كان يعتقد لسنوات طويلة أن الأمراض الوراثية المزمنة قدرٌ لا مفر منه، يلازم المصاب مدى الحياة من دون أمل في علاج جذري. غير أن التقدم العلمي غيَّر هذا المفهوم، حيث أصبح من الممكن تعديل الجينات المسؤولة عن هذه الأمراض، مما يمهد الطريق لعلاجات حديثة تعيد الأمل للمرضى.
في هذا السياق، وبفضل الله سجلت البحرين إنجازًا طبيا لافتا بعلاج مريض مصاب بفقر الدم المنجلي باستخدام تقنية التعديل الجيني «كريسبر»، ليكون أول شخص خارج الولايات المتحدة يخضع لهذا العلاج بنجاح.
لا يمثل هذا التطور تقدما طبيا فقط، بل يعكس رؤية أوسع لمستقبل الرعاية الصحية في مملكتنا، حيث بات الاعتماد على التقنيات المتقدمة جزءًا أساسيا من تحسين القطاع الصحي. ولعل زيارة سمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، الأمير سلمان بن حمد آل خليفة، للمريض بعد نجاح علاجه، يعد تأكيدا لالتزام الدولة بتوفير أحدث الخيارات العلاجية، وحرصها على أن يكون المواطن البحريني في مقدمة المستفيدين من الابتكارات الطبية العالمية.
على المستوى العلمي، تعد تقنية «كريسبر» واحدة من أبرز الاكتشافات الحديثة في مجال العلاج الجيني، إذ تتيح تصحيح الطفرات المسببة للأمراض على مستوى الحمض النووي، مما يفتح الباب أمام علاج للعديد من الحالات التي لم يكن لها حل في السابق. حيث تعمل المراكز البحثية والشركات الطبية حول العالم على تحسين فعالية هذه العلاجات، وتقليل آثارها الجانبية، وضمان توفيرها بتكاليف مقبولة. لذا، فإن تبني بلادنا لهذه التقنية يعكس إدراكا مبكرا لأهمية الأبحاث الجينية في مستقبل الطب، وحرصا على مواكبة التقدم العلمي بما يعود بالفائدة على المجتمع.
بالنسبة إلى كثير من المرضى وأسرهم، لا يتعلق الأمر بعلاج جديد فحسب، بل بتغير كامل في نمط الحياة. فالأشخاص المصابون بأمراض وراثية مثل فقر الدم المنجلي اعتادوا على أن يكون الألم والتعب جزءًا من يومهم، وزيارات المستشفى أمرا متكررًا لا يمكن تجنبه. لكن أن يصبح بإمكانهم الآن العيش بحرية أكبر، دون قيود العلاج المستمر أو القلق من المضاعفات، هو تحول حقيقي يفتح لهم أبوابا كانت تبدو مغلقة. يصبح متاحا السفر دون التفكير في توفر الرعاية الطبية القريبة، ممارسة الرياضة دون الخوف من النوبات المفاجئة، وحتى التخطيط لمستقبل مهني دون عقبات صحية، كلها أمور تصبح ممكنة مع هذه العلاجات.
كما أن أثرها لا ينحصر على المرضى وحدهم، فالعائلات التي كانت تعيش تحت ضغط مستمر لرعاية أحبائها تجد في هذه التطورات متنفسا، حيث يتراجع القلق ويصبح التركيز منصبا على بناء المستقبل بدلا من إدارة المرض. هذه التغييرات قد لا تحدث بين ليلة وضحاها، لكنها بداية لواقع مختلف، إذ تقل معاناة الأفراد، وتصبح المجتمعات أكثر راحة واستقرارا مع مرور الوقت.
التوجه نحو هذه التقنيات العلاجية يتعدى نطاق توفير خيارات جديدة للمرضى، بل يحمل أبعادًا استراتيجية على مستوى تطوير النظام الصحي. فمع ازدياد الاهتمام بالتدخلات الطبية الجينية عالميا، تتاح فرص لتوسيع نطاق التعاون مع المؤسسات البحثية والشركات المتخصصة، مما يسهم في تعزيز الخبرات المحلية، ودعم البحث العلمي، وتحقيق نقلة نوعية في جودة الرعاية الطبية. وقد يكون هذا الاستثمار خطوة نحو جعل البحرين مركزا إقليميا للعلاجات المتقدمة، وهذا بطبيعة الحال يرسخ موقعها في خارطة الابتكار الطبي.
إلى جانب العلاجات الجينية، تتجه الأنظار أيضا إلى التطبيقات النانوية في الطب، التي تعد من المجالات الواعدة في النهج الطبي الحديث. وعلى الرغم من أن تطبيقاتها لا تزال قيد البحث والتطوير، إلا أن استخدامها في تحسين إيصال الأدوية للخلايا المستهدفة، وتقليل التأثيرات الجانبية، يمثل تطورًا قد يحدث تحولا في أسلوب التعامل مع الأمراض المزمنة. وفي هذا الإطار، تبدي مملكة البحرين اهتماما واضحا بالبحث في هذه التقنيات، الأمر الذي يرفع من الآفاق المستقبلية للقطاع الصحي.
ما تحقق اليوم قد يكون بداية لمسار طويل من التطورات، لكنه يعكس رؤية طموحة لمستقبل الرعاية الصحية. لم يعد الطب يقتصر على إدارة الأعراض، بل أصبح السعي نحو القضاء على الأمراض من جذورها هدفا واقعيا تدعمه التكنولوجيا الحديثة. وبينما تتقدم الأبحاث بوتيرة سريعة، تظل الفرصة سانحة أمام الدول التي تستثمر في هذه التقنيات لتعزيز مكانتها في هذا المجال. وفي ظل هذه التحولات، يظل التركيز على الابتكار والبحث العلمي هو المفتاح لصياغة مستقبل صحي أكثر كفاءة واستدامة.
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك