منذ أن نشرتُ كتابي في سبتمبر 1994 تحت عنوان: «كوارث وضحايا: قصص بيئية واقعية»، وخصصتُ فصلا واحدا عنوانه: «الحوادث البيئية وعلاقتها بأمن الدول»، وأنا أُتابع قضية العلاقة بين تدهور البيئة وتلوث مكوناتها الحية وغير الحية والأمن والاستقرار، سواء على مستوى الإمبراطوريات العظمى الغابرة والحديثة، أو على مستوى الدولة الواحدة.
ولذلك قدَّمت في الكتاب مثالاً واحداً لأبين مصداقية وواقعية هذه العلاقة، والتي مفادها بأن البيئة إذا تلوثت وتدمرت وانعكست على الأمن الصحي للإنسان على صورة أمراض حادة ومزمنة تنقله إلى مثواه الأخير في سنٍ مبكرة، فإنها تؤدي مع تراكمها، واستمرارها، إلى تفاقم واتساع نطاق مشكلة تدهور البيئة ومرض الإنسان إلى زعزعة الأمن والاستقرار وتفكيك أواصر الدول، أو تمزق الإمبراطوريات العظمى. والمثال الذي ضربته هو سقوط الإمبراطورية السوفيتية الشيوعية الكبرى التي كانت ممتدة على مساحات شاسعة وتضم دولاً كثيرة، من جمهوريات الاتحاد السوفيتي إلى دول أخرى في الجزء الشرقي من القارة الأوروبية كألمانيا الشرقية، وبولندا، وأوكرانيا، وهنجاريا، ورومانيا، ويوغسلافيا. فهذه الإمبراطورية سقطت بسبب عوامل متعددة تجذرت في شرايينها، وتفاقمت وتجمعت تأثيراتها مع الزمن، منها سياسية، واجتماعية، واقتصادية. ولكن هناك عاملاً رابعاً جديداً غفل عنه الجميع، ولم يتوقعه ويفكر فيه أحد كعامل فاعل ومؤثر يمكن أن يسهم مع العوامل الأخرى في إسقاط الحكومات، وانهيار الدول، وهذا العامل الذي ساعد في انهيار هذه الإمبراطورية هو التدهور الشديد والعميق الذي تجذر في جميع عناصر البيئة الحية وغير الحية، وتداعياتها المرضية المزمنة والقاتلة على الصحة العامة لعشرات الملايين من البشر في كل هذه الجمهوريات والدول التي كانت تخضع تحت هيمنة الإمبراطورية السوفيتية.
ومن سقوط هذه الإمبراطورية السوفيتية لأسباب كثيرة، وعوامل متعددة منها «البيئة»، برزتْ أسئلة حول دور تلوث عناصر البيئة وإسهامه في انهيار الإمبراطوريات القديمة، وبالتحديد الإمبراطورية الرومانية قبل أكثر من 2000 سنة.
وفي الحقيقة هناك كثير من الدراسات التي حاولت الإجابة عن هذا السؤال، وبالتحديد علاقة أحد الملوثات القديمة الموجودة في بيئتنا قِدم وجود الإنسان على سطح الأرض بالأمن العام واستقرار الأمم، وهذا الملوث الكيميائي مازال موجوداً اليوم، وسيكون موجوداً معنا غداً أيضاً ولعقود طويلة قادمة، وهو عنصر الرصاص السام.
فقبل أكثر من ألفي عام تعرض الشعب الروماني على نطاق واسع لعنصر الرصاص من مصادر مختلفة كثيرة، منها أثناء عملية استخراج وصهر خام الرصاص لاستخلاص الفضة والذهب، حيث إن عملية الصهر كانت تنبعث منها وإلى الهواء الجوي مباشرة الرصاص السام، فيستنشقه العمال وغيرهم من الذين كانوا يسكنون بالقرب من المناجم والمصاهر. كما أن الكثير من أواني الطبخ والشرب كانت مصنوعة من الرصاص، إضافة إلى تعرض الرومانيين للرصاص عن طريق شرب المياه الملوثة بالرصاص من مصدرين مختلفين. المصدر الأول هو أن مياه الشرب كانت تُنقل إلى المنازل من خلال أنابيب مصنوعة من مركبات الرصاص، والثاني هو أن الرومان كانوا يُضيفون سُماً إلى المشروبات الكحولية لحفظها وإعطائها الطعم والمذاق الحلو من خلال وضع مركب «أَسِيتَيت الرصاص»، أو المعروف بسكر الرصاص.
كذلك تعرض الرومان للرصاص السام من خلال الدهان والأصباغ التي تحتوي على مركبات الرصاص، علاوة على ذلك فإن الرصاص كان يدخل في منتجات ألعاب الأطفال، ومنتجات الزينة والتبرج، كما هو بالنسبة إلى الكحل المحتوي على الرصاص، والذي مازال يُستخدم في بعض دول العالم حتى اليوم.
وآخر دراسة حاولت سبر غور هذه العلاقة بين التلوث وانهيار الإمبراطورية الرومانية، نُشرت في 6 يناير 2025 تحت عنوان: «تلوث الرصاص في الغلاف الجوي لعموم أوروبا، ومستويات الرصاص المرتفعة في الدم، والتدهور المعرفي للإنسان من التعدين والصهر في العصر الروماني». وهذا البحث صدر في مجلة «وقائع الأكاديمية القومية للعلوم» ( Proceedings of the National Academy of Sciences)، حيث قام بتحليل تركيز الرصاص المحبوس في صورة غاز في العينات من أعمدة الجليد القديمة في القطب الشمالي، والمحفوظة في إحدى جامعات أمريكا، وبالتحديد كانت هذه الأعمدة الجليدية الأساسية من جرينلاند وروسيا. فمن المعروف أن الثلج عندما ينزل من السماء يحمل معه الغازات والجسيمات الدقيقة العالقة في الهواء قبل أن يصل على سطح الأرض، ثم عندما يلمس سطح الأرض ينضغط ويبدأ في التراكم عاما بعد عام، وهو يحبس معه هذه الغازات، أو الملوثات التي سُجنت بداخله، وكأنها أصبحت في معتقل مغلق لا يمكن الخروج منه.
ففي تلك الحقبة الزمنية الرومانية لم يدرك الإنسان الأضرار الصحية الخطيرة التي تنجم عن التعرض للرصاص السام، سواء عن طريق الأنف، أو الفم، أو الجلد، ولم يعرف بأن لهذا العنصر السام خاصية التراكم والتركيز في أعضاء جسم الإنسان، ولذلك لم يعرف أحد تأثيراته في الأمن الصحي للمجتمع برمته مع استمرار التعرض له مع الزمن.
ولكن اليوم ولأكثر من 7 عقود من الزمن ونتيجة للدراسات والأبحاث التي أُجريت على الجانب الصحي للتعرض للرصاص، فقد أجمع الأطباء على أن للرصاص مردودات صحية مدمرة ومهلكة للفرد والمجتمع، وعلى جميع الفئات العمرية من الأطفال والشباب والشيوخ. فبالنسبة إلى كبار السن، فإن وجود الرصاص في أعضاء الجسم له علاقة بخصوبة الإنسان، والإصابة بفقر الدم وفقدان الذاكرة، إضافة إلى أمراض القلب، والسرطان، وضعف جهاز المناعة. أما بالنسبة إلى الأطفال فله تأثير شامل على جسم الطفل، ذهنياً، ونفسياً، وعقلياً، وجسدياً، كما أكد العلماء أن له انعكاساً سلبياً على مستوى الذكاء والتحصيل العلمي أو «أي كيو» (IQ)، كذلك أجمعوا على أنه لا يوجد حد آمن للرصاص في جسم الإنسان.
فالدراسة الحالية توصلت إلى عدة استنتاجات مهمة تؤكد تعرض الرومان على نطاق واسع لمصادر مختلفة وكثيرة للرصاص في معظم القارة الأوروبية، مما يعني تدهور شديد في الصحة العامة للرومان نتيجة للتعرض لهذا الرصاص السام، وهذا التدهور الصحي اكتشفه الأطباء الآن، مما يعني أن المجتمع الروماني سقط في فخ أمراض الرصاص وهو لا يعلم وقد أدى إلى سقوطه وانهياره.
فقد أشارت الدراسة بعد تحليل الغازات التي كانت محبوسة في العمود الثلجي القديم، إلى أن تركيز الرصاص في الهواء كان قرابة 150 نانوجراماً من الرصاص في المتر المكعب من الهواء الجوي في المواقع التي كان ينبعث منها الرصاص مباشرة كعمليات استخراج الرصاص وصهر المعدن الغني بالرصاص (galena) لاستخلاص الفضة التي كانت تستخدم لصناعة العملات، وفي الهواء الجوي بشكلٍ عام قَدرت الدراسة أن تركيز الرصاص كان قرابة 1 نانوجرام من الرصاص في المتر المكعب من الهواء.
وأما بالنسبة إلى تركيز الرصاص في الدم، فإن تلوث الهواء بالرصاص زاد من مستوى الرصاص في الدم عند الأطفال بنحو 2.4 ميكروجرام من الرصاص لكل ديسيلتر من الدم، حيث كان تقدير الرصاص في دم الأطفال قرابة 3.5 ميكروجرامات من الرصاص لكل ديسيلتر من الدم، قياساً على المستويات الحالية للرصاص في الهواء وفي الدم. ولا شك أن وجود الرصاص في دم أطفال الرومان كان له تأثير مباشر على الأداء الذهني والعقلي، حيث خفض من مقياس «أي كيو» في الأقل 2.5 إلى 3 نقاط بين الأطفال وعموم الناس، إضافة إلى التأثيرات الصحية الكثيرة الأخرى التي اكتشفها العلماء الآن.
وخلاصة كما هو الحال بالنسبة إلى الإمبراطورية السوفيتية التي سقطت لعوامل كثيرة منها تلوث البيئة وتدهور الصحة العامة بسبب أمراض التلوث، فإن الإمبراطورية الرومانية أيضاً تمزقت لأسباب كثيرة، قد يكون العامل البيئي من هذه الأسباب، وبالتحديد التعرض للرصاص السام من مصادر كثيرة جدا.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك