اجترح الفيلسوف الفرنسيّ جان فرانسوا ليوتار مصطلح (السرديات الكبرى) في عام 1979؛ ويعني به ذلك النمط من الخطابات التي تتمركز حول افتراضاتها المسبقة ولا تسمح بالتعددية والاختلاف حتى مع تنوّع السياقات الاجتماعيّة والثقافيّة؛ فضلاً عن أنَّها تنكر إمكانية قيام أيّ نوع من أنواع المعرفة والحقيقة خارجها، وتقاوم أيّ محاولة للتغيير أو النقد أو المراجعة. وتكون السرديات الكبرى ذات طبيعة سلطوية وإقصائية تمارس التهميش ضد كلَّ أنواع الخطابات الأخرى الممكنة. وتكون هذه السرديات الكبرى بمثابة الصورة النمطية (stereotype) للشعوب والمجتمعات والحضارات والثقافات والأديان.
لقد اجتذبت عوالم الأزياء بوصفها تمثيلات ثقافيّة عددًا كبيرًا من الباحثين والنقاد، وأشير هنا إلى بعض الأسماء مثل رينهارت دوزي ورولان بارت وماري ستيلمان وغيرهم الذين درسوها بوصفها نصوصًا خاضعة للتأويل على اختلاف مرجعياتهم الثقافيّة والفكرية. إنَّ دراسة تواريخ الأزياء العالميّة يسهم بصورة كبيرة في تسليط الضوء على سرديات الجماعات البشرية المختلفة من خلال علاقة الزيِّ بالتاريخ والثقافة، وكذلك يفيدنا التأمُّل في اتجاهات دور الأزياء العالميّة في تسليط الضوء كذلك على القيم الثقافيّة الكبرى التي توجِّه تلك الدار أو غيرها أو بمعنى آخر رؤيتها الثقافيّة لعلاقة الزيّ بالكون كلّه في تنوعاته واختلافاته. ولطالما اتخذت الأزياء بوصفها سرديات كبرى للجماعات الإنسانيّة المختلفة؛ وبالتالي كانت أبرز علامات التنميط الثقافيّ. وفي المقابل ظهرت لدينا (السرديات المضادة)؛ فدور الأزياء الذكية هي تلك الدور التي لديها تلك الفلسفات العميقة وتلك الرؤى الثقافيّة كي يكون الزيّ جسرًا ثقافيًا للتواصل بين الشعوب. إنّ عصر المركزيات الثقافيّة الكبرى انتهى ولم نعد أمام مركزيات وهوامش مطلقًا؛ ولذلك فإنَّ كبريات دور الأزياء العالميّة مثل كريستيان ديور على سبيل المثال تستلهم أزياءها خارج حدود المركزيات التاريخيّة والسرديات الكبرى، وتحتفي بذلك الخليط والتمازج الجميل بين ثقافات المراكز والهوامش التاريخيّة عبر العصور؛ وتحتفي كذلك بعصرنا الذي انهارت فيه تلك الحدود الثقافيّة والتاريخيّة. نحتاج في دراسة الأزياء العربيّة إلى دراسات منهجيّة صادرة عن مقاربات نقدية لدراسة علاقة الزيّ بالتاريخ والثقافة وخاصة السيميائيات الثقافية: دراسات ترصد التنوّع والتشابهات والاختلافات.
ولا تقتصر تطبيقات السيميائيات الثقافيّة على النصوص الإبداعية والفنون الجميلة بتشكلاتها المختلفة فنحن نجد السيميائيات الثقافيّة في سيميائيات المدن التاريخية العالمية العتيقة مثل مدينة سانت بطرسبورغ الروسية. لقد كتب الناقد السيميائيّ الروسيّ الشهير يوري لوتمان عن رمزية هذه المدينة في كتابه المهم (سيمياء الكون)؛ إذ تشتمل هذه المدينة كما يرى على بعدين ثقافيين، البعد الأول المدينة اليوتوبيا، وهي المدينة التي شُيِّدَت بصفتها تحديًا للطبيعة وبوصفها انتصارًا للعقل على العناصر، والبعد الثاني هو الأساطير الأخروية للمدينة، تنبؤات الخراب وتنبؤات الهدم وحلول الطوفان (المدينة اللعنة). إنَّ مدينة سانت بطرسبورغ، كما يرى لوتمان، مدينة تتحدَّى آليات الزمن لأنَّها آلية سيميائية مركبة موِّلدة للثقافة، ولكنها لا تقوم بهذه الوظيفة إلا في الحالة التي تمثّل فيها بوتقة لنصوص وأسنن مختلفة وغير متجانسة هجينة ثقافيًا.
ورغم حداثة إنشاء هذه المدينة إلا أنَّ ثمَّة تاريخاَ ميثولوجيًا أي أسطوريًا، ارتبط بها منذ عهد التأسيس، والنشأة الأولى تشكَّل في مئات الأساطير والروايات الشفاهية التي رافقت مدينة سانت بطرسبورغ التي تحتمل هذه الثنائية المتناقضة (المدينة الجنة اليوتوبيا/ والمدينة اللعنة). وهي المدينة الاصطناعية التي جاءت في غاية التكوين الأسطوري! يقول أودوفسكي عن قصة إنشاء هذه المدينة: «بدأوا بناء المدينة، ولكن في كلّ مرة يضعون حجرًا، يبتلعه المستنقع، يرصون حجرًا على حجر، صخرة على صخرة، عمودًا على عمود، غير أنَّ المستنقع يبتلعهم وعلى السطح لم يكن سوى الطمي. أثناء هذا الوقت كان القيصر يشيّد مركبًا، ثم أتى القيصر الروسيّ بطرس الأول زائرًا: رأى أنَّ مدينته لا تنهض أبدًا من الأرض «لا تعرفون فعل أيّ شيء»، يقول لشعبه، وعلى إيقاع هذه الكلمات بدأ يرفع الصخرة ويقوم بتجميعها في الأجواء، بهذه الطريقة بنى المدينة برمتها، وبعد ذلك وضعها أرضًا». مذهلة هي السيميائيات الثقافية في عمقها وفي تنوعها وفي فرادة تطبيقاتها!
{ أستاذة السَّرديات والنقد الأدبي الحديث
المشارك، كلية الآداب، جامعة البحرين.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك