العدد : ١٧١٥٣ - الاثنين ١٠ مارس ٢٠٢٥ م، الموافق ١٠ رمضان ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٥٣ - الاثنين ١٠ مارس ٢٠٢٥ م، الموافق ١٠ رمضان ١٤٤٦هـ

الثقافي

سرديات: في السيميائيات الثقافية

السبت ٠٨ مارس ٢٠٢٥ - 02:00

اجترح‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الفرنسيّ‭ ‬جان‭ ‬فرانسوا‭ ‬ليوتار‭ ‬مصطلح‭ (‬السرديات‭ ‬الكبرى‭) ‬في‭ ‬عام‭ ‬1979؛‭ ‬ويعني‭ ‬به‭ ‬ذلك‭ ‬النمط‭ ‬من‭ ‬الخطابات‭ ‬التي‭ ‬تتمركز‭ ‬حول‭ ‬افتراضاتها‭ ‬المسبقة‭ ‬ولا‭ ‬تسمح‭ ‬بالتعددية‭ ‬والاختلاف‭ ‬حتى‭ ‬مع‭ ‬تنوّع‭ ‬السياقات‭ ‬الاجتماعيّة‭ ‬والثقافيّة؛‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬أنَّها‭ ‬تنكر‭ ‬إمكانية‭ ‬قيام‭ ‬أيّ‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬أنواع‭ ‬المعرفة‭ ‬والحقيقة‭ ‬خارجها،‭ ‬وتقاوم‭ ‬أيّ‭ ‬محاولة‭ ‬للتغيير‭ ‬أو‭ ‬النقد‭ ‬أو‭ ‬المراجعة‭. ‬وتكون‭ ‬السرديات‭ ‬الكبرى‭ ‬ذات‭ ‬طبيعة‭ ‬سلطوية‭ ‬وإقصائية‭ ‬تمارس‭ ‬التهميش‭ ‬ضد‭ ‬كلَّ‭ ‬أنواع‭ ‬الخطابات‭ ‬الأخرى‭ ‬الممكنة‭. ‬وتكون‭ ‬هذه‭ ‬السرديات‭ ‬الكبرى‭ ‬بمثابة‭ ‬الصورة‭ ‬النمطية‭ (‬stereotype‭) ‬للشعوب‭ ‬والمجتمعات‭ ‬والحضارات‭ ‬والثقافات‭ ‬والأديان‭.‬

لقد‭ ‬اجتذبت‭ ‬عوالم‭ ‬الأزياء‭ ‬بوصفها‭ ‬تمثيلات‭ ‬ثقافيّة‭ ‬عددًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ ‬والنقاد،‭ ‬وأشير‭ ‬هنا‭ ‬إلى‭ ‬بعض‭ ‬الأسماء‭ ‬مثل‭ ‬رينهارت‭ ‬دوزي‭ ‬ورولان‭ ‬بارت‭ ‬وماري‭ ‬ستيلمان‭ ‬وغيرهم‭ ‬الذين‭ ‬درسوها‭ ‬بوصفها‭ ‬نصوصًا‭ ‬خاضعة‭ ‬للتأويل‭ ‬على‭ ‬اختلاف‭ ‬مرجعياتهم‭ ‬الثقافيّة‭ ‬والفكرية‭. ‬إنَّ‭ ‬دراسة‭ ‬تواريخ‭ ‬الأزياء‭ ‬العالميّة‭ ‬يسهم‭ ‬بصورة‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬تسليط‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬سرديات‭ ‬الجماعات‭ ‬البشرية‭ ‬المختلفة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬علاقة‭ ‬الزيِّ‭ ‬بالتاريخ‭ ‬والثقافة،‭ ‬وكذلك‭ ‬يفيدنا‭ ‬التأمُّل‭ ‬في‭ ‬اتجاهات‭ ‬دور‭ ‬الأزياء‭ ‬العالميّة‭ ‬في‭ ‬تسليط‭ ‬الضوء‭ ‬كذلك‭ ‬على‭ ‬القيم‭ ‬الثقافيّة‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬توجِّه‭ ‬تلك‭ ‬الدار‭ ‬أو‭ ‬غيرها‭ ‬أو‭ ‬بمعنى‭ ‬آخر‭ ‬رؤيتها‭ ‬الثقافيّة‭ ‬لعلاقة‭ ‬الزيّ‭ ‬بالكون‭ ‬كلّه‭ ‬في‭ ‬تنوعاته‭ ‬واختلافاته‭. ‬ولطالما‭ ‬اتخذت‭ ‬الأزياء‭ ‬بوصفها‭ ‬سرديات‭ ‬كبرى‭ ‬للجماعات‭ ‬الإنسانيّة‭ ‬المختلفة؛‭ ‬وبالتالي‭ ‬كانت‭ ‬أبرز‭ ‬علامات‭ ‬التنميط‭ ‬الثقافيّ‭. ‬وفي‭ ‬المقابل‭ ‬ظهرت‭ ‬لدينا‭ (‬السرديات‭ ‬المضادة‭)‬؛‭ ‬فدور‭ ‬الأزياء‭ ‬الذكية‭ ‬هي‭ ‬تلك‭ ‬الدور‭ ‬التي‭ ‬لديها‭ ‬تلك‭ ‬الفلسفات‭ ‬العميقة‭ ‬وتلك‭ ‬الرؤى‭ ‬الثقافيّة‭ ‬كي‭ ‬يكون‭ ‬الزيّ‭ ‬جسرًا‭ ‬ثقافيًا‭ ‬للتواصل‭ ‬بين‭ ‬الشعوب‭. ‬إنّ‭ ‬عصر‭ ‬المركزيات‭ ‬الثقافيّة‭ ‬الكبرى‭ ‬انتهى‭ ‬ولم‭ ‬نعد‭ ‬أمام‭ ‬مركزيات‭ ‬وهوامش‭ ‬مطلقًا؛‭ ‬ولذلك‭ ‬فإنَّ‭ ‬كبريات‭ ‬دور‭ ‬الأزياء‭ ‬العالميّة‭ ‬مثل‭ ‬كريستيان‭ ‬ديور‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬تستلهم‭ ‬أزياءها‭ ‬خارج‭ ‬حدود‭ ‬المركزيات‭ ‬التاريخيّة‭ ‬والسرديات‭ ‬الكبرى،‭ ‬وتحتفي‭ ‬بذلك‭ ‬الخليط‭ ‬والتمازج‭ ‬الجميل‭ ‬بين‭ ‬ثقافات‭ ‬المراكز‭ ‬والهوامش‭ ‬التاريخيّة‭ ‬عبر‭ ‬العصور؛‭ ‬وتحتفي‭ ‬كذلك‭ ‬بعصرنا‭ ‬الذي‭ ‬انهارت‭ ‬فيه‭ ‬تلك‭ ‬الحدود‭ ‬الثقافيّة‭ ‬والتاريخيّة‭. ‬نحتاج‭ ‬في‭ ‬دراسة‭ ‬الأزياء‭ ‬العربيّة‭ ‬إلى‭ ‬دراسات‭ ‬منهجيّة‭ ‬صادرة‭ ‬عن‭ ‬مقاربات‭ ‬نقدية‭ ‬لدراسة‭ ‬علاقة‭ ‬الزيّ‭ ‬بالتاريخ‭ ‬والثقافة‭ ‬وخاصة‭ ‬السيميائيات‭ ‬الثقافية‭: ‬دراسات‭ ‬ترصد‭ ‬التنوّع‭ ‬والتشابهات‭ ‬والاختلافات‭.‬

ولا‭ ‬تقتصر‭ ‬تطبيقات‭ ‬السيميائيات‭ ‬الثقافيّة‭ ‬على‭ ‬النصوص‭ ‬الإبداعية‭ ‬والفنون‭ ‬الجميلة‭ ‬بتشكلاتها‭ ‬المختلفة‭ ‬فنحن‭ ‬نجد‭ ‬السيميائيات‭ ‬الثقافيّة‭ ‬في‭ ‬سيميائيات‭ ‬المدن‭ ‬التاريخية‭ ‬العالمية‭ ‬العتيقة‭ ‬مثل‭ ‬مدينة‭ ‬سانت‭ ‬بطرسبورغ‭ ‬الروسية‭. ‬لقد‭ ‬كتب‭ ‬الناقد‭ ‬السيميائيّ‭ ‬الروسيّ‭ ‬الشهير‭ ‬يوري‭ ‬لوتمان‭ ‬عن‭ ‬رمزية‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬المهم‭ (‬سيمياء‭ ‬الكون‭)‬؛‭ ‬إذ‭ ‬تشتمل‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬كما‭ ‬يرى‭ ‬على‭ ‬بعدين‭ ‬ثقافيين،‭ ‬البعد‭ ‬الأول‭ ‬المدينة‭ ‬اليوتوبيا،‭ ‬وهي‭ ‬المدينة‭ ‬التي‭ ‬شُيِّدَت‭ ‬بصفتها‭ ‬تحديًا‭ ‬للطبيعة‭ ‬وبوصفها‭ ‬انتصارًا‭ ‬للعقل‭ ‬على‭ ‬العناصر،‭ ‬والبعد‭ ‬الثاني‭ ‬هو‭ ‬الأساطير‭ ‬الأخروية‭ ‬للمدينة،‭ ‬تنبؤات‭ ‬الخراب‭ ‬وتنبؤات‭ ‬الهدم‭ ‬وحلول‭ ‬الطوفان‭ (‬المدينة‭ ‬اللعنة‭). ‬إنَّ‭ ‬مدينة‭ ‬سانت‭ ‬بطرسبورغ،‭ ‬كما‭ ‬يرى‭ ‬لوتمان،‭ ‬مدينة‭ ‬تتحدَّى‭ ‬آليات‭ ‬الزمن‭ ‬لأنَّها‭ ‬آلية‭ ‬سيميائية‭ ‬مركبة‭ ‬موِّلدة‭ ‬للثقافة،‭ ‬ولكنها‭ ‬لا‭ ‬تقوم‭ ‬بهذه‭ ‬الوظيفة‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬الحالة‭ ‬التي‭ ‬تمثّل‭ ‬فيها‭ ‬بوتقة‭ ‬لنصوص‭ ‬وأسنن‭ ‬مختلفة‭ ‬وغير‭ ‬متجانسة‭ ‬هجينة‭ ‬ثقافيًا‭.‬

ورغم‭ ‬حداثة‭ ‬إنشاء‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬إلا‭ ‬أنَّ‭ ‬ثمَّة‭ ‬تاريخاَ‭ ‬ميثولوجيًا‭ ‬أي‭ ‬أسطوريًا،‭ ‬ارتبط‭ ‬بها‭ ‬منذ‭ ‬عهد‭ ‬التأسيس،‭ ‬والنشأة‭ ‬الأولى‭ ‬تشكَّل‭ ‬في‭ ‬مئات‭ ‬الأساطير‭ ‬والروايات‭ ‬الشفاهية‭ ‬التي‭ ‬رافقت‭ ‬مدينة‭ ‬سانت‭ ‬بطرسبورغ‭ ‬التي‭ ‬تحتمل‭ ‬هذه‭ ‬الثنائية‭ ‬المتناقضة‭ (‬المدينة‭ ‬الجنة‭ ‬اليوتوبيا‭/ ‬والمدينة‭ ‬اللعنة‭). ‬وهي‭ ‬المدينة‭ ‬الاصطناعية‭ ‬التي‭ ‬جاءت‭ ‬في‭ ‬غاية‭ ‬التكوين‭ ‬الأسطوري‭! ‬يقول‭ ‬أودوفسكي‭ ‬عن‭ ‬قصة‭ ‬إنشاء‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭: ‬‮«‬بدأوا‭ ‬بناء‭ ‬المدينة،‭ ‬ولكن‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬مرة‭ ‬يضعون‭ ‬حجرًا،‭ ‬يبتلعه‭ ‬المستنقع،‭ ‬يرصون‭ ‬حجرًا‭ ‬على‭ ‬حجر،‭ ‬صخرة‭ ‬على‭ ‬صخرة،‭ ‬عمودًا‭ ‬على‭ ‬عمود،‭ ‬غير‭ ‬أنَّ‭ ‬المستنقع‭ ‬يبتلعهم‭ ‬وعلى‭ ‬السطح‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬سوى‭ ‬الطمي‭. ‬أثناء‭ ‬هذا‭ ‬الوقت‭ ‬كان‭ ‬القيصر‭ ‬يشيّد‭ ‬مركبًا،‭ ‬ثم‭ ‬أتى‭ ‬القيصر‭ ‬الروسيّ‭ ‬بطرس‭ ‬الأول‭ ‬زائرًا‭: ‬رأى‭ ‬أنَّ‭ ‬مدينته‭ ‬لا‭ ‬تنهض‭ ‬أبدًا‭ ‬من‭ ‬الأرض‭ ‬‮«‬لا‭ ‬تعرفون‭ ‬فعل‭ ‬أيّ‭ ‬شيء‮»‬،‭ ‬يقول‭ ‬لشعبه،‭ ‬وعلى‭ ‬إيقاع‭ ‬هذه‭ ‬الكلمات‭ ‬بدأ‭ ‬يرفع‭ ‬الصخرة‭ ‬ويقوم‭ ‬بتجميعها‭ ‬في‭ ‬الأجواء،‭ ‬بهذه‭ ‬الطريقة‭ ‬بنى‭ ‬المدينة‭ ‬برمتها،‭ ‬وبعد‭ ‬ذلك‭ ‬وضعها‭ ‬أرضًا‮»‬‭. ‬مذهلة‭ ‬هي‭ ‬السيميائيات‭ ‬الثقافية‭ ‬في‭ ‬عمقها‭ ‬وفي‭ ‬تنوعها‭ ‬وفي‭ ‬فرادة‭ ‬تطبيقاتها‭!‬

{‭ ‬أستاذة‭ ‬السَّرديات‭ ‬والنقد‭ ‬الأدبي‭ ‬الحديث

المشارك،‭ ‬كلية‭ ‬الآداب،‭ ‬جامعة‭ ‬البحرين‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا