العدد : ١٧١٤٩ - الخميس ٠٦ مارس ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٦ رمضان ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٤٩ - الخميس ٠٦ مارس ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٦ رمضان ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

العرب والتصدي لفرض مشروع «إسرائيل الكبرى» بالقوة!

بقلم: د. حسن نافعة {

الثلاثاء ٠٤ مارس ٢٠٢٥ - 02:00

جدل‭ ‬صاخب‭ ‬يعلو‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الأيام‭ ‬ويدور‭ ‬بشأن‭ ‬مسألتين‭: ‬الأولى‭ ‬تتعلق‭ ‬بحسابات‭ ‬المكسب‭ ‬والخسارة‭ ‬ومعايير‭ ‬النصر‭ ‬والهزيمة،‭ ‬وخصوصا‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬الأطراف‭ ‬المنخرطة‭ ‬في‭ ‬الجولة‭ ‬الحالية‭ ‬من‭ ‬الصراع‭.‬

والثانية‭ ‬تتعلق‭ ‬بالتأثيرات‭ ‬المحتملة‭ ‬لمآلات‭ ‬هذه‭ ‬الجولة‭ ‬في‭ ‬الأوضاع‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬والجيوسياسية‭ ‬للفاعلين‭ ‬الرئيسين‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭. ‬صحيح‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الجولة‭ ‬من‭ ‬الصراع‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬مفتوحة،‭ ‬ولم‭ ‬تُغلَق‭ ‬نهائياً‭ ‬بعدُ،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬طرأ‭ ‬مؤخّراً‭ ‬من‭ ‬تطورات،‭ ‬في‭ ‬الساحتين‭ ‬الإقليمية‭ ‬والدولية،‭ ‬وخصوصاً‭ ‬عقب‭ ‬سقوط‭ ‬نظام‭ ‬بشار‭ ‬الأسد‭ ‬في‭ ‬سوريا،‭ ‬وتولي‭ ‬دونالد‭ ‬ترامب‭ ‬مقاليد‭ ‬السلطة،‭ ‬فترة‭ ‬ولاية‭ ‬ثانية،‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية،‭ ‬يوحي‭ ‬بأن‭ ‬منطقة‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬دخلت‭ ‬مرحلة‭ ‬‮«‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الطوفان‮»‬،‭ ‬وبدأت‭ ‬تستعد‭ ‬لـ‭ ‬‮«‬اليوم‭ ‬التالي‮»‬‭.‬

لذا،‭ ‬يُعتقد،‭ ‬على‭ ‬نطاق‭ ‬واسع،‭ ‬أن‭ ‬الملامح‭ ‬الرئيسة‭ ‬لهذه‭ ‬التحولات‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬والجيوسياسية‭ ‬بدأت‭ ‬تتشكل‭ ‬بالفعل،‭ ‬وأصبحت‭ ‬بالتالي‭ ‬قابلة‭ ‬للرصد‭ ‬والتحليل‭.‬

لا‭ ‬توجد‭ ‬قراءة‭ ‬واحدة‭ ‬لهذه‭ ‬التحولات‭. ‬ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬يمكن‭ ‬اختزال‭ ‬القراءات‭ ‬المتباينة‭ ‬وإعادة‭ ‬دمجها‭ ‬في‭ ‬قراءتين‭ ‬تقفان‭ ‬على‭ ‬طرفي‭ ‬نقيض‭. ‬الأولى‭ ‬تفترض‭ ‬أن‭ ‬معيار‭ ‬النصر‭ ‬والهزيمة‭ ‬يُقاس‭ ‬بحجم‭ ‬الخسائر‭ ‬التي‭ ‬تكبّدتها‭ ‬الأطراف،‭ ‬التي‭ ‬انخرطت‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الجولة‭ ‬من‭ ‬صراع‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭. ‬ولأن‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬تمكّنت‭ ‬من‭ ‬توجيه‭ ‬ضربات‭ ‬قاسية‭ ‬إلى‭ ‬جميع‭ ‬خصومها،‭ ‬فلقد‭ ‬توصلت‭ ‬هذه‭ ‬القراءة‭ ‬إلى‭ ‬نتيجة‭ ‬مفادها‭ ‬أن‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬هي‭ ‬الطرف‭ ‬المنتصر‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الجولة‭.‬

وبالتالي،‭ ‬يُتوقع‭ ‬أن‭ ‬تصبح‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬يتيح‭ ‬لها‭ ‬إعادة‭ ‬تشكيل‭ ‬المنطقة‭ ‬على‭ ‬هواها،‭ ‬والتحكم‭ ‬فيها‭. ‬أما‭ ‬القراءة‭ ‬الثانية‭ ‬فتفترض‭ ‬أن‭ ‬معيار‭ ‬النصر‭ ‬والهزيمة‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يقاس‭ ‬بالقدرة‭ ‬على‭ ‬تحقيق‭ ‬الأهداف،‭ ‬المعلنة‭ ‬منها‭ ‬والمضمرة‭. ‬ولأن‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬عجزت‭ ‬عن‭ ‬تحقيق‭ ‬أيّ‭ ‬من‭ ‬الأهداف،‭ ‬التي‭ ‬حدّدتها‭ ‬لنفسها،‭ ‬فلقد‭ ‬توصلت‭ ‬هذه‭ ‬القراءة‭ ‬إلى‭ ‬نتيجة‭ ‬مفادها‭ ‬أن‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬عجزت‭ ‬عن‭ ‬تحقيق‭ ‬النصر‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الجولة،‭ ‬التي‭ ‬اضطرت‭ ‬فيها‭ ‬إلى‭ ‬خوض‭ ‬أطول‭ ‬مواجهة‭ ‬عسكرية‭ ‬في‭ ‬تاريخها‭ ‬وأعلاها‭ ‬تكلفة،‭ ‬ثم‭ ‬يُتوقع‭ ‬أن‭ ‬تواجه‭ ‬خيارات‭ ‬صعبة‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬المقبلة،‭ ‬تفرض‭ ‬عليها‭ ‬أن‭ ‬تختار‭ ‬بين‭ ‬السيئ‭ ‬والأسوأ‭.‬

تشير‭ ‬القراءة‭ ‬الأولى‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬تمكّنت‭ ‬من‭ ‬تكبيد‭ ‬جميع‭ ‬خصومها‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬خسائر‭ ‬فادحة‭. ‬ففي‭ ‬الساحة‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬تمكنت‭ ‬من‭ ‬تدمير‭ ‬قطاع‭ ‬غزة‭ ‬بالكامل،‭ ‬وحولته‭ ‬إلى‭ ‬مكان‭ ‬غير‭ ‬قابل‭ ‬للحياة،‭ ‬وقتلت‭ ‬وجرحت‭ ‬ودفنت‭ ‬تحت‭ ‬الأنقاض‭ ‬ما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬مئتي‭ ‬ألف‭ ‬مواطن،‭ ‬يمثلون‭ ‬ما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬10%‭ ‬من‭ ‬إجمالي‭ ‬سكانه‭. ‬وفي‭ ‬الساحة‭ ‬اللبنانية،‭ ‬تمكنت‭ ‬من‭ ‬تحييد‭ ‬عدة‭ ‬آلاف‭ ‬من‭ ‬مقاتلي‭ ‬‮«‬حزب‭ ‬الله‮»‬،‭ ‬سواء‭ ‬عبر‭ ‬عمليات‭ ‬تفجير‭ ‬عن‭ ‬بعد‭ ‬لأجهزة‭ ‬البيجر‭ ‬وأجهزة‭ ‬الاتصالات‭ ‬اللاسلكية،‭ ‬أو‭ ‬عبر‭ ‬عمليات‭ ‬اغتيال‭ ‬مباشِر‭ ‬للكوادر‭ ‬والقيادات‭ ‬الرئيسة،‭ ‬على‭ ‬رأسهم‭ ‬حسن‭ ‬نصر‭ ‬الله‭ ‬نفسه،‭ ‬الأمين‭ ‬العام‭ ‬للحزب،‭ ‬كما‭ ‬تمكنت‭ ‬من‭ ‬تدمير‭ ‬معظم‭ ‬قرى‭ ‬الجنوب‭ ‬اللبناني‭ ‬ومدنه،‭ ‬ومعظم‭ ‬مباني‭ ‬الضاحية‭ ‬الجنوبية‭ ‬للعاصمة‭ ‬بيروت‭.‬

وفي‭ ‬الساحة‭ ‬السورية،‭ ‬ساهمت‭ ‬بفعالية‭ ‬في‭ ‬تهيئة‭ ‬الظروف‭ ‬الدولية‭ ‬والإقليمية،‭ ‬والتي‭ ‬أفضت‭ ‬إلى‭ ‬سقوط‭ ‬النظام‭ ‬الحاكم‭ ‬وهروب‭ ‬رئيسه‭ ‬بشار‭ ‬الأسد،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬مكّنها‭ ‬لاحقاً‭ ‬من‭ ‬احتلال‭ ‬أراضٍ‭ ‬سورية‭ ‬جديدة،‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬500‭ ‬كم‭ ‬مربع،‭ ‬ومن‭ ‬تدمير‭ ‬كل‭ ‬مقدّرات‭ ‬الجيش‭ ‬السوري،‭ ‬من‭ ‬أسلحة‭ ‬وذخائر‭ ‬وقدرات‭ ‬تصنيعية‭ ‬وبحثية‭ ‬وخلافها‭.‬

فإذا‭ ‬أضفنا‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬تقدّم‭ ‬أن‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬تمكنت‭ ‬أيضاً‭ ‬من‭ ‬توجيه‭ ‬ضربات‭ ‬موجعة‭ ‬إلى‭ ‬إيران،‭ ‬سواء‭ ‬عبر‭ ‬اشتباكات‭ ‬عسكرية‭ ‬مباشرة‭ ‬معها،‭ ‬أو‭ ‬عبر‭ ‬عمليات‭ ‬استخبارية‭ ‬ضد‭ ‬القوات‭ ‬الحليفة‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬المنطقة،‭ ‬لَتبيّن‭ ‬لنا‭ ‬بوضوح‭ ‬أنها‭ ‬حققت‭ ‬مكاسب‭ ‬ملموسة،‭ ‬أهمها‭ ‬تفكيك‭ ‬‮«‬محور‭ ‬المقاومة‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬لطالما‭ ‬عدّته‭ ‬إسرائيل‭ ‬بمنزلة‭ ‬تهديد‭ ‬وجودي‭ ‬لها،‭ ‬وإخراج‭ ‬إيران‭ ‬نهائياً‭ ‬من‭ ‬سوريا،‭ ‬وبالتالي‭ ‬قطع‭ ‬طريق‭ ‬الإمدادات‭ ‬العسكرية‭ ‬الإيرانية‭ ‬لحزب‭ ‬الله‭.‬

وتلك‭ ‬كلها‭ ‬إنجازات‭ ‬توحي‭ ‬بأن‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬باتت‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬يسمح‭ ‬لها‭ ‬بالتحكم‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬المعطيات‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬والجيوسياسية‭ ‬المتعلقة‭ ‬بالمنطقة‭ ‬ككل،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يسمح‭ ‬لها‭ ‬بإعادة‭ ‬تشكيل‭ ‬موازين‭ ‬القوى‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬يتلاءم‭ ‬مع‭ ‬أهوائها‭ ‬ومصالحها‭.‬

غير‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يعترض‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬القراءة،‭ ‬التي‭ ‬يرى‭ ‬أنها‭ ‬منحازة،‭ ‬لأنها‭ ‬تغفل‭ ‬عما‭ ‬تكبّدته‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الجولة‭ ‬من‭ ‬خسائر‭ ‬جسيمة،‭ ‬على‭ ‬الصعيدين‭ ‬المادي‭ ‬والمعنوي،‭ ‬ولأنها‭ ‬أيضاً‭ ‬لا‭ ‬تفسر‭ ‬لماذا‭ ‬عجزت‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬عن‭ ‬حسم‭ ‬جولة‭ ‬قتال‭ ‬طالت‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬خمسة‭ ‬عشر‭ ‬شهراً،‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬تاريخها‭.‬

لذا،‭ ‬تبدو‭ ‬الحاجة‭ ‬ماسّة‭ ‬إلى‭ ‬قراءة‭ ‬أخرى‭ ‬أكثر‭ ‬توازناً‭ ‬وصدقيةً،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬تقدمه‭ ‬قراءة‭ ‬ثانية‭ ‬ترى‭ ‬أن‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬تحقيق‭ ‬الأهداف‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬المعيار‭ ‬السليم‭ ‬للتمييز‭ ‬بين‭ ‬النصر‭ ‬والهزيمة،‭ ‬وتؤكد،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬أن‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬عجزت‭ ‬عن‭ ‬تحقيق‭ ‬أي‭ ‬من‭ ‬أهدافها‭ ‬في‭ ‬جولة‭ ‬الصراع‭ ‬الحالية،‭ ‬على‭ ‬رغم‭ ‬الضربات‭ ‬الموجعة‭ ‬التي‭ ‬تمكنت‭ ‬من‭ ‬توجيهها‭ ‬إلى‭ ‬جميع‭ ‬خصومها‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭. ‬فحين‭ ‬أعلنت‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬الحرب،‭ ‬رداً‭ ‬على‭ ‬‮«‬طوفان‭ ‬الأقصى‮»‬،‭ ‬أوضحت‭ ‬أنها‭ ‬تستهدف‭ ‬تحطيم‭ ‬قدرات‭ ‬حماس‭ ‬العسكرية،‭ ‬وإسقاط‭ ‬حكمها‭ ‬في‭ ‬قطاع‭ ‬غزة،‭ ‬واستعادة‭ ‬جميع‭ ‬‮«‬الرهائن‮»‬‭ ‬المحتجزين‭ ‬فيه‭.‬

ولأن‭ ‬هذه‭ ‬الحرب‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬أخذت‭ ‬شكل‭ ‬الإبادة‭ ‬الجماعية‭ ‬والتهجير‭ ‬القسري‭ ‬للشعب‭ ‬الفلسطيني،‭ ‬ولم‭ ‬تقتصر‭ ‬على‭ ‬ملاحقة‭ ‬حماس‭ ‬وسائر‭ ‬فصائل‭ ‬المقاومة‭ ‬المسلحة،‭ ‬فسرعان‭ ‬ما‭ ‬تبيّن،‭ ‬بصورة‭ ‬قاطعة،‭ ‬أن‭ ‬نتنياهو‭ ‬اتّخذ‭ ‬عملية‭ ‬‮«‬الطوفان‮»‬‭ ‬ذريعة‭ ‬لتحقيق‭ ‬مآرب‭ ‬أخرى،‭ ‬في‭ ‬مقدمتها‭ ‬إخلاء‭ ‬قطاع‭ ‬غزة‭ ‬من‭ ‬سكانه،‭ ‬تمهيداً‭ ‬لإعادة‭ ‬احتلاله‭ ‬واستيطانه،‭ ‬والتصعيد‭ ‬ضد‭ ‬سكان‭ ‬الضفة‭ ‬الغربية‭ ‬أيضاً،‭ ‬تمهيداً‭ ‬لضم‭ ‬أجزاء‭ ‬كبيرة‭ ‬منها‭. ‬المثير‭ ‬للتأمل‭ ‬هنا‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الأهداف‭ ‬لم‭ ‬تبقَ‭ ‬في‭ ‬حيز‭ ‬الكتمان،‭ ‬وإنما‭ ‬تحدّث‭ ‬عنها‭ ‬علناً‭ ‬وزراء‭ ‬في‭ ‬حكومة‭ ‬نتنياهو،‭ ‬في‭ ‬مقدمتهم‭ ‬إيتمار‭ ‬بن‭ ‬غفير‭ ‬وبتسلئيل‭ ‬سموتريتش‭ ‬وغيرهما‭.‬

اليوم،‭ ‬بعد‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬15‭ ‬شهرا‭ ‬من‭ ‬حرب‭ ‬الإبادة‭ ‬الجماعية‭ ‬هذه،‭ ‬يمكن‭ ‬التأكيد‭ ‬بثقة‭ ‬أن‭ ‬إسرائيل‭ ‬لم‭ ‬تتمكن‭ ‬من‭ ‬تحقيق‭ ‬أي‭ ‬من‭ ‬أهدافها‭. ‬فحماس،‭ ‬ومعها‭ ‬سائر‭ ‬فصائل‭ ‬المقاومة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬المسلحة‭ ‬في‭ ‬قطاع‭ ‬غزة،‭ ‬ظلت‭ ‬تقاتل‭ ‬حتى‭ ‬اللحظة‭ ‬الأخيرة،‭ ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬قادت‭ ‬بنفسها‭ ‬عملية‭ ‬التفاوض،‭ ‬التي‭ ‬استهدفت‭ ‬التوصل‭ ‬إلى‭ ‬اتفاق‭ ‬لوقف‭ ‬إطلاق‭ ‬النار،‭ ‬ووقّعت‭ ‬عليه‭ ‬نيابة‭ ‬عن‭ ‬سائر‭ ‬الفصائل‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬وتتولى‭ ‬مسؤولية‭ ‬الإشراف‭ ‬على‭ ‬تنفيذه‭ ‬وتنظيم‭ ‬عمليات‭ ‬الإفراج‭ ‬عن‭ ‬الأسرى‭. ‬وأشارت‭ ‬تقارير‭ ‬إعلامية‭ ‬متعددة،‭ ‬نقلاً‭ ‬عن‭ ‬مصادر‭ ‬عسكرية‭ ‬أمريكية‭ ‬وإسرائيلية،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬حماس‭ ‬تمكّنت‭ ‬من‭ ‬تجنيد‭ ‬ما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬15000‭ ‬مقاتل‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬الحرب‭.‬

تجدر‭ ‬الإشارة‭ ‬هنا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬حركة‭ ‬حماس‭ ‬لم‭ ‬توقع‭ ‬على‭ ‬صفقة‭ ‬تبادل‭ ‬الأسرى‭ ‬والمحتجزين‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬التأكد‭ ‬من‭ ‬أنها‭ ‬تلبي‭ ‬جميع‭ ‬شروطها‭ ‬المعلنة،‭ ‬وهي‭: ‬وقف‭ ‬دائم‭ ‬لإطلاق‭ ‬النار؛‭ ‬انسحاب‭ ‬كامل‭ ‬من‭ ‬القطاع؛‭ ‬معونات‭ ‬إنسانية‭ ‬كافية‭ ‬لإغاثة‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني‭ ‬المنكوب؛‭ ‬إعادة‭ ‬الإعمار‭... ‬إلخ‭. ‬ولأن‭ ‬المشاهد،‭ ‬التي‭ ‬نقلتها‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬العالمية‭ ‬في‭ ‬إبان‭ ‬عمليات‭ ‬تبادل‭ ‬الأسرى،‭ ‬توحي‭ ‬بأن‭ ‬حماس‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬في‭ ‬كامل‭ ‬لياقتها،‭ ‬فليس‭ ‬لذلك‭ ‬سوى‭ ‬معنى‭ ‬واحد،‭ ‬وهو‭ ‬أنها‭ ‬لم‭ ‬تُهزَم،‭ ‬لا‭ ‬عسكرياً،‭ ‬ولا‭ ‬سياسياً‭.‬

فإذا‭ ‬أضفنا‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬تقدَّم‭ ‬أن‭ ‬مشهد‭ ‬الزحف‭ ‬الجماهيري‭ ‬للأهالي‭ ‬من‭ ‬جنوبي‭ ‬القطاع‭ ‬إلى‭ ‬شماليه،‭ ‬والذي‭ ‬ذكّر‭ ‬الجميع‭ ‬بمشهد‭ ‬توجّه‭ ‬الحجيج‭ ‬إلى‭ ‬جبل‭ ‬عرفات،‭ ‬أكد‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬يقبل‭ ‬الشك‭ ‬فشل‭ ‬مشروع‭ ‬التهجير‭ ‬القسري‭ ‬للفلسطينيين،‭ ‬فليس‭ ‬لذلك‭ ‬سوى‭ ‬معنى‭ ‬واحد،‭ ‬وهو‭ ‬أن‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬أخفقت،‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬الصعد‭. ‬كما‭ ‬تجدر‭ ‬الإشارة‭ ‬أيضاً‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬جولة‭ ‬القتال،‭ ‬التي‭ ‬دشنها‭ ‬‮«‬طوفان‭ ‬الأقصى‮»‬،‭ ‬لم‭ ‬تُحسَم‭ ‬بعد‭.‬

لقد‭ ‬أُرغم‭ ‬نتنياهو‭ ‬على‭ ‬توقيع‭ ‬اتفاق‭ ‬من‭ ‬ثلاث‭ ‬مراحل،‭ ‬قَبِلَ‭ ‬بموجبه‭ ‬وقفاً‭ ‬موقتاً‭ ‬لإطلاق‭ ‬النار‭ (‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يتحول‭ ‬إلى‭ ‬وقف‭ ‬دائم‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانية،‭ ‬لكن‭ ‬بعد‭ ‬مفاوضات‭ ‬جديدة‭ ‬تضمن‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬ومصر‭ ‬وقطر‭ ‬استمرارها‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تُكلَّل‭ ‬بالنجاح‭). ‬غير‭ ‬أن‭ ‬نتنياهو‭ ‬يكره‭ ‬هذا‭ ‬الاتفاق،‭ ‬ويتحيّن‭ ‬الفرصة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬التنصل‭ ‬منه‭. ‬وفي‭ ‬حكومته‭ ‬وزراء‭ ‬ما‭ ‬زالوا‭ ‬يطالبونه‭ ‬علناً‭ ‬بالاكتفاء‭ ‬بالمرحلة‭ ‬الأولى،‭ ‬والعودة‭ ‬إلى‭ ‬القتال‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬كامل‭ ‬القطاع‭ ‬وبدء‭ ‬استيطانه‭.‬

صحيح‭ ‬أن‭ ‬نتنياهو‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬القتال‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬لأسباب‭ ‬داخلية‭ ‬وخارجية‭ ‬كثيرة،‭ ‬لا‭ ‬مجال‭ ‬للخوض‭ ‬فيها‭ ‬هنا،‭ ‬لكنه‭ ‬يراهن‭ ‬على‭ ‬ترامب،‭ ‬الذي‭ ‬خرج‭ ‬بعد‭ ‬استقباله‭ ‬في‭ ‬البيت‭ ‬الأبيض،‭ ‬ليقول‭ ‬إنه‭ ‬تلقى‭ ‬دعما‭ ‬لم‭ ‬تحظ‭ ‬إسرائيل‭ ‬بمثله‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬رئيس‭ ‬أمريكي‭ ‬آخر‭.‬

يعتقد‭ ‬نتنياهو‭ ‬أن‭ ‬ترامب‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬إخراجه‭ ‬من‭ ‬ورطته،‭ ‬وخصوصاً‭ ‬بعد‭ ‬التصريحات‭ ‬التي‭ ‬أدلى‭ ‬بها‭ ‬مؤخراً،‭ ‬والتي‭ ‬أشار‭ ‬فيها‭ ‬إلى‭ ‬رغبته‭ ‬في‭ ‬تهجير‭ ‬سكان‭ ‬قطاع‭ ‬غزة‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬مصر‭ ‬والأردن‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬قدرة‭ ‬ترامب‭ ‬على‭ ‬المضي‭ ‬قدُماً‭ ‬في‭ ‬سيناريو‭ ‬التهجير،‭ ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬قسرياً‭ ‬أو‭ ‬طوعياً،‭ ‬تبدو‭ ‬محدودة‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬كبيرة،‭ ‬وخصوصاً‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الإصرار‭ ‬الأسطوري‭ ‬للشعب‭ ‬الفلسطيني‭ ‬على‭ ‬التمسك‭ ‬بأرضه‭ ‬والبقاء‭ ‬فيها‭ ‬حتى‭ ‬الموت،‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬ولأن‭ ‬قبول‭ ‬هذا‭ ‬السيناريو‭ ‬ينطوي‭ ‬على‭ ‬مخاطر‭ ‬أمنية‭ ‬شديدة‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬الدول‭ ‬العربية،‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬ثانية‭. ‬ولا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬مصر‭ ‬والأردن‭ ‬أحسَنا‭ ‬صُنعاً‭ ‬حين‭ ‬صرّحا،‭ ‬علناً‭ ‬ورسمياً،‭ ‬برفضهما‭ ‬القاطع‭ ‬لسيناريو‭ ‬التهجير‭.‬

ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬يجب‭ ‬الانتباه‭ ‬إلى‭ ‬حقيقة‭ ‬مهمة،‭ ‬وهي‭ ‬أن‭ ‬ترامب‭ ‬لن‭ ‬يتردد‭ ‬مطلقاً‭ ‬في‭ ‬استخدام‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬حوزته‭ ‬من‭ ‬أدوات‭ ‬الإكراه‭ ‬والترغيب‭ ‬معا،‭ ‬أي‭ ‬العصا‭ ‬والجزرة،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تمكين‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬،‭ ‬وليس‭ ‬بالضرورة‭ ‬نتنياهو‭ ‬بالذات،‭ ‬من‭ ‬الحصول‭ ‬بالوسائل‭ ‬السياسية‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬عجزت‭ ‬عن‭ ‬تحقيقه‭ ‬بقوة‭ ‬السلاح‭.‬

بقي‭ ‬أن‭ ‬أشير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬فصائل‭ ‬المقاومة‭ ‬الشعبية‭ ‬العربية‭ ‬أدت‭ ‬دورها‭ ‬بكفاءة‭ ‬عالية‭ ‬وباقتدار‭ ‬تامّ،‭ ‬على‭ ‬رغم‭ ‬أنها‭ ‬تُركت‭ ‬تقاتل‭ ‬وحيدة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الجولة‭. ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬نجحت‭ ‬في‭ ‬دفع‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬إلى‭ ‬صدارة‭ ‬جدول‭ ‬أعمال‭ ‬النظام‭ ‬الدولي،‭ ‬أظن‭ ‬أن‭ ‬الكرة‭ ‬في‭ ‬طريقها‭ ‬الآن‭ ‬إلى‭ ‬الانتقال‭ ‬إلى‭ ‬ملعب‭ ‬الدول‭ ‬العربية،‭ ‬التي‭ ‬بات‭ ‬عليها‭ ‬أن‭ ‬تكمل‭ ‬المشوار‭ ‬وأن‭ ‬ترفض‭ ‬القيام‭ ‬بأي‭ ‬خطوة‭ ‬إضافية‭ ‬في‭ ‬اتجاه‭ ‬التطبيع،‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬قيام‭ ‬دولة‭ ‬فلسطينية‭ ‬مستقلة،‭ ‬عاصمتها‭ ‬القدس‭ ‬الشرقية‭. ‬أما‭ ‬إذا‭ ‬خشيت‭ ‬عصا‭ ‬ترامب،‭ ‬أو‭ ‬طمعت‭ ‬في‭ ‬جزرته،‭ ‬فسوف‭ ‬تكون‭ ‬قد‭ ‬شاركت‭ ‬بنفسها،‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬تصفية‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنما‭ ‬أيضاً‭ ‬في‭ ‬فتح‭ ‬الباب‭ ‬واسعاً‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬أمام‭ ‬ترسيخ‭ ‬حلم‭ ‬المشروع‭ ‬الصهيوني‭ ‬بدولة‭ ‬‮«‬إسرائيل‭ ‬الكبرى‮»‬‭.‬

 

{‭ ‬أستاذ‭ ‬العلوم‭ ‬السياسية

في‭ ‬جامعة‭ ‬القاهرة

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا