يُعد مفهوم سرديات الحضارة من المفاهيم المحورية التي تجمع بين الأدب والثقافة والفكر؛ حيث تشكل منظومة شاملة من المرويات الكبرى التي تروي تطور الجماعات البشرية، وتعزز هويتهم وتوجهاتهم، وتضع أطرًا لوعيهم بتاريخهم ومستقبلهم، كما ترتبط هذه السرديات بالتصورات الثقافية الكبرى التي تستند إلى القيم والمعارف والأساطير المؤسسة للحضارات، وهي جزء لا يتجزأ -أيضًا- من صياغة الفضاء الثقافي والوجداني للأمم (للمزيد ينظر: محمد عابد الجابري، نقد العقل العربي، ص45).
وقد نشأت السرديات الحضارية منذ بداية التاريخ البشري، هناك حيث سعى الإنسان إلى تسجيل تجربته وإضفاء معنى على وجوده، في الحضارات القديمة كالبابلية والمصرية، فكان السرد أداة للحفاظ على القيم والمعارف ونقل الخبرات والعظات ضمن صيغ أبرزها الأساطير مثل «ملحمة جلجامش» أو «كتاب الموتى»... إلخ، تلك التي قدمت رؤى حول أصل الكون والوجود الإنساني، هذا يعكس ومما لا ريب فيه انشغال هذه الحضارات بالأسئلة الكبرى.
واستمرت هذه السرديات بالتطور مع الزمن، فأصبحت أكثر تنظيمًا خلال العصور الكلاسيكية مثل اليونانية والرومانية، حيث لعبت الفلسفة دورًا في تنقيحها وربطها بالمفاهيم الأخلاقية (للمزيد ينظر: عبد الإله بلقزيز، تاريخ الفلسفة، ص112 وما بعدها).
وفي السياق المعاصر، تعرضت سرديات الحضارة لنقد جذري، خاصة في ظل هيمنة النظريات ما بعد الحداثية التي تنظر بعين الشك إلى الحكايات الكبرى؛ فيرى بعض المنظرين مثل جان فرانسوا ليوتار أن هذه السرديات تفقد مصداقيتها في العصر الراهن؛ حيث يميل الأفراد إلى خلق معانٍ شخصية بدلاً من الانتماء إلى سرديات شمولية (للمزيد ينظر: ليوتار، وضع ما بعد الحداثي، ترجمة أحمد حسان). هذا النقد يتقاطع مع الدراسات ما بعد الكولونيالية التي تكشف عن الطابع الإقصائي لبعض السرديات الحضارية الكبرى؛ حيث يتم تهميش سرديات الثقافات الأخرى لصالح رؤية مركزية تسعى للسيطرة (للمزيد ينظر: إدوارد سعيد، الاستشراق، ترجمة محمد عصفور، محمد شاهين دار الآداب ص 223 وما بعدها).
بيد أننا لا يمكننا إنكار أن السرديات الحضارية، أداة بالغة الأهمية في تشكيل الهوية الجماعية؛ حيث تعمل كمرآة تعكس الذات الجماعية للأمم وتساعد على إعادة إنتاجها عبر الزمن، فعلى سبيل المثال: تُبنى الهوية العربية الإسلامية على سرديات كبرى مثل الرسالة المحمدية، الفتوحات الإسلامية، والنهضة العلمية للحضارة الإسلامية إبان عصرها الذهبي، هذه السرديات لا تقدم فقط تاريخًا؛ بل تؤدي دورًا في توجيه الحاضر والمستقبل (للمزيد ينظر: عبد الله العروي، مفهوم التاريخ، ص89).
وبالنظر على سبيل المثال إلى الأدب والفن؛ فلطالما كانا مجالًا خصبًا لتمثيل سرديات الحضارة؛ إذ أن الأعمال الأدبية العظيمة غالبًا ما ترتكز إلى هذه السرديات لإنتاج معانٍ عميقة، ويظهر ذلك جليًا في أعمال طه حسين التي تناولت سرديات النهضة، وكتابات د. محمد حسين هيكل، وفيلسوف الأدباء زكي نجيب محمود ومساهمته في إرساء منهج الفلسفة الوضعية العربية، وحتى في كتابات نجيب محفوظ التي تحاور تاريخ الحضارة المصرية عبر مستويات من تأويلات رمزية، كذا الفنون البصرية، كالرسم والنحت، والتي تعكس سرديات حضارية عبر العصور، كالنقوش على جدران معابد الحضارة المصرية القديمة، أو تلك المنحوتات الإغريقية التي تسرد انتصار الإنسان على قوى الطبيعة (للمزيد ينظر: أبو شوارب، الفن والمجتمع، ص34: 35).
ومع أهمية السرديات الحضارية في تشكيل وعي الجماعات، إلا أنها أحيانًا تنطوي على مخاطر جمة؛ إذ قد تتحول إلى أداة تبرير للهيمنة الغربية. هذا التوتر يبرز في سردياتهم التي استخدمت لتبرير الاستعمار وادعاء التفوق الثقافي الدائم.
والنقد الموجه الى هذه السرديات يفتح المجال لإعادة صياغة حكايات أكثر شمولية، تعترف بحيادية قدر إمكانها بتعدد الأصوات وتحاول تكسير مركزية الخطاب الواحد (للمزيد ينظر: غياتري سبيفاك، هل يستطيع التابع أن يتكلم؟، ص78).
وفي ختام ذلك المقال المختصر يمكننا إجمال ما كتب في:
تقدم السرديات الحضارية مجالًا ثريًا لتحليل العلاقة بين النصوص والمجتمعات، وهي ليست مجرد حكايات ومرويات الأمم السالفة والأزمان الغابرة؛ بل تعبير عن تطلعات الأمم وآمالها وكفاحها، لكن التحدي الذي يواجه الفكر المعاصر يكمن في إعادة تأويل هذه السرديات بما يعكس التنوع الثقافي والإنساني، ويضع أسسًا لحوار بنَّاء بين الحضارات.
ناقد أدبي عضو لجنة الإعلام باتحاد كتاب مصر
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك