تحتفل البحرين في يوم 18 مارس من كل عام بيوم الشراكة المجتمعية والانتماء الوطني، وهو مناسبة تجسد التعاون المثمر بين الحكومة، والقطاع الخاص، والمجتمع المدني، وتعدّ فاعلية هذه الشراكة أحد أهم مظاهر التحول الديمقراطي في المملكة، وهي نهج مستمر تسلكه لدى إعداد أي استراتيجية، أو تشريع أو برنامج عمل، كما يقوم بالإنجاز ومتابعته فرق عمل وطنية تشارك فيها هذه الأطراف الثلاثة.
ويُعدّ ميثاق العمل الوطني، أحد أبرز ثمار الشراكة المجتمعية، حيث حظي بإجماع شعبي شامل، متضمّنًا منظومة حقوقية شاملة للمواطن؛ مدنية، وسياسية، واقتصادية، واجتماعية وثقافية، وتكرّست هذه الحقوق في دستور البحرين المعدل لعام 2002 ضمن مواد ملزمة لجميع السلطات، ثمّ، انطلقت العملية التشريعية تنقح مواد وتعدلها وتضيف قوانين أخرى تقنن هذه المواد الدستورية، ثمّ جاءت برامج الحكومة تضعها موضع التنفيذ، وتخصص لها في الميزانية العامة ما يلزمها من نفقات.
وقد اتسمت السياسة الاقتصادية بعمق البعد الاجتماعي، وتولت الحكومة في هذا الصدد منهاج دولة الرفاه، التي توفر للمواطن كل احتياجاته الاجتماعية من تعليم، وصحة، وإسكان بالمجان، فضلاً عن برامج الدعم والحماية الاجتماعية، وقد اعتمد هذا التخصيص على الإيرادات النفطية، حيث حرصت الحكومة على عدم تحميل المواطن أي أعباء ضريبية لتغطية هذه النفقات.
غير أن موارد البحرين النفطية المحدودة، وانخفاض أسعار النفط، في نفس الوقت الذي تحافظ فيه الحكومة على نفس مستوى الإنفاق الاجتماعي، قد أدى إلى وجود عجز في الميزانية العامة، ألجأ الحكومة إلى الاقتراض. وفي سبتمبر من العام الماضي ارتفع حجم الدين العام إلى نحو 16 مليار دينار، وفي الشهر نفسه رفعت الحكومة سقف الدين إلى 18 مليار دينار، وللسيطرة على اتساع الدين العام، عملت الحكومة على تنويع مصادر الإيرادات، وأدخلت من بين هذه المصادر ضريبة القيمة المضافة، والضريبة الانتقائية، ومن يناير العام الحالي، ضريبة الحد الأدنى على أرباح الشركات متعددة الجنسية العاملة في المملكة، والتي يزيد حجم أعمالها الدولي على 750 مليون يورو.
ويُمكن تعزيز الشراكة المجتمعية من خلال دعم التوازن المالي في البحرين؛ مما ينعكس على الإيرادات والنفقات. ومن المعروف أن المملكة منذ عام 2008، بدأت في تطبيق رؤيتها الاقتصادية 2030، التي عهدت بموجبها إلى القطاع الخاص بالقيام بالنشاط الاقتصادي، وبالتالي، أصبحت الإيرادات التي كانت تذهب إلى القطاع العام من هذا النشاط تذهب الآن إلى القطاع الخاص.
وكانت إيرادات القطاع العام توجه بشكل تلقائي إلى بنود الميزانية العامة، بينما تعود إيرادات القطاع الخاص إليه مباشرة. وعلى الرغم من أن هذه الخطوة أدت إلى نقل مشروعات كانت الحكومة تتولى تنفيذها إلى القطاع الخاص؛ مما ساهم في تقليص الإنفاق الحكومي على الاستثمارات والنفقات الجارية؛ فإن المسؤولية الاجتماعية -وخاصة في مجتمع خالٍ من الضرائب مثل البحرين- تفرض على القطاع الخاص المشاركة في تحمل أعباء الإنفاق الاجتماعي، مما يساعد في تخفيف الضغط عن الحكومة في هذا المجال.
ويُمكن تبرير انخفاض مخصصات التعليم والصحة في الميزانية العامة بالدور المتزايد الذي يلعبه القطاع الخاص، حيث بلغ عدد المؤسسات التعليمية الخاصة 287، شملت مدارس، ورياض أطفال، وحضانات. ويُوظف القطاع الخاص في مجال التعليم 3% من إجمالي القوى العاملة في القطاع الخاص، ويسهم في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 2.5%، وقد ساهم إنشاء هذه المؤسسات وإدارتها في تخفيف الأعباء المالية عن الحكومة، وهو ما انعكس في الميزانية العامة.
ورغم ذلك، يمكن للقطاع الخاص أن يلعب دورًا أكبر إذا قدم مجموعة من الحوافز، بالإضافة إلى تحسين جودة التعليم، كرعاية الموهوبين، وتوفير منح دراسية مجانية للمتفوقين، وتخفيض المصروفات للأسر المحتاجة، وتخصيص جزء من أرباحه لتنمية البيئة التي تعمل فيها المؤسسات التعليمية، وفي مقابل 3 جامعات حكومية، توجد 12 جامعة خاصة، إلا أن الإقبال على التعليم الجامعي في الجامعات الحكومية لا يزال هو الأكبر؛ ما يقتضي من القطاع الخاص صاحب هذه الجامعات أن يبحث في الأسباب ليكون أكثر جاذبية للطلاب، حيث إن الجامعات الحكومية تستحوذ على 73.5% من إجمالي الطلبة المسجلين في برامج التعليم العالي لعام 2024. كما أن مبدأ المسؤولية الاجتماعية يحفز القطاع الخاص على تخصيص جزء من أرباحه لخدمة المجتمع والبيئة، بالإضافة إلى تطوير استثماراته للتوسع في منشآت وبرامج التعليم العالي.
وفي مجال الصحة، أخذ القطاع الخاص يلعب دورًا بارزًا في الرعاية الصحية، حيث بلغ عدد المستشفيات الخاصة 21 مستشفى مقابل 6 مستشفيات حكومية، وتجاوز عدد المؤسسات الصحية الخاصة 800 مؤسسة مرخصة، تشمل المراكز، والعيادات الطبية بمختلف تخصصاتها، فضلاً عن 400 صيدلية؛ ما أسهم في توفير التغطية الصحية الشاملة في جميع أنحاء المملكة لجميع السكان، ولا شك أن هذا العدد الضخم من مؤسسات القطاع الخاص الصحية قد خفف عن الحكومة أعباء إنشاء وإدارة هذه المؤسسات، وانعكس ذلك فيما تخصصه في الميزانية للقطاع الصحي.
إلا أن القطاع الخاص، باعتباره قطاعًا ربحيًا، لا يقدم خدماته بالمجان للمستفيدين من مؤسساته، مثلما هو الحال في مؤسسات التعليم الخاصة، على عكس القطاع الحكومي الذي يوفر هذه الخدمات مجانًا. ولا يمكن لوم القطاع الخاص على سعيه لتحقيق عوائد من استثماراته، ولكن مبدأ المسؤولية الاجتماعية يحتم عليه إعادة النظر في تسعير الخدمات التي يقدمها، مع ضرورة تخصيص جزء من أرباحه لدعم الأسر المحتاجة، بالإضافة إلى الاهتمام بالبيئة والمجتمع المحلي.
ومع ذلك، فإن منظمات المجتمع المدني، بوصفها الطرف الثالث في الشراكة المجتمعية قادرة على القيام بما لا يستطيع القطاع الخاص تحقيقه، إذ إنها منظمات غير هادفة للربح. وبالتالي، فإن دخولها في مجالات التعليم، والرعاية الصحية، يسمح بتقديم هذه الخدمات بتكلفتها الحقيقية. وفي العديد من دول العالم، يلعب المجتمع المدني دورًا نشطًا في إقامة وإدارة المؤسسات التعليمية والصحية، ففي مصر، جامعة القاهرة من إنشاء المجتمع المدني، فضلا عن العديد من المستشفيات، مثل مستشفى سرطان الأطفال، كما أن المستشفيات التي تديرها الجمعيات الخيرية تم إنشاؤها وتشغيلها بفضل جهود المجتمع المدني. وفي البحرين، يمكن أن يسهم دخول المجتمع المدني في هذه الأنشطة في تخفيف الأعباء عن الميزانية العامة، سواء من حيث نفقات الإنشاء أو الإدارة، بالإضافة إلى تخفيف العبء المالي عن المستفيدين من خدمات هذه المنشآت.
وبالنظر إلى التعاونيات كمكون من مكونات المجتمع المدني البحريني، نجد أن دورها مازال محصورًا في خدمات توزيع السلع الاستهلاكية والغذائية، وهي فعلاً تؤدي دورًا ملموسًا من حيث السيطرة على ارتفاع أسعار هذه السلع؛ لكن نشاطها لم يمتد إلى مجالات الإسكان، أو التعليم، أو الصحة، أو النقل، أو الإنشاء والتعمير، أو النشاط المصرفي، أو غيرها من أوجه النشاط الاقتصادي برغم أن المجال مفتوح أمامها للعمل.
وفي المملكة نشط القطاع الخاص والمجتمع المدني في إقامة دور الرعاية الاجتماعية وإدارتها، كدار بنك البحرين الوطني، وجمعية دار المنار للبنك الأهلي لرعاية الوالدين، ونادي سترة لرعاية الوالدين، ونادي إبراهيم خليل كانو الاجتماعي للوالدين، ونادي درة الرفاع لرعاية الوالدين، ونادي عبدالله بن يوسف فخرو الاجتماعي لرعاية الوالدين، ونادي عبدالرحمن كانو الاجتماعي لرعاية الوالدين، ومركز عبدالله بن خالد لرعاية الوالدين، ونادي الحورة والقضيبة لرعاية الوالدين، ولا شك أن هذا النشاط قد خفف عن كاهل الحكومة في مصروفات إنشاء وإدارة هذه المؤسسات.
ولأهمية دور الشراكة المجتمعية في صنع القرار، وتخفيف الأعباء؛ اعتمدت المؤسسات الحكومية مبدأ الشراكة المجتمعية في أعمالها. من ذلك هيئة تنظيم سوق العمل تمكين، حيث تنص المادة (5) من قانون تنظيم سوق العمل 19 لسنة 2006، أنه في حالة عزم الهيئة إصدار أية أنظمة أو لوائح أو قرارات أو اتخاذ أي تدابير ذات تأثير ملموس على سوق العمل، فإنه يتعين عليها عقد مشاورات مع الجمهور والجهات المعنية لاستطلاع آرائهم، قبل إصدار أي من تلك الأنظمة أو اللوائح أو القرارات أو اتخاذ تلك التدابير، كما تعتمد وزارة العمل على الشراكة المجتمعية لتحقيق أهدافها عن طريق التعاون مع القطاع الخاص والقطاع الأهلي، بما فيها الاتحادات، والنقابات العمالية.
وفي وزارة الداخلية، تعدّ الشراكة المجتمعية أساسية في تحقيق الأمن، وتتبنى وزارة الصناعة نفس النهج لتشجيع ريادة الأعمال، ومن ثمّ، تقليل الاتجاه إلى الوظائف الحكومية، وفي وزارة التنمية الاجتماعية العديد من المجالات مفتوحة لهذه الشراكة؛ كالبرامج والمشاريع الرعائية والتأهيلية والتدريبية، والبرامج والمشاريع التنموية المتعلقة بشؤون تنمية المجتمع، ورعاية الأسرة والإرشاد والتوفيق الأسري، وإدارة المراكز التنموية والرعائية، وأنشأت لهذا الغرض لجنة مختصة تحمل اسم لجنة الشراكة المجتمعية.
وتستطيع الشراكة المجتمعية أن تسد الفجوة بين مخرجات النظام التعليمي واحتياجات سوق العمل، من خلال مراكز التدريب التي توفر لخريج النظام التعليمي المهارات المطلوبة لسوق العمل، وفي حالات كثيرة تقيم مجموعات رجال الأعمال، معاهد فنية ومراكز تدريبية، يتلقى الملتحق بها البرامج الدراسية والتدريب المؤهل للالتحاق بالعمل في مؤسسات هذه المجموعات، مثل تجربة بابكو. وفي مصر، فإن هيئة قناة السويس مثلاً لديها مؤسستها التعليمية والتدريبية الخاصة بها، حيث يلتحق من المرحلة الإعدادية من يريد العمل بشركاتها، وتقوم بتكملة مراحلهم الدراسية وتدريبهم وتأهيلهم، كما أقامت المصانع الموجودة في العاشر من رمضان في مصر معهدا عاليا للتكنولوجيا، يتولون إدارته، وإكساب الملتحقين به المهارات المطلوبة للالتحاق بمصانعهم.
وهناك كثير من المجالات لا يمكن لها أن تتم إلا بالمشاركة المجتمعية، في مقدمتها ما يتعلق بحماية البيئة، وما يتعلق بالوعي الخاص، بترشيد الاستهلاك ووقف الهدر فيه والحفاظ على الصحة العامة، والاستقرار الأسري، وجهود تعزيز الانتماء الوطني، ونشر ثقافة التسامح والعيش المشترك، وكل هذا يسهم في خفض الإنفاق العام في الميزانية، ومن ثمّ، يدعم التوازن المالي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك