تاريخيًّا كان هناك أنواع من الخيال غير العلمي الذي يستقرئ الحياة والممات ويشكل مجموعة من المعتقدات التي تبقى راسخة بما فيها من دراما وتفاعل المتناقضات. النماذج المتقابلة فيها وجدت في الأساطير التي من فرط إتقانها وحكمتها خلقت الصورة للآلهة وموقعهم من الخير والشر. أسطورة إيزيس وأوزوريس وحورس ظلت الخيال الذي يفسر على مدى ثلاثة آلاف عام تدفق النيل، وتحقق النماء، ويدفع الناس إلى العدالة التي تحدد الخلق والحساب.
الفكرة ذاتها وجدت في أمم كثيرة وساعدت في تكوين هويتها ومسارها نحو المستقبل. هذا الخيال لعب دورا في تشكيل الأمم وتكوين هويتها وتعميق رؤيتها للعالم وفلسفته، وحتى إلى تطور العلوم الإنسانية منها والطبيعية. الدور الذي لعبته قصص مثل ألف ليلة وليلة جعلت «بساط الريح» نواة تصميم الطائرة التي جاء إلهامها من الطيور ورغبة الإنسان في الانتقال السريع بين العوالم المختلفة. الإنسان المعاصر خلق هو الآخر أساطيره ليس فقط التي فيها «سوبرمان» والرجل العنكبوت، وإنما مضاف لها رؤية للعالم والمملكة الوسطى في البحث عن «آلهة الخاتم» من خلال التعاون ما بين البشر والجان وعناصر أخرى.
التقدم الذي جرى للبشرية خلال القرون الثلاثة الأخيرة مع مولد الثورة الصناعية الأولى حتى الوصول إلى الثورة الرابعة الحالية التي شكل الذكاء الاصطناعي فيها حجر الزاوية الآن في بناء الأمم والتنافس فيما بينها. كل ذلك دفع في اتجاه بناء الخيال العلمي الذي يتحرك فيه البشر في لباس «الروبوت»، والعربات التي تجرى بلا سائق، والنباتات التي تتضاعف غلتها، ويبدو الوصول إلى المريخ مع كل ما هو متوقع من مشاكل يجرى حلها بأسرع مما كان «هاري بوتر» يفعل مع السحرة والجان.
الرحلة الطويلة للإنسانية والتي لا تزيد على عشرة آلاف عام جعلت من الخيال صناعات متكاملة يتزايد إحكامها يوما بعد يوم؛ ومع ذلك فإن قدرة الإنسان على التحكم في نزعاته الشريرة لم تزد على ما كانت عليه عندما التهم التفاحة المحرمة خارجا من الجنة ونازلا إلى الأرض. الدراما الإنسانية ظلت واقعة في علاقات القوة التي يتصورها الإنسان في الآلات، ولكنه يفشل تماما في تنظيم حياته والتحكم في مصيره.
السياسة تظل علما ذا قدرات معينة في إدارة حياة البشر حتى في بلد متقدم للغاية مثل الولايات المتحدة الأمريكية حيث يذيع القول إن «جميع أشكال الدراما يجب أن تبقى على المسرح» ولا تخرج منه إلى الحياة العامة. فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية كان خروجا جديدا إلى الحياة العامة؛ ودخوله إلى البيت الأبيض خلق الدراما الجديدة للحياة الأمريكية، ومنها يتسرب إلى العالم. الواقع أن أداء ترامب يشبه الخروج من هذه القاعدة، فالرجل يضع وجهه وشعره في حالة من «المكياج» الدائم الذي يميل إلى اللون البرتقالي، وهو يدخل ويخرج من أمام الميكروفون كما يدخل ويخرج الممثلون مقدما التهديد والوعيد، والابتزاز والمكايدة.
ورغم أنه ليس شخصية حديثة في الساحة السياسية الأمريكية فقد كان له فترة كاملة سابقة (2017- 2021)؛ إلا أنه يبدو في نظر المراقبين كما لو كان تخليقا لشخصيات سابقة كان أبرزها الرئيس الخامس والعشرين ويليام ماكينلي الذي قضى الفترة من 1896 إلى 1901 أي فترة رئاسية كاملة وعام واحد في الفترة الثانية حينما جرى اغتياله. ماكينلي الذي كان آخر الرؤساء الذين شاركوا في الحرب الأهلية الأمريكية، كانت لديه نزعة استعمارية إمبريالية توسعية بدأها في الحرب مع إسبانيا وانتصر فيها منتهزا الفرصة لضم بورتوريكو والفلبين وهاواي ووضع كوبا تحت الوصاية.
من قبل ذكرت في مقال آخر أن صعود «دونالد ترامب» كان إيذانا بتاريخ سياسي جديد للدولة حتى بعد أن خرج من البيت الأبيض عام 2021، لأن «الترامبية» بقيت راسخة في المجتمع الأمريكي. لم تكن هزيمة ترامب السابقة حسما لقضية، إنما معالجة وقتية لقضايا مركبة يصعب تجاوزها.
لم يعد النظام السياسي الأمريكي قائما على حزبين سياسيين يفترقان في مسائل اجتماعية واقتصادية، ولكنهما يجتمعان في توافق حول الهوية، والرسالة الأمريكية في العالم وفى التاريخ. هذا التوافق وصل إلى نهايته. العديد من منتقدي ترامب المحافظين بعد هزيمته وفى أعقاب تمرد 6 يناير 2021 كانوا يأملون عودة الحزب إلى شكله السابق؛ وتكون رئاسة ترامب جملة عابرة.
كان الاعتقاد أن الحزب الجمهوري سوف ينأى عن ترامب والترامبية، ويصبح حزبا بينه وبين الديمقراطيين مساحات من التوافق غير قليلة. هذا الحلم سرعان ما انتهى؛ وكانت رئاسة ترامب هي أول فصل في دراما سياسية أطول وأكثر إثارة، وأصبح الحزب الجمهوري أكثر تطرفا. استمرت شعبية ترامب بين الجمهوريين، وشن الموالون لترامب هجمات شرسة ضد المشرعين الجمهوريين الذين صوتوا لمحاكمته لدوره في التمرد. وأظهرت وسائل الإعلام اليمينية تعصبًا متزايدًا، وأظهرت استطلاعات الرأي العام أن ناخبي الحزب الجمهوري يتبنون كذبة ترامب بأن الانتخابات سُرقت منه.
النتيجة هي حالة من الخيال غير العلمي الذي لا يعبر عن نظريات وتطبيقات علمية تخرج منها الدراما الإنسانية شارحة للواقع وملكاته، والمستقبل وما سوف يأتي فيه. إن «الخيال غير العلمي» يضع التجربة الأمريكية في اختبار تاريخي للفكرة الليبرالية التي شكلت التاريخ الأمريكي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية والاقتراب من العالم في شكل «عولمة» قربت الدول والأمم ولكنها في أحوال كثيرة كسرت الحاجز مع الكوميديا. ترامب الآن يأخذ منحنى آخر ليس لليبرالية فيه مكان، فأصدقاؤه في الداخل قائمون على أفكار عنصرية، وفى الخارج فإنهم يعشقون قائد كوريا الشمالية. وفى العموم فإن القصة لم تنته بعد، وما علينا إلا أن نبحث عنها؟!.
{ كاتب ومفكر سياسي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك