انعقد في البحرين مؤخرا مؤتمر الحوار الإسلامي الإسلامي، مبادرة مهمة وضرورية من قبل جلالة الملك المعظم تعبيرا عن حرصة على توحيد الأمة، وباقتراح من الأزهر الشريف. حضر هذا الحوار فضيلة شيخ الأزهر الشريف الدكتور أحمد الطيب ومشاركة نخبة من علماء الأمة وقياداتها الدينية والفكرية من مختلف دول العالم الاسلامي. شهدت الأمة الإسلامية محاولات سابقة لتعزيز الوحدة بين المذاهب والطوائف المختلفة. غير أن هذا المؤتمر يمثل أهمية خاصة نظراً للظروف الحساسة التي تمر بها الأمة. فتوقيت هذه المبادرة مهم ويعبر عن ما تتعرض له الأمة من تحديات نتيجة الاختلافات والخلافات التي أضعفتها وشجعت إسرائيل ودول غربية خاضعة للصهيونية العالمية على تكرار الاعتداءات إلى أن وصل الأمر إلى ارتكاب جرائم إبادة جماعية يتعرض لها الشعب الفلسطيني، انتهى بهم الأمر إلى قرار تطهير عرقي وتهجير لسكان غزة. وما لم يوضع حد لهذه الوحشية الصهيونية العالمية والاستهتار بالقانون الدولي وحقوق الإنسان فإن الاعتداء قد يطال باقي الدول العربية في صيغ مختلفة. ومع أن الأمة رفضت المقترحات، إلا أنه يتعين علينا كأمة إسلامية أن نطرح السؤال بقوة لماذا يحدث ذلك؟
ناقش المؤتمر عددا من القضايا بدأت بالتباين المذهبي واعتباره مصدر قوة وفرصا لإثراء الفكر الإسلامي. فالتنوع مصدر قوة لتحقيق الوحدة الوطنية والوحدة الإسلامية. كما وصل المؤتمرون إلى قناعة بأن تراجع الأمة حدث عندما تخلت عن لغة الحوار بين الدولة ومجتمعها وبين أفراد المجتمع، وكذلك ترك حرية النقد والرأي والتعبير ويرى المؤتمرون أن من دونها لا يكون هناك إصلاح. فالحوار الإسلامي سيكون حجر الأساس في ترسيخ قيم التعايش والتفاهم.
توصل المؤتمرون إلى أن بداية الحوار يكون ببدء مرحلة جديدة تمكن كل منا من التعبير عن جوهر الإسلام ينتهي بتجديد الفكر الإسلامي والتمهيد لمرحة جديدة يكون مرجعها القرآن الكريم تمكننا من التعامل الرشيد مع التحديات التي تواجه الأمة وتعيق مسيرتها الحضارية. في هذه المرحلة علينا أن ندرك، وفق ما قاله الدكتور أسامة الأزهري (وزير الأوقاف المصري): «إن التنوع المذهبي والفكري من سنن الكون والحياة، ولا ينبغي أن تتحول الخلافات إلى صراعات أو قطيعة بين أبناء الأمة».
فالحوار العقلاني يمكن أن يحدث بين من يريد أن يتحاور ويناقش ويطرح رؤيته مستندا على أدلة من القرآن الكريم، أو كما قالت الـدكـتـورة نهلة الصعيدي مستشارة شيخ الأزهر لـشؤون الـوافـديـن «العودة إلى القرآن». وهذه الإشارة الثانية التي أكد فيها المؤتمرون أهمية مرجعية القرآن ومركزيته في الحوار مع إدراك إمكانية وجود اختلاف في التفسير والفهم، وألا يُلزم أحد الآخرين بفهمه وبتفسيره هو. هذا يشجع الفردانية ويرفض ثقافة الجماعة أو حسب علماء الاجتماع «ثقافة القطيع» والسير خلف الجماعة ليس لقناعة وإنما للاتباع. كذلك من المخاطر التي حذر منها المؤتمرون هي كثرة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، مما أدى إلى إضعاف الإيمان لدى الشباب واتجاه البعض إلى الإلحاد. ويرون ضرورة تنقيح التراث والخطاب الديني وإزالة ما علق به من مغالاة وتقديس التاريخ وسردياته وأحداثه وشخصياته.
القضية الثانية المهمة التي برزت في مؤتمر الحوار الإسلامي الإسلامي هي أهمية الحرية الفكرية وما يشملها من حرية الرأي وحق الاختلاف. فقد أكد الشيخ مضر الحلو، من الحوزة العلمية، أهمية حرية الرأي والحرية الفكرية ويرى أنها مهمة القيادات السياسية والدينية والفكرية. يؤكد ذلك الشيخ أحمد بن سعود اليابي فيقول إن ازدهار الإسلام حدث في الفترة التي كان العلماء قادرين على إدارة خلافاتهم بالحوار والنقاش العلمي، بينما أدت التفسيرات المتشددة والتدخلات السياسية إلى إذكاء الانقاسامات وتحوير الأحداث وتدوينها، فالحوار عندما ينبني على أسس الاحترام المتبادل والإنصاف والرغبة الصادقة في التفاهم يؤدي إلى تحقيق التقارب بين المسلمين بدلا من تعميق الخلافات. سادت في الحضارة الإسلامية مرحلة من الحرية الفكرية أنتجت العديد من المدارس الكلامية والعقائدية والفقهية والعلمية قادها علماء من شتى المجالات. في تلك الفترة، التي حكم فيها الخليفة العباسي المأمون، ارتفع صوت العقل والنقاش والحوار، لكنه سرعان ما انتكس بمنح إحدى الفرق (المعتزلة) سلطة سياسية جعلت من عقيدتهم إلزامية للناس، بدأ بعدها الانشقاق والخلاف انتهى بعصر الفكر الواحد والعقيدة القادرية المفروضة في القرن الرابع الميلادي، وبدأ الانحدار في الحضارة الإسلامية وجمود الفكر.
نستنتج من التاريخ أن الحرية الفكرية وانفتاحها على الثقافات السابقة، هي التي أدت إلى قيام الحضارة الإسلامية، وقد كان العصر الذهبي في العهد العباسي وفي الأندلس، والتي استقى منها الغرب تقدمه. ففي تلك الحقبة كانت الحياة نابضة بالنقاش والحوار والاكتشافات العلمية في بيئة مفتوحة على جميع الآراء والأفكار وخصوصا في الكوفة وبغداد. ثمرة ذلك أن نبغت الثقافة العربية الإسلامية في العلوم الطبيعية والفلك والرياضيات. بعد أن اُغلق الباب في المشرق العربي وأصبح الفكر الحر بعيد المنال وخطرا على حياة صاحبه (مثل الإمام الطبري وغيره)، الذين اختلفوا مع الفكر السائد. انتقل بعدها مشعل الحضارة الإسلامية إلى المغرب الإسلامي (غرناطة) وبلغ أوجه من حيث قيمة الفرد (الفردانية) في فكر ابن حزم الذي دعا إلى حرية الفرد في التفكير والاختيار، مما أتاح للناس التفكير بشكل مستقل، وعدم الاعتماد فقط على التقاليد أو الآراء السائدة. كما أكد استخدام العقل كأداة لفهم النصوص الدينية، مما أدى إلى تحفيز النقاشات الفلسفية والدينية. من هذا المؤتمر ينبغي أن تدرك الدول الإسلامية والعربية أهمية هذه الحرية الفكرية في إنتاج العلم والمعرفة.
من التوصيات المهمة التي خرجت من المؤتمر هي أولا: إنشاء رابطة الحوار الإسلامي لفتح قنوات اتصال بين مكونات الأمة، وثانيا: إطلاق حوار شبابي بين الطوائف الإسلامية وإطلاق مبادرات شبابية مشتركة تهدف إلى خلق بيئة تواصل وحوار بين الشباب وثالثا: تجريم التعدي على الخصوصية المذهبية ومجابهة الكراهية. إدارة هذه الحوارات ينبغي أن تعتمد مبادئ الانفتاح والحرية الفكرية التي خلص إليها المؤتمر، وحق كل إنسان أن يصل إلى نتائجه الخاصة به، وتأكيد إعمال العقل ومناقشة المسلمات بمرجعية القرآن الكريم. مع التأكيد وفق ما قاله المفكر الإسلامي الدكتور بشار عواد معروف: «ضرورة أن يستند الحوار الإسلامي إلى رؤية منهجية واضحة تركز على المشتركات بين المذاهب وتؤمن بحق الاختلاف، من منطلق أنه لا أحد يمتلك الحقيقة المطلقة»، ونضيف أن تكون عبارة الإمام الشافعي (رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب) رمزا لتقبل الخلاف والاختلاف.
drmekuwaiti@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك