في ظلِّ التَّطوُّر المتسارع في منظومة التَّعليم العالي، أصبح تبنِّي أساليب تدريس تفاعليَّة ضرورة لتعزيز المشاركة الطُّلَّابيَّة وتنمية التَّفكير النَّقديِّ والإبداعيِّ. ومن بين هذه الأساليب، تبرز استراتيجيَّة الكرسيِّ السَّاخن كأداة فعَّالة في تحويل القاعات الدِّراسيَّة إلى بيئات تعليميَّة نشطة تشجِّع الطَّلبة على النِّقاش والتَّحليل والاستقصاء. تعتمد هذه الاستراتيجيَّة على وضع الطَّالب أو الأستاذ في موقع استجواب من قبل زملائه، ممَّا يدفعه إلى التَّفاعل مع الأسئلة المطروحة والتَّفكير بعمق في موضوع النِّقاش. ومع سعي مؤسَّسات التَّعليم العالي في مملكة البحرين إلى تطوير منظومتها التَّعليميَّة، يمكن أن يكون تبنِّي هذه الاستراتيجيَّة خطوةً محوريَّةً في تعزيز جودة التَّعليم ورفع مستوى التَّفاعل الأكاديميِّ بين الطَّلبة وأعضاء هيئة التَّدريس.
تقوم استراتيجيَّة الكرسيِّ السَّاخن على فكرة وضع فرد واحد في موضع الأسئلة، سواءً كان هذا الفرد طالبًا أو أستاذًا، بينما يقوم الآخرون بتوجيه الأسئلة إليه حول موضوع معيَّن. يتيح هذا النَّهج فرصةً للطَّالب لتقديم وجهة نظره، والدِّفاع عن أفكاره، والرَّدُّ على التَّساؤلات النَّقديَّة الَّتي تساعده على تطوير مهاراته في الخطابة، والتَّفكير النَّقديُّ، والتَّفاعل مع الجمهور. تستخدم هذه الاستراتيجيَّة في مجالات متعدِّدة، مثل تحليل النُّصوص الأدبيَّة، ودراسة القضايا القانونيَّة، واستعراض المشكلات الاقتصاديَّة، أو حتَّى مناقشة الحلول الهندسيَّة لمشاكل فنِّيَّة معقَّدة.
ونظرًا إلى أنَّ مؤسَّسات التَّعليم العالي في مملكة البحرين تضمَّ مجموعةً متنوِّعةً من التَّخصُّصات الأكاديميَّة، فإنَّ تطبيق استراتيجيَّة الكرسيِّ السَّاخن يمكن أن يكون له تأثير كبير في مختلف الكلِّيَّات، وفقًا لاحتياجات كلِّ منها. فيما يلي بعض الطُّرق الَّتي يمكن من خلالها تبنِّي هذه الاستراتيجيَّة في كلِّيَّات هذه المؤسَّسات.
يمكن استخدام هذه الاستراتيجيَّة في قسم اللُّغة العربيَّة وقسم اللُّغة الإنجليزيَّة وآدابها بكلِّيَّة الآداب لتحليل النُّصوص الأدبيَّة، حيث يجلس أحد الطُّلَّاب في الكرسيِّ السَّاخن لتمثيل دور مؤلِّف النَّصِّ أو ناقد أدبيّ، ويجيب عن الأسئلة حول أسلوبه وأهدافه. يمكن أيضًا استخدامها في قسم الإعلام بكلِّيَّة الآداب لتحليل الأخبار وتقارير الصِّحافة، حيث يمكن للطَّالب أن يؤدِّي دور الصَّحفيِّ أو النَّاقد الإعلاميِّ ويدافع عن تغطيته الإعلاميَّة أمام أسئلة زملائه.
وفي سياق دراسة القضايا القانونيَّة في كلِّيَّة الحقوق، يمكن أن يؤدِّي الطَّالب دور محام أو قاض ويجيب عن استفسارات زملائه حول قضيَّة معيَّنة، ممَّا يعزِّز فهمه للإجراءات القانونيَّة ويساعده على التَّفكير التَّحليليِّ والمنطقيِّ. يمكن أيضًا استخدام الكرسيِّ السَّاخن لمحاكاة جلسات الاستجواب القضائيِّ، ممَّا يوفِّر تدريبًا عمليًّا على مهارات المحاماة والمرافعة.
يمكن استخدام هذه الاستراتيجيَّة أيضًا في كلِّيَّة إدارة الأعمال لتحليل استراتيجيَّات التَّسويق وإدارة الشَّركات، حيث يمكن للطُّلَّاب الجلوس على الكرسيِّ السَّاخن كممثِّلين عن شركات افتراضيَّة والرَّدِّ على أسئلة المستثمرين حول خطط أعمالهم. يمكن أيضًا تطبيقها في مناقشة دراسات الحالة الاقتصاديَّة، ممَّا يعزِّز مهارات الطُّلَّاب في التَّحليل واتِّخاذ القرارات.
وفي كلِّيَّة العلوم الصِّحِّيَّة، يمكن استخدامها لمحاكاة سيناريوهات طبِّيَّة حيث يتقمَّص الطُّلَّاب دور الأطبَّاء ويطلب منهم تشخيص حالات مرضيَّة بناءً على المعلومات الَّتي يقدِّمها زملائهم. كما يمكن للطُّلَّاب أداء دور المرضى والإجابة عن أسئلة الأطبَّاء المحتملين حول أعراضهم، ممَّا يعزِّز مهارات الاتِّصال والتَّشخيص لديهم.
تعدَّ أيضًا استراتيجيَّةً فعَّالةً إذا استخدمت في كلِّيَّة المعلِّمين لتدريب المعلِّمين المستقبلين على كيفيَّة التَّعامل مع المواقف التَّعليميَّة الصَّعبة وإيجاد حلول مناسبة لها. يمكن أيضًا تطبيقها في محاكاة سيناريوهات تربويَّة لتدريب الطُّلَّاب على إدارة الفصول الدِّراسيَّة بفعَّاليَّة.
إنَّ تبنِّي هذه الاستراتيجيَّة في التَّعليم العالي البحرينيِّ يحقِّق مجموعةً من الفوائد الَّتي تساهم في رفع مستوى العمليَّة التَّعليميَّة. من أهمَّ هذه الفوائد: تعزيز مهارات العرض والتَّواصل من خلال مساعدة الطَّلبة على تقديم أفكارهم بوضوح والتَّحدُّث أمام الجمهور بثقة، وتنمية التَّفكير النَّقديِّ والتَّحليليِّ عن طريق دفع الطُّلَّاب إلى البحث والاستقصاء قبل تقديم إجاباتهم، ممَّا يطوِّر قدراتهم العقليَّة والمنهجيَّة، وتشجيع التَّعلُّم النَّشط من خلال جعل العمليَّة التَّعليميَّة أكثر تفاعليَّة وإشراكًا للطُّلَّاب، ممَّا يؤدِّي إلى زيادة استيعابهم وفهمهم للموضوعات المطروحة، ومحاكاة المواقف الحقيقيَّة حيث تتيح للطَّلبة تجربة مواقف مهنيَّة مماثلة لما قد يواجهونه في حياتهم العمليَّة، ممَّا يجهِّزهم لسوق العمل. بالإضافة إلى تحفيز التَّعاون والعمل الجماعيِّ، حيث تعزِّز روح النِّقاش والتَّفاعل بين الطَّلبة، ممَّا يساهم في تطوير مهارات العمل ضمن فرق.
ورغم الفوائد العديدة، قد يواجه تطبيق هذه الاستراتيجيَّة بعض التَّحدِّيات، مثل تردُّد بعض الطُّلَّاب في المشاركة أو صعوبة إدارتها في الفصول ذات الأعداد الكبيرة. وللتَّغلُّب على هذه العقبات، يمكن اتِّخاذ بعض الإجراءات مثل تهيئة بيئة داعمة لتشجيع الطُّلَّاب على المشاركة دون خوف من الخطأ، وتقسيم الطَّلبة إلى مجموعات لضمان مشاركة أكثر فاعليَّة، وتدريب أعضاء هيئة التَّدريس على كيفيَّة تطبيق الاستراتيجيَّة بطرق تتناسب مع طبيعة مقرَّراتهم الدِّراسيَّة.
إنَّ استراتيجيَّة الكرسيِّ السَّاخن تمثِّل إضافة نوعيَّة لأساليب التَّدريس في مؤسَّسات التَّعليم العالي في مملكة البحرين، حيث توفِّر بيئةً تعليميَّةً محفِّزةً تشجِّع الطُّلَّاب على التَّفكير النَّقديِّ والتَّحليل والمشاركة الفعَّالة. من خلال دمج هذه الاستراتيجيَّة في مختلف التَّخصُّصات، يمكن لهذه المؤسَّسات تحقيق أهدافها في تطوير التَّعليم العالي وإعداد خرِّيجين قادرين على مواجهة تحدِّيات سوق العمل بمهارات قويَّة في النِّقاش والتَّحليل واتِّخاذ القرار. إنَّ تبنِّي هذه الممارسات الحديثة سوف يعكس التزام هذه المؤسَّسات بتطوير طرق التَّدريس وتعزيز جودة التَّعليم في المملكة، ممَّا يجعلها نموذجًا يحتذى به في المنطقة.
{ أُسْتَاذ اللُّغَوِيَّات زَميل أكَادِيمِيّة التَّعْلِيم الْعَالِي الْبرِيطَانِيَّةِ
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك