬عودةً‭ ‬دائمةً‭ ‬إلى‭ ‬حضن‭ ‬الروح،‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬الامتلاء‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬برهان،‭ ‬لأنه‭ ‬يُحس‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يُقال‭.‬

الظهور‭ ‬حين‭ ‬يكون‭ ‬الغياب‭ ‬اختيارًا

في‭ ‬زمنٍ‭ ‬أصبحت‭ ‬فيه‭ ‬الصورة‭ ‬أداة‭ ‬التعريف‭ ‬الأولى،‭ ‬اختارت‭ ‬فاطمة‭ ‬الدبيس‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬شاعرةً‭ ‬بلا‭ ‬ملامح،‭ ‬أن‭ ‬تترك‭ ‬صوتها‭ ‬يتحدث‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تربطه‭ ‬بالضوء‭. ‬إنها‭ ‬تدرك‭ ‬أن‭ ‬الشعر‭ ‬ليس‭ ‬بحاجةٍ‭ ‬إلى‭ ‬هويةٍ‭ ‬مرئية،‭ ‬بل‭ ‬إلى‭ ‬شعورٍ‭ ‬صادق‭ ‬إلى‭ ‬كلماتٍ‭ ‬تصل‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يُعرف‭ ‬صاحبها‭. ‬إن‭ ‬غيابها‭ ‬ليس‭ ‬نقصًا،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬جزءٌ‭ ‬من‭ ‬تجربتها‭ ‬الإبداعية،‭ ‬حيثُ‭ ‬يكون‭ ‬الحضور‭ ‬في‭ ‬أثر‭ ‬الكلمات،‭ ‬لا‭ ‬في‭ ‬صاحبها‭.‬

ختامًا

إن‭ ‬فاطمة‭ ‬الدبيس‭ ‬ليست‭ ‬مجرد‭ ‬شاعرة،‭ ‬بل‭ ‬تجربةٌ‭ ‬متكاملة،‭ ‬تكتب‭ ‬بوعيٍ‭ ‬عميقٍ‭ ‬بأن‭ ‬الجمال‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬الاكتمال،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬التبعثر‭ ‬الجميل،‭ ‬في‭ ‬الامتلاء‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يلغي‭ ‬الفراغ،‭ ‬في‭ ‬البوح‭ ‬الذي‭ ‬يظل‭ ‬معلقًا‭ ‬بين‭ ‬الوضوح‭ ‬والهمس‭. ‬في‭ ‬كل‭ ‬قصيدة،‭ ‬تترك‭ ‬للقارئ‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬نفسها،‭ ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬كلمة،‭ ‬ترسم‭ ‬طريقًا‭ ‬نحو‭ ‬ذاتها‭ ‬التي‭ ‬تتجدد‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬حرف‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا