في أواخر أبريل 2025، بدأت «محكمة العدل الدولية»، جلساتها للنظر في قضية امتناع إسرائيل عن السماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى المدنيين المحاصرين في قطاع غزة خلال الحرب، إضافة إلى رفض حكومة «بنيامين نتنياهو»، المتطرفة، التعاون مع «وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين» (الأونروا)، وذلك في خرق واضح لمبادئ القانون الدولي الإنساني، وفي إطار سياسة ممنهجة تهدف إلى تجويع السكان الفلسطينيين، وتجاهل الجهود الدولية الرامية إلى تخفيف معاناتهم.
وتأتي هذه الجلسات استنادًا إلى طلب تقدمت به «الجمعية العامة للأمم المتحدة» في ديسمبر الماضي، لإصدار رأي استشاري حول ما إذا كانت إسرائيل – بصفتها قوة احتلال – ملزمة قانونًا بالسماح بوصول المساعدات الإنسانية إلى الفلسطينيين. وفيما استمرت هذه الجلسات خمسة أيام؛ إلا أن صدور الحكم قد يستغرق شهورًا.
وفي ذات المحكمة، تواجه إسرائيل أيضًا القضية التي رفعتها «جنوب إفريقيا» ضدها، متهمةً إياها بارتكاب «جرائم حرب»، ترقى إلى مستوى «الإبادة الجماعية»، بحق المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة، في خطوة تعكس تصاعد الضغط القانوني والدولي عليها نتيجة ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من انتهاكات جسيمة وممنهجة.
بالتوازي مع ذلك، يواصل المدعي العام «للمحكمة الجنائية الدولية»، اتخاذ خطوات قانونية، بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي «بنيامين نتنياهو»، ووزير دفاعه السابق «يوآف غالانت»، تمهيدًا لإصدار مذكرات توقيف دولية بحقهما، تُلزم الدول الموقّعة على نظام روما الأساسي باعتقالهما وتسليمهما متى ما توفرت الظروف، في تطور يعكس تصاعد المساعي القضائية الدولية لمحاسبة المسؤولين الإسرائيليين على الجرائم المرتكبة في غزة.
من جانبها، وثّقت العديد من «المنظمات الحقوقية»، سلسلة من «جرائم الحرب»، التي ارتكبتها إسرائيل بحق المدنيين الفلسطينيين في غزة منذ بدء حربها في أكتوبر 2023، لا سيما فيما يتعلق بحرمانهم المتعمد من الضروريات الأساسية للحياة. وأكدت أوامر الاعتقال التي صادق عليها قضاة «الجنائية الدولية»، في نوفمبر 2024، ارتكابها «جرائم ضد الإنسانية»، تمثّلت في «تعمُّد حرمان السكان المدنيين من الموارد التي لا غنى عنها لبقائهم»، بما في ذلك الغذاء، والماء، والدواء، والوقود، والكهرباء؛ ما شكّل إعاقة منهجية لإيصال المساعدات الإنسانية، وتسبّب في تفاقم كارثة صحية، وإنسانية غير مسبوقة.
وبالإشارة إلى أن هذه هي المرة الأولى في التاريخ التي تركز فيها محكمة دولية كبرى على توجيه تهمة الإبادة الجماعية على تهمة التجويع تحديدًا؛ فقد أشار «بويد فان ديك»، في مجلة «فورين أفيرز»، إلى أن اتهام إسرائيل بهذه الجريمة -التي نادرًا ما يتم التذرع بها في المحاكم الدولية – يمثل «اختبارًا رئيسيًا للقانون الدولي. ومع ذلك، أقر بأن «الجنائية الدولية»، ستواجه «معركة شاقة للغاية» في سعيها لتقديم «نتنياهو»، و«غالانت» إلى العدالة، في ظل ما يحيط بالقضية من عوائق سياسية وقانونية وتنفيذية معقدة.
وبشكل قاطع، تُبرز نصوص القانون الدولي التمييز القانوني في التهم الموجهة إلى إسرائيل. ووفقًا لما قضت به الدائرة التمهيدية الأولى «للمحكمة الجنائية الدولية»، تشير المادة (8) من نظام روما الأساسي بوضوح إلى أن «استخدام تجويع المدنيين عمدًا كأسلوب من أساليب الحرب عن طريق حرمانهم من الأشياء التي لا غنى عنها لبقائهم»؛ يعد «جريمة حرب»، كما أن «عرقلة إمدادات الإغاثة عمدًا»، تدخل أيضًا ضمن «جرائم الحرب».
وفي هذا السياق، تنص المادة (55) من اتفاقية جنيف لعام 1949، على أنه «يتعين على القوة المحتلة، بأقصى ما تسمح به وسائلها المتاحة، ضمان توفير الغذاء والإمدادات الطبية للسكان». وبالتالي، يُفترض أن تقوم القوة المحتلة «بتوفير ما يلزم من إمدادات غذائية ومستلزمات طبية ومواد أخرى، إذا كانت موارد الأراضي المحتلة غير كافية». من جهة أخرى، تلزم المادة (59) القوة المحتلة أيضًا «بالموافقة على خطط الإغاثة نيابةً عن السكان المعنيين»، ويجب عليها «تسهيل تنفيذ هذه الخطط بكل الوسائل المتاحة لها».
ويشير العديد من خبراء القانون الدولي والإنساني إلى أن إسرائيل قد انتهكت هذه القوانين الدولية، كما أن التصريحات التحريضية المتكررة التي أدلى بها مسؤولوها تعكس نواياهم بشكل واضح. وأشار «فان ديك»، إلى تصريحات المسؤولين الإسرائيليين بشأن فرض حصار شامل على غزة، ومنها تهديد «غالانت» في 9 أكتوبر 2023، بأن الفلسطينيين في غزة سيُوضعون تحت «حصار كامل»، مع حرمانهم من «الكهرباء، والطعام، والماء، والوقود». كما نقل تصريح «يسرائيل كاتس»، وزير الطاقة والبنية التحتية، الذي قال: «سنواصل فرض حصار مشدد»، مشيرًا إلى أن «ما كانت عليه المنطقة لن يكون موجودًا بعد الآن». إضافة إلى تصريح «إيتامار بن غفير»، وزير الأمن القومي المتطرف – آنذاك – بأن «الشيء الوحيد الذي يجب أن يدخل غزة هو إسقاط مئات الأطنان من المتفجرات التابعة لسلاح الجو، وليس أونصة من المساعدات الإنسانية».
وبالفعل، تجلّت تلك النوايا الواضحة لارتكاب إسرائيل «جرائم حرب»، و«جرائم ضد الإنسانية»، في ممارسات ميدانية قاسية وواضحة المعالم. ففي نوفمبر 2024، خلصت لجنة خاصة تابعة للأمم المتحدة، إلى أن المسؤولين الإسرائيليين منذ أكتوبر 2023، انتهجوا سياسات تهدف إلى «حرمان الفلسطينيين من الضروريات الأساسية اللازمة للبقاء، كالغذاء والماء والوقود». وأكدت اللجنة أن «إسرائيل تسببت عمدًا في الموت، والتجويع، والإصابات الجسيمة، من خلال استخدام التجويع كوسيلة من وسائل الحرب، وفرض عقوبات جماعية على الشعب الفلسطيني»، وهو ما يشكل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي، الذي وُضع لضمان حماية المدنيين خلال النزاعات المسلحة.
وتأكيدا على ذلك، أكد «مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية»، أن الوضع الإنساني في غزة بلغ أسوأ حالاته حتى الآن في ظل الحظر الكامل الذي يفرضه الجيش الإسرائيلي على جميع عمليات إيصال المساعدات الخارجية منذ أوائل مارس. وفي 25 أبريل 2025، كان «برنامج الغذاء العالمي»، قد وزع آخر ما تبقى من مخزوناته الغذائية داخل غزة. وفي هذا السياق، أشار «فان ديك»، إلى أن القضية المنظورة أمام «الجنائية الدولية»، تسلط الضوء على «الطابع العاجل لأزمة الجوع الجماعي في غزة، والصعوبات المستمرة في محاكمة التجويع كجريمة حرب»، مؤكدًا أن هذا النوع من الجرائم نادرًا ما خضع مرتكبوها للمساءلة في الحروب السابقة.
وعند النظر في المادة (8) من نظام روما الأساسي، والخاصة بجرائم الحرب ضد المدنيين؛ فإن الحرب الإسرائيلية على غزة قد انتهكت -ومازالت تنتهك- جميع الشروط المنصوص عليها، بما في ذلك: «القتل العمد للمدنيين»، «ومعاملتهم اللاإنسانية»؛ و«التسبب عمدًا في معاناة شديدة أو إصابة خطيرة بالجسم أو الصحة»، و«التدمير الشامل والاستيلاء على الممتلكات»، و«الترحيل أو النقل غير القانوني»، و«توجيه هجمات متعمدة ضد السكان المدنيين»، و«توجيه هجمات متعمدة ضد أهداف مدنية»، و«مهاجمة المنشآت والمواد المشاركة في مهمة المساعدة الإنسانية أو حفظ السلام»، و«شن هجوم متعمد مع العلم أن مثل هذا الهجوم سيتسبب في خسائر عرضية في الأرواح أو إصابة المدنيين»، و«مهاجمة المباني المخصصة للدين أو التعليم أو الفن أو العلوم أو الأغراض الخيرية عمدًا».
في المقابل، حذّرت رئيسة «المحكمة الجنائية الدولية»، «توموكو أكاني»، من أن المحكمة «تواجه تهديدًا وجوديًا»، يُقوّض قدرتها على التحقيق في جرائم الحرب، ومحاسبة المسؤولين عنها، وذلك بسبب الضغوط السياسية المباشرة التي تمارسها حكومتا إسرائيل والولايات المتحدة على عدد من الدول لحملها على انتهاك التزاماتها المنصوص عليها في القانون الدولي.
وعلى الرغم من أن الدول الموقعة على نظام روما الأساسي مُلزمة باحترام مذكرات التوقيف الدولية الصادرة عن «المحكمة الجنائية الدولية»، واعتقال وتسليم المتهمين بارتكاب «جرائم حرب»، و«جرائم ضد الإنسانية»؛ فإن عددًا من الدول الأوروبية رفضت الالتزام بذلك في حالة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. ومن أبرز الأمثلة على هذا، استقبال الرئيس المجري «فيكتور أوربان»، لنتنياهو في «بودابست»، مطلع أبريل 2025، وإعلان حكومته انسحابها رسميًا من المحكمة.
كما أبدت دول أخرى، مثل «المملكة المتحدة»، و«فرنسا»، مواقف مترددة وغير حاسمة بشأن الالتزام بتوقيف المسؤولين الإسرائيليين. في الوقت نفسه، أصرّ المستشار الألماني الجديد، «فريدريش ميرز»، على أن نتنياهو «سيكون قادرًا على السفر إلى ألمانيا دون أي مضايقات»، مؤكدًا أن حكومته «ستجد سبلًا لتحقيق ذلك»، رغم أن ألمانيا من الدول الموقعة على نظام روما الأساسي. وعلى نحو مماثل، ألمح رئيس وزراء هولندا – حيث يقع مقر المحكمة الجنائية الدولية– إلى وجود «سيناريوهات محتملة»، يمكن فيها لنتنياهو زيارة البلاد دون أن يُعتقل أو يُحاكم في لاهاي.
من جانب آخر، أقر «فان ديك»، بأن «إدارة ترامب»، «بذلت جهودًا حثيثة لتقويض عمل «الجنائية الدولية»، من خلال فرض عقوبات «تهدف إلى جعل عملها شبه مستحيل». ففي 6 فبراير 2025، أصدر «البيت الأبيض»، أمرًا تنفيذيًا برفض منح تأشيرات لموظفيها وأفراد عائلاتهم، بالإضافة إلى تجميد أصولهم المالية، مبررًا ذلك بأن المحكمة تمتلك «صلاحيات مفرطة وغير خاضعة للمساءلة، تشكل تهديدًا كبيرًا لسيادة الولايات المتحدة ونظامها الدستوري».
واستمرارا، امتدت هذه الضغوط إلى تهديد المهنيين القانونيين في الدول الغربية. وذكرت صحيفة «فاينانشال تايمز»، أن «الخارجية البريطانية»، حذّرت عددًا من كبار المحامين البريطانيين –من بينهم القاضي السابق اللورد «أدريان فولفوردن»، والبارونة «هيلينا كينيدي» – من أنهما قد يواجهان عقوبات شخصية من الولايات المتحدة؛ بسبب تقديمهما المشورة القانونية للمحكمة الجنائية الدولية.
وفي ظل هذه الأوضاع، أبلغ «قضاة المحكمة»، المدعي العام «كريم خان»، بعدم قدرتهم على تقديم طلبات جديدة لإصدار مذكرات توقيف بحق مسؤولين إسرائيليين. وأشار «هاري ديفيز»، في صحيفة «الجارديان»، إلى وجود «توترات بين المدعي العام وقضاة المحكمة، بشأن طريقة تعامله مع التحقيق في الانتهاكات الإسرائيلية في غزة، في وقت بدأت فيه العقوبات الأمريكية، والعزلة السياسية المفروضة من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل، تؤثر بشكل واضح على وحدة المحكمة».
وبالنظر إلى هذه التطورات، حذّر «فان ديك»، من أن مساعي المحكمة لمحاسبة المسؤولين الإسرائيليين، بمن فيهم «نتنياهو»، بتهمة ارتكاب «جرائم حرب»، ضد الفلسطينيين، «قد لا تؤدي إلى أي نتيجة ملموسة». وعلى الرغم من إشارته إلى أن تركيز المحكمة على جريمة الحرب المتمثلة في «التجويع»، قد يترك آثارًا قانونية مستقبلية على صراعات أخرى؛ إلا أن الواقع يشير إلى أن مثل هذه الأحكام لن تفعل شيئًا لتخفيف المعاناة الهائلة والمتصاعدة لملايين المدنيين المحاصرين في غزة؛ لكون إسرائيل نفسها محمية من المساءلة الدولية من قبل الحكومات الغربية المتواطئة.
ويؤكد «برنامج الغذاء العالمي»، أنه يملك أكثر من 116 ألف طن من المساعدات الغذائية المخزنة في ممرات المساعدات خارج غزة، وهي جاهزة لتوزيعها على أكثر من مليون شخص. ومع ذلك، أعلن عضو الكنيست عن حزب الليكود، «موشيه سعادة»، عن نية إسرائيل «تجويع سكان غزة»، في تصريح يرقى بحد ذاته إلى مستوى جريمة حرب.
وفي ضوء ذلك، فإن استمرار فشل المجتمع الدولي في محاسبة الحكومة الإسرائيلية، ومعاقبة المسؤولين عن هذه الجرائم؛ لن يؤدي إلا إلى تفاقم الكارثة الإنسانية التي بدأت في أكتوبر 2023 وتفاقمت منذ ذلك الحين، لتصل الآن إلى حافة الانهيار الكامل، لا سيما بعد أن اضطرت 95% من وكالات الإغاثة الإنسانية إلى تقليص، أو تعليق عملياتها في غزة؛ بسبب القصف العشوائي الإسرائيلي، والقيود المتعمدة التي تمنع الوصول إلى المدنيين لتخفيف معاناتهم الإنسانية الشديدة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك