إن عزَفَ على أوتار المشاعر أطرَبها، وإن دغدَغَ بفُكاهته النفسَ أضحكها، إذا تطرَّق لهموم المُجتمع دخلت قصيدته كُل بيتٍ، وإذا تغنَّت كلماته بعشق الوطن استوطنَت أشعاره مجامع كُل قلب، لذا كان الشاعر عبدالرحمن رفيع «مالئ الدنيا وشاغل الناس» في حياته، وظلَّت كنوز سيرتهُ مقصدًا للباحثين في أسرار خلوده، وهو ما جعل من عنوان: «السيرة التي لم تُكتب لعبدالرحمن رفيع» خيارًا موفقًا لمُحاضرة د. فواز الشروقي التي قُدّمت ضمن برنامج الموسم الثقافي الـ 71 لجمعية تاريخ وآثار البحرين.
بموهبته الاستثنائيَّة في اقتناص الأفكار القادرة على تحقيق أصعب المُعادلات الثقافيَّة في هذا العصر: اجتذاب اهتمام نُخب المُثقفين وعامَّة الناس في الوقت ذاته، وتقديم المادَّة المُختارة بأسلوبٍ سلسٍ شيّق يسهل استيعابه على مُختلف الفئات العُمريَّة والطبقات المُجتمعيَّة، سلّطَ د. الشروقي ضوء الاهتمام على محطّات لافتة من سيرة حياة الشاعر عبدالرحمن رفيع الذي يُصادف هذا العام مرور عشر سنواتٍ على وفاته، مُشيرًا إلى أن قراءة كتاب «سيرة شِعريَّة» للدكتور غازي القصيبي كان مُلهمًا للبحث في السيرة الشعريَّة لـ«رفيع» باعتباره رفيقًا مُلازمًا للقصيبي الذي ذكر في سيرته أن من دفعهُ وحمَّسه لكتابة الشعر هو عبدالرحمن رفيع، إذ كانا في مدرسةٍ واحدة، فذهب غازي إليه بمحاولةٍ بسيطة لكتابة أبياتٍ قليلة، فعدّل رفيع على البيت الأوَّل لضبط وزنه وأبقى البقيَّة على ما هي عليه.
لماذا لم يكتُب عبد الرحمن رفيع سيرته الشعريَّة؟ أليسَ من المؤسف أن لا أحد كتبَ عن تلك السيرة بالصورة التي تليق بها حتى اليوم؟ هذان التساؤلان وغيرهما من التساؤلات المُلحَّة من أهم أسباب دفع الدكتور فواز الشروقي للغوص في بحار محطَّات عبدالرحمن رفيع الشعريَّة والحديث عنه؛ لعلَّ تلك النتائج تكون بمثابة خطوط أوَّليَّة يُبنى عليها مشروع إعداد سيرة شعريَّة أكثر تفصيلاً وتكامُلاً.
أوضح د. الشروقي أن عبدالرحمن رفيع كان مفتونًا بالقراءة منذ أن كان تلميذًا صغيرًا في المدرسة الغربيَّة رغم عدم قدرته على اقتناء الكتُب، مولعًا بإلقاء الخطب والأشعار في الطابور المدرسي، وكمُكافأة له أهداه الأستاذ حسن جواد الجشّي كتاب «حديث الأربعاء» لـ طه حسين، فطار به فرحًا وقرأه مرَّاتٍ تلو المرَّات دون ملل لأنه الكتاب الوحيد الذي يملكه.. وفي يومٍ من الأيام جاءه صديقه عبدالرحمن بن عبدالله آل خليفة قائلاً إن والده الذي تقدّم به السن قد أهداه مكتبته لكنه لا يجد في نفسه ميلاً للقراءة والمُطالعة، وسأله إن كانت له رغبة بأخذ مخزون تلك المكتبة، فسُر عبدالرحمن أيما سرور، وغرق بين صفحات الكتب المُهداة يقرأها بنهم واستمتاع دون أن يعبأ بتناول وجبات طعامه اليوميَّة.. وما أن افتُتحت مكتبة المنامة العامَّة عام 1948م حتى صار من السبَّاقين لارتيادها.
في المدرسة الثانوية التقى غازي القصيبي، وانطلقَت المُساجلات الشعريَّة بينهما، ثم سافرا لدراسة الحقوق في القاهرة؛ لكنهما كانا يقضيان أوقات فراغهما في مقهى كُلية الآداب لأن الأجواء هناك أكثر إلهامًا لتجاربهما الشعريَّة، وكان القصيبي كلما كتب قصيدةً أعطاها رفيعا للاحتفاظ بها، فكان يحتفظ بأشعارهما معًا في ملفَّاتٍ ضخمة، إلى أن قرر غازي القصيبي عام 1959م زيارة البحرين لقضاء بعض الوقت، وفي ذهنه تتبلور فكرة طباعة مجموعته الشعريَّة الأولى، فأخذ أوراق قصائده من عبدالرحمن رفيع وانتقى منها الأشعار التي تحوَّلت فيما بعد إلى ديوان «أشعار من جزائر اللؤلؤ»، أما عبدالرحمن رفيع فقرر ترك ملف قصائده وبعض حاجاته أمانة عند بوّاب البناية التي يقيم فيها قبل أن يعود إلى البحرين لقضاء عُطلة مُدتها شهرين، وما أن عاد إلى القاهرة حتى صُدم بأن البوَّاب لم يكُن موجودًا، ولا يُعرف له عنوانًا، وأوراق قصائده ضاعت ليتبخَّر معها إبداع أكثر من ثلاثة أعوام، ومع ضياعها يتأخَّر بزوغ مجموعته الشعريَّة الأولى.. لكن بعد رجوعه للاستقرار الدائم في البحرين بدأ محاولات نشر قصائده الجديدة في مجلة «هُنا البحرين» لافتًا انتباه القرَّاء، ثم شارك في فرع الشعر من «مُسابقة هُنا البحرين» الأدبيَّة لتحصد قصيدته «موطن الخالدين» المركز الأوَّل بين الفائزين.
بعد تأسيس أسرة الأدباء والكُتَّاب في البحرين بدأت بإقامة أمسياتها الشعريَّة، وأرسلت دعوتين للمشاركة في ثاني أمسياتها المُقامة في «نادي النسور» للقصيبي ورفيع؛ فقبلا المُشاركة، وما أن أمسكَ عبدالرحمن رفيع بمُكبّر الصوت حتى بدأ صوته يصدح مُغردًا: «الله يجازيك يا زمان.. ما لك أمان.. الشعري الرّبعه بثمان!!»، فاشتعلت القاعة بحماسة الحاضرين وضحكاتهم وتصفيقهم، ومنذ تلك الأمسيات انهالت عليه الدعوات لإلقاء قصائده، وكلما قرأ قصيدة فصيحة انتظروا قصيدته الشعبيَّة الطريفة لتنتعش حماستهم ويلتهب تفاعُلهم، ومع صدور جريدة الأضواء عام 1965م بدأ ينشر بعض قصائده الفصيحة على صفحاتها، إلى أن أصدر ديوانه الأوَّل «أغاني البحار الأربعة» عام 1971م، وهنا انبرى له الناقد أحمد المنَّاعي بمقالة لاذعةٍ كان منها: «الشاعر هُنا يرتدي زيًا غريبًا مُرقعًا، فتارة ناسكًا، وثانية صوفيًا، وثالثة فيلسوفًا نظريًا، رفيع في هذه القصائد كحبَّة بطيخ في صحنٍ أملس، لا يُمكن الإمساك به وسؤاله عن هويته»!
بعدها بسنوات كتب محمد جابر الأنصاري مقالاً بعنوان: «حكاية الشاعر الذي انقلبَ إلى حكواتي» على صفحات مجلَّة «الدوحة» قائلاً: «رفيع أخذ يخرج علينا بمناسبة ودون مُناسبة بسيلٍ من الكلام العامي عن الزواج والطلاق وما بينهما من خطوبة وزفافٍ وحُبٍ وهجرٍ وصدود، وعن تصليح مُكيفات الهواء والمراوح الكهربائية والرجيم والغلاء»، ولم يكُن عبدالرحمن رفيع يرد على النقاد، ردًا مُباشرًا، بل يُحلَّق بموهبته الشعريَّة التي تتصاعد معها شُهرته يومًا بعد آخر لقُدرة كلماته على تصوير مشاعر عامَّة الناس وهمومهم اليوميَّة.
وردًا على سؤال: «هل رفيع كان شاعر فُصحى أم عاميَّة؟»؛ ينقل الدكتور الشروقي الإجابة من حديثٍ صحفي انفردت بنشره صحيفة «أخبار الخليج البحرينيَّة» في عددها الصادر بتاريخ 23 مايو 1986م قال فيه الشاعر عبدالرحمن رفيع: «تجربتي في كتابة الشعر بدأت بالقصيدة الفُصحى، أمَّا قصائدي العاميَّة فهي فرعٌ بسيطٌ من الشِّعر».
تجدر الإشارة إلى أن المُحاضرة قد اتسمَت بجُرأة الطرح، وامتازت بباقة من الصور التي توثّق الأحداث، وقُصاصات الأشعار المُقتبسة من المطبوعات الأصليَّة، ونُسخٌ عن مخطوطاتٍ أصليَّة مدوَّنة بخط يد الشاعر عبدالرحمن رفيع وآخرين، وتخللتها بضع حكاياتٍ طريفةٍ عن الشاعر نجحت في صهر جمود المادَّة البحثيَّة في قالبٍ من إبهاج نفوس الحاضرين.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك