عندما كنتُ طالبا في جامعة مانشستر للعلوم والتكنولوجيا في مدينة مانشستر العريقة في بريطانيا في مطلع الثمانينيات من القرن المنصرم، ومكثتُ فيها قرابة أربع سنوات للتحضير ونيل درجتي الماجستير والدكتوراه في كيمياء البيئة، لاحظتُ خلال هذه السنوات القليلة ظاهرة ليست بغريبة، فهي معروفة منذ عقود طويلة من الزمن وشاهدناها في كثير من مناطق العالم، وهي هجرة الكثير من العقول العلمية المبدعة والمتميزة من أساتذة الجامعة البريطانية إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث بلد حرية الرأي والتعبير، وبلد المجال الواسع للبحث والدراسات العلمية النادرة والمتقدمة، وبلد الفرص العظيمة للإبداع والإنتاج وتحسين الوضع المعيشي للفرد والأسرة.
فالعقول العلمية المبدعة دائما تبحث عن النور بدلاً من الظلام، والاستقرار وراحة النفس والبال بدلاً من حالة عدم الأمن والسلام، والمفكرون دائما يسعون ويعملون على الدعوة إلى آرائهم وأفكارهم في جو صحي يسوده الأمن والطمأنينة ويشجع ويحفز حرية التعبير والرأي والفكر المستنير، ورجال الثقافة والعلم ذوو الكفاءة العالية يبحثون عن إحداث الفرق والتغيير في حياتهم وحياة الناس في بيئة خصبة تَرْعى وتدعم هذا التغيير نحو الأفضل ونحو الرقي والتطور للمجتمعات والشعوب.
ولذلك جميع هذه العقول الكبيرة التي ذهبتْ في العقود الماضية وهاجرت إلى الولايات المتحدة الأمريكية للعمل والإنجاز والتطوير، تواجه اليوم سداً منيعاً قوياً يقف أمام استدامة سعيهم نحو العطاء والإنجاز، وتصطدم بواقعٍ سياسي جديد وعقيم منذ يناير 2025 لا يؤمن إلا بالرأي الواحد، ولا يدعم إلا الفكر الواحد، ولا ينفذ إلا سياسة الرجل الأوحد الجالس في البيت الأبيض، فيُحبط هذا الواقع السياسي الغريب والشاذ كل أبحاثهم ودراساتهم المستقلة، ويضع أمامهم العراقيل، ويمارس عليهم كل أنواع الضغوط المادية، والسياسية، والأمنية التي تقف حجر عثرة أمام شغفهم وحبهم نحو التقدم والرقي بالبشرية جمعاء. كما يعيشون الآن في بيئة مريضة مُعدية قد تنقل إلى عقولهم ونفوسهم الأوبئة الفكرية المتأخرة والرجعية، وتقتل جهودهم، وتجمد فكرهم وآراءهم، ولذلك كان لا بد اضطرارا وليس رغبة وطواعية الخروج من هذه البيئة السقيمة، والبحث عن بديل ومن جديد عن بيئة صحية سليمة، تُعيد إليهم نشاطهم، وتشجعهم على إنجاز برامجهم البحثية والعلمية.
ومن أجل الإعلان والتحذير من هذه الحالة المأساوية للعلم والعلماء والبحث العلمي المستقل والموضوعي، وبيان التهديدات التي تواجه العلم في الولايات المتحدة بشكل عام، فقد قام أكثر من 2000 من أفضل علماء أمريكا من الأكاديميات القومية للعلوم والهندسة والطب بنشر خطاب عام في وسائل الإعلام في مارس 2025، وحذروا فيه قائلين: «بأننا نُرسل هذا الخطاب للتحذير بشكلٍ واضح بأنه يتم تدمير المشاريع العلمية للأمة»، أي أن هؤلاء العلماء الكبار يعلنون أن العلم في أمريكا في خطر عقيم، وأن لهذا الوضع تداعيات شاملة على المستوى الدولي برمته.
وقد نُشر بحث في 29 أبريل 2025 في مجلة «الطبيعة» (Nature) المعروفة دولياً تحت عنوان: «هل سينجو العلم في الولايات المتحدة في عهد ترامب الثاني»، حيث عرض البحث تلخيصا واضحا لأهم عوامل استياء العلماء وهروبهم من أمريكا التي كانت يوماً ما بلد جذب واستقطاب لهم. فمن الأسباب أولا: تهميش وإلغاء الكثير من الوكالات العلمية والبحثية التابعة للحكومة الاتحادية تحت مبرر ترشيد النفقات، وثانيا: إلغاء بعض البرامج البحثية التي توظف الآلاف من أهل الخبرة والعلم في كل المجالات العلمية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية، وثالثا: وقف المنح الاتحادية لإجراء الدراسات والبحوث في بعض المجالات في الجامعات ومراكز الأبحاث، إضافة إلى قطع المساعدات المالية عن الجامعات، منها إلغاء منحة مالية قدرها 2.2 مليار دولار لجامعة هارفرد الأعرق والأقدم على المستوى الدولي. ورابعاً: سيكون هناك خفض ملموس في الميزانية العامة على الأبحاث والجامعات والاستثمار في المجالات العلمية، إضافة إلى تقليل البرامج العلمية في الهيئات والوكالات الاتحادية، مثل ناسا، والمعاهد القومية للصحة. وخامساً وأخيراً فقد تم تقييد وتسييس حرية الرأي والتعبير والبحث العلمي في الجامعات ومراكز البحوث والمعاهد العلمية، وإرهاب أعضاء هيئة التدريس والطلبة على حدٍ سواء، إما بتهديدهم بالفصل من وظائفهم، أو إلغاء تأشيراتهم، أو طردهم من أمريكا إذا لم يلتزموا بسياسة ترامب ومواقفه المتعلقة بمعاداة السامية والقضية الفلسطينية.
وقد قرأتْ القارة الأوروبية العجوز هذا الواقع المريض الذي يعيش فيه العلماء في أمريكا، ودرست من كثب معاناتهم الأليمة والصعوبات المالية والسياسية التي نزلت عليهم لإجراء الأبحاث العلمية الموضوعية والمستقلة. ولذلك استغلت أوروبا، وعلى رأسهم فرنسا حالة الفوضى السياسية وخفض الدعم المالي في عهد ترامب، كما تبنت حاجة العلماء والمفكرين والأطباء إلى العمل في بيئة ناضجة، وتوفير تربة خصبة تساعدهم على زرع محاصيلهم وجني ثمراتهم. فهذه فرصة لا تعوض لاستقطاب العلماء والباحثين وتنمية وتعميق البحث العلمي في القارة الأوروبية بعد سنوات عجاف، وتأخر مشهود في الإنجازات والاختراعات في كل مجالات الحياة، لكي تتصدر المشهد العلمي بعد أن كانت الريادة والقوة العلمية والتقنية منذ الحرب العالمية الثانية للولايات المتحدة الأمريكية.
وقد نظمت المفوضة الأوروبية العديد من المؤتمرات، وورش العمل، والندوات لإبراز قدرة وإمكانيات القارة الأوروبية من جميع النواحي المالية، والسياسية، والاجتماعية، والتقنية على جذب هؤلاء العلماء الهاربين من بطش ترامب السياسي والمالي، وتسييس البحث العلمي وحرية الرأي والتعبير، منها المؤتمر الترويجي الذي عقد في الخامس من مايو 2025 في العاصمة الفرنسية باريس في جامعة السوربون العريقة تحت شعار «اختر أوروبا من أجل العلم». أما من الناحية المادية فقد أعلنت المفوضية الأوروبية تمويلا سخيا بمبلغ 500 مليون يورو للفترة من 2025 إلى 2027 لجذب واستقطاب الكفاءات المتميزة والعالية للتخلص من توجيهات ترامب وإملاءاته السياسية المتحيزة والأحادية. وعلاوة على تخصيص هذا المبلغ من الاتحاد الأوروبي فقد أعلن الرئيس الفرنسي تخصيص حكومة بلاده 100 مليون دولار إضافية لتشجيع وتحفيز العقول العلمية الهاربة من أمريكا لنقل أبحاثهم ودراساتهم إلى فرنسا.
والآن هل ستقوم الدول العربية، وبخاصة دول الخليج بما تقوم به أوروبا في استغلال هذه الفرصة النادرة وتشجيع الهجرة العكسية إلى بلادنا من خلال استقطاب الكفاءات العلمية النادرة والمتفوقة والمتميزة، وتشجيعهم للعمل في بلادنا وتطوير وتنمية الباحثين والبحث العلمي؟
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك