العدد : ١٧١٤٩ - الخميس ٠٦ مارس ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٦ رمضان ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٤٩ - الخميس ٠٦ مارس ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٦ رمضان ١٤٤٦هـ

الثقافي

سرديات الحضارة.. تمثلات النص والهوية الثقافية

بقلم: منال رضوان

السبت ٠١ مارس ٢٠٢٥ - 02:00

يُعد‭ ‬مفهوم‭ ‬سرديات‭ ‬الحضارة‭ ‬من‭ ‬المفاهيم‭ ‬المحورية‭ ‬التي‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬الأدب‭ ‬والثقافة‭ ‬والفكر؛‭ ‬حيث‭ ‬تشكل‭ ‬منظومة‭ ‬شاملة‭ ‬من‭ ‬المرويات‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬تروي‭ ‬تطور‭ ‬الجماعات‭ ‬البشرية،‭ ‬وتعزز‭ ‬هويتهم‭ ‬وتوجهاتهم،‭ ‬وتضع‭ ‬أطرًا‭ ‬لوعيهم‭ ‬بتاريخهم‭ ‬ومستقبلهم،‭ ‬كما‭ ‬ترتبط‭ ‬هذه‭ ‬السرديات‭ ‬بالتصورات‭ ‬الثقافية‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬تستند‭ ‬إلى‭ ‬القيم‭ ‬والمعارف‭ ‬والأساطير‭ ‬المؤسسة‭ ‬للحضارات،‭ ‬وهي‭ ‬جزء‭ ‬لا‭ ‬يتجزأ‭ -‬أيضًا‭- ‬من‭ ‬صياغة‭ ‬الفضاء‭ ‬الثقافي‭ ‬والوجداني‭ ‬للأمم‭ (‬للمزيد‭ ‬ينظر‭: ‬محمد‭ ‬عابد‭ ‬الجابري،‭ ‬نقد‭ ‬العقل‭ ‬العربي،‭ ‬ص45‭).‬

وقد‭ ‬نشأت‭ ‬السرديات‭ ‬الحضارية‭ ‬منذ‭ ‬بداية‭ ‬التاريخ‭ ‬البشري،‭ ‬هناك‭ ‬حيث‭ ‬سعى‭ ‬الإنسان‭ ‬إلى‭ ‬تسجيل‭ ‬تجربته‭ ‬وإضفاء‭ ‬معنى‭ ‬على‭ ‬وجوده،‭ ‬في‭ ‬الحضارات‭ ‬القديمة‭ ‬كالبابلية‭ ‬والمصرية،‭ ‬فكان‭ ‬السرد‭ ‬أداة‭ ‬للحفاظ‭ ‬على‭ ‬القيم‭ ‬والمعارف‭ ‬ونقل‭ ‬الخبرات‭ ‬والعظات‭ ‬ضمن‭ ‬صيغ‭ ‬أبرزها‭ ‬الأساطير‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬ملحمة‭ ‬جلجامش‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬كتاب‭ ‬الموتى‮»‬‭... ‬إلخ،‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬قدمت‭ ‬رؤى‭ ‬حول‭ ‬أصل‭ ‬الكون‭ ‬والوجود‭ ‬الإنساني،‭ ‬هذا‭ ‬يعكس‭ ‬ومما‭ ‬لا‭ ‬ريب‭ ‬فيه‭ ‬انشغال‭ ‬هذه‭ ‬الحضارات‭ ‬بالأسئلة‭ ‬الكبرى‭.‬

واستمرت‭ ‬هذه‭ ‬السرديات‭ ‬بالتطور‭ ‬مع‭ ‬الزمن،‭ ‬فأصبحت‭ ‬أكثر‭ ‬تنظيمًا‭ ‬خلال‭ ‬العصور‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬مثل‭ ‬اليونانية‭ ‬والرومانية،‭ ‬حيث‭ ‬لعبت‭ ‬الفلسفة‭ ‬دورًا‭ ‬في‭ ‬تنقيحها‭ ‬وربطها‭ ‬بالمفاهيم‭ ‬الأخلاقية‭ (‬للمزيد‭ ‬ينظر‭: ‬عبد‭ ‬الإله‭ ‬بلقزيز،‭ ‬تاريخ‭ ‬الفلسفة،‭ ‬ص112‭ ‬وما‭ ‬بعدها‭).‬

وفي‭ ‬السياق‭ ‬المعاصر،‭ ‬تعرضت‭ ‬سرديات‭ ‬الحضارة‭ ‬لنقد‭ ‬جذري،‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬هيمنة‭ ‬النظريات‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثية‭ ‬التي‭ ‬تنظر‭ ‬بعين‭ ‬الشك‭ ‬إلى‭ ‬الحكايات‭ ‬الكبرى؛‭ ‬فيرى‭ ‬بعض‭ ‬المنظرين‭ ‬مثل‭ ‬جان‭ ‬فرانسوا‭ ‬ليوتار‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬السرديات‭ ‬تفقد‭ ‬مصداقيتها‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الراهن؛‭ ‬حيث‭ ‬يميل‭ ‬الأفراد‭ ‬إلى‭ ‬خلق‭ ‬معانٍ‭ ‬شخصية‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬الانتماء‭ ‬إلى‭ ‬سرديات‭ ‬شمولية‭ (‬للمزيد‭ ‬ينظر‭: ‬ليوتار،‭ ‬وضع‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثي،‭ ‬ترجمة‭ ‬أحمد‭ ‬حسان‭). ‬هذا‭ ‬النقد‭ ‬يتقاطع‭ ‬مع‭ ‬الدراسات‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الكولونيالية‭ ‬التي‭ ‬تكشف‭ ‬عن‭ ‬الطابع‭ ‬الإقصائي‭ ‬لبعض‭ ‬السرديات‭ ‬الحضارية‭ ‬الكبرى؛‭ ‬حيث‭ ‬يتم‭ ‬تهميش‭ ‬سرديات‭ ‬الثقافات‭ ‬الأخرى‭ ‬لصالح‭ ‬رؤية‭ ‬مركزية‭ ‬تسعى‭ ‬للسيطرة‭ (‬للمزيد‭ ‬ينظر‭: ‬إدوارد‭ ‬سعيد،‭ ‬الاستشراق،‭ ‬ترجمة‭ ‬محمد‭ ‬عصفور،‭ ‬محمد‭ ‬شاهين‭ ‬دار‭ ‬الآداب‭ ‬ص‭ ‬223‭ ‬وما‭ ‬بعدها‭).‬

بيد‭ ‬أننا‭ ‬لا‭ ‬يمكننا‭ ‬إنكار‭ ‬أن‭ ‬السرديات‭ ‬الحضارية،‭ ‬أداة‭ ‬بالغة‭ ‬الأهمية‭ ‬في‭ ‬تشكيل‭ ‬الهوية‭ ‬الجماعية؛‭ ‬حيث‭ ‬تعمل‭ ‬كمرآة‭ ‬تعكس‭ ‬الذات‭ ‬الجماعية‭ ‬للأمم‭ ‬وتساعد‭ ‬على‭ ‬إعادة‭ ‬إنتاجها‭ ‬عبر‭ ‬الزمن،‭ ‬فعلى‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭: ‬تُبنى‭ ‬الهوية‭ ‬العربية‭ ‬الإسلامية‭ ‬على‭ ‬سرديات‭ ‬كبرى‭ ‬مثل‭ ‬الرسالة‭ ‬المحمدية،‭ ‬الفتوحات‭ ‬الإسلامية،‭ ‬والنهضة‭ ‬العلمية‭ ‬للحضارة‭ ‬الإسلامية‭ ‬إبان‭ ‬عصرها‭ ‬الذهبي،‭ ‬هذه‭ ‬السرديات‭ ‬لا‭ ‬تقدم‭ ‬فقط‭ ‬تاريخًا؛‭ ‬بل‭ ‬تؤدي‭ ‬دورًا‭ ‬في‭ ‬توجيه‭ ‬الحاضر‭ ‬والمستقبل‭ (‬للمزيد‭ ‬ينظر‭: ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬العروي،‭ ‬مفهوم‭ ‬التاريخ،‭ ‬ص89‭).‬

وبالنظر‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬إلى‭ ‬الأدب‭ ‬والفن؛‭ ‬فلطالما‭ ‬كانا‭ ‬مجالًا‭ ‬خصبًا‭ ‬لتمثيل‭ ‬سرديات‭ ‬الحضارة؛‭ ‬إذ‭ ‬أن‭ ‬الأعمال‭ ‬الأدبية‭ ‬العظيمة‭ ‬غالبًا‭ ‬ما‭ ‬ترتكز‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬السرديات‭ ‬لإنتاج‭ ‬معانٍ‭ ‬عميقة،‭ ‬ويظهر‭ ‬ذلك‭ ‬جليًا‭ ‬في‭ ‬أعمال‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬التي‭ ‬تناولت‭ ‬سرديات‭ ‬النهضة،‭ ‬وكتابات‭ ‬د‭. ‬محمد‭ ‬حسين‭ ‬هيكل،‭ ‬وفيلسوف‭ ‬الأدباء‭ ‬زكي‭ ‬نجيب‭ ‬محمود‭ ‬ومساهمته‭ ‬في‭ ‬إرساء‭ ‬منهج‭ ‬الفلسفة‭ ‬الوضعية‭ ‬العربية،‭ ‬وحتى‭ ‬في‭ ‬كتابات‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬التي‭ ‬تحاور‭ ‬تاريخ‭ ‬الحضارة‭ ‬المصرية‭ ‬عبر‭ ‬مستويات‭ ‬من‭ ‬تأويلات‭ ‬رمزية،‭ ‬كذا‭ ‬الفنون‭ ‬البصرية،‭ ‬كالرسم‭ ‬والنحت،‭ ‬والتي‭ ‬تعكس‭ ‬سرديات‭ ‬حضارية‭ ‬عبر‭ ‬العصور،‭ ‬كالنقوش‭ ‬على‭ ‬جدران‭ ‬معابد‭ ‬الحضارة‭ ‬المصرية‭ ‬القديمة،‭ ‬أو‭ ‬تلك‭ ‬المنحوتات‭ ‬الإغريقية‭ ‬التي‭ ‬تسرد‭ ‬انتصار‭ ‬الإنسان‭ ‬على‭ ‬قوى‭ ‬الطبيعة‭ (‬للمزيد‭ ‬ينظر‭: ‬أبو‭ ‬شوارب،‭ ‬الفن‭ ‬والمجتمع،‭ ‬ص34‭: ‬35‭).‬

ومع‭ ‬أهمية‭ ‬السرديات‭ ‬الحضارية‭ ‬في‭ ‬تشكيل‭ ‬وعي‭ ‬الجماعات،‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬أحيانًا‭ ‬تنطوي‭ ‬على‭ ‬مخاطر‭ ‬جمة؛‭ ‬إذ‭ ‬قد‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬أداة‭ ‬تبرير‭ ‬للهيمنة‭ ‬الغربية‭. ‬هذا‭ ‬التوتر‭ ‬يبرز‭ ‬في‭ ‬سردياتهم‭ ‬التي‭ ‬استخدمت‭ ‬لتبرير‭ ‬الاستعمار‭ ‬وادعاء‭ ‬التفوق‭ ‬الثقافي‭ ‬الدائم‭.‬

والنقد‭ ‬الموجه‭ ‬الى‭ ‬هذه‭ ‬السرديات‭ ‬يفتح‭ ‬المجال‭ ‬لإعادة‭ ‬صياغة‭ ‬حكايات‭ ‬أكثر‭ ‬شمولية،‭ ‬تعترف‭ ‬بحيادية‭ ‬قدر‭ ‬إمكانها‭ ‬بتعدد‭ ‬الأصوات‭ ‬وتحاول‭ ‬تكسير‭ ‬مركزية‭ ‬الخطاب‭ ‬الواحد‭ (‬للمزيد‭ ‬ينظر‭: ‬غياتري‭ ‬سبيفاك،‭ ‬هل‭ ‬يستطيع‭ ‬التابع‭ ‬أن‭ ‬يتكلم؟،‭ ‬ص78‭).‬

وفي‭ ‬ختام‭ ‬ذلك‭ ‬المقال‭ ‬المختصر‭ ‬يمكننا‭ ‬إجمال‭ ‬ما‭ ‬كتب‭ ‬في‭:‬

تقدم‭ ‬السرديات‭ ‬الحضارية‭ ‬مجالًا‭ ‬ثريًا‭ ‬لتحليل‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬النصوص‭ ‬والمجتمعات،‭ ‬وهي‭ ‬ليست‭ ‬مجرد‭ ‬حكايات‭ ‬ومرويات‭ ‬الأمم‭ ‬السالفة‭ ‬والأزمان‭ ‬الغابرة؛‭ ‬بل‭ ‬تعبير‭ ‬عن‭ ‬تطلعات‭ ‬الأمم‭ ‬وآمالها‭ ‬وكفاحها،‭ ‬لكن‭ ‬التحدي‭ ‬الذي‭ ‬يواجه‭ ‬الفكر‭ ‬المعاصر‭ ‬يكمن‭ ‬في‭ ‬إعادة‭ ‬تأويل‭ ‬هذه‭ ‬السرديات‭ ‬بما‭ ‬يعكس‭ ‬التنوع‭ ‬الثقافي‭ ‬والإنساني،‭ ‬ويضع‭ ‬أسسًا‭ ‬لحوار‭ ‬بنَّاء‭ ‬بين‭ ‬الحضارات‭.‬

 

ناقد‭ ‬أدبي‭ ‬عضو‭ ‬لجنة‭ ‬الإعلام‭ ‬باتحاد‭ ‬كتاب‭ ‬مصر

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا