في الثاني عشر من فبراير 2025 أشارت وسائل الإعلام إلى إعلان كل من روسيا والسودان التوصل إلى تفاهمات بشأن «إنشاء قاعدة بحرية روسية في مدينة بورتسودان» ، وقبيل الخوض في طبيعة تلك القاعدة وأهدافها وتأثيرها ودلالاتها بالنسبة للأمن الإقليمي في تلك المنطقة وعلاقتها بالصراع والتنافس في النظام الدولي عموماً، تجدر الإشارة إلى ثلاث ملاحظات أولها: أن القرارات الاستراتيجية ليست وليدة اللحظة ولكنها تطبيق لاستراتيجيات محددة، ففي يوليو عام 2022 أقر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين العقيدة الروسية البحرية الجديدة التي تكونت من 55 صفحة وكان أبرز ما جاء فيها التوصية بضرورة وجود نقاط ضمان لوجستية- فنية في البحر الأحمر وأن منطقة شرق البحر المتوسط تعد مهمة للأمن القومي الروسي، وثانيها: على الرغم من أنه كان هناك اتفاق سابق بين روسيا والسودان عام 2017 بشأن إنشاء مركز بحري لوجستي فإن توقيت التوصل إلى الاتفاق الأخير ليكون قاعدة بحرية تزامناً مع ما يتردد عن إمكانية إنهاء الوجود البحري الروسي في سوريا، يؤكد استراتيجية روسيا وإدراكها لأهمية النفوذ البحري ضمن التنافس مع الولايات المتحدة ودول حلف الناتو عموماً، وثالثها: دلالات المكان، حيث تكتظ منطقة القرن الإفريقي التي تضم السودان وفقاً للمفهوم الأمني الواسع، بالقواعد العسكرية والتي تبلغ 19 قاعدة تديرها 16 دولة، بما يعنيه ذلك من أن الوجود الروسي في تلك المنطقة الاستراتيجية ذو دلالة مهمة وسط ذلك التواجد العسكري الإقليمي والدولي الكثيف فيها.
ومع الأخذ بالاعتبار عدم إعلان كافة تفاصيل مثل تلك الاتفاقات وهو ما بدا واضحاً من المؤتمر الصحفي لوزيري خارجية البلدين، ففي الوقت الذي أشار فيه وزير الخارجية السوداني بشكل مقتضب بالقول «لقد اتفقنا على كل التفاصيل»، لم يقم نظيره الروسي بالإدلاء بأي تصريحات عن الأمر، ولكن الحديث بشكل عام عن المساعدة في تحقيق الاستقرار في السودان، فإن المعلن هو شراكة استراتيجية بين الجانبين مضمونها منح السودان روسيا زيادة حرية الحركة للسفن الحربية الروسية في البحر الأحمر وكذلك نشر حوالي 300 عسكري و4 سفن حربية تعمل بالطاقة النووية، في تلك القاعدة مقابل دعم روسيا للجيش السوداني بالأسلحة والمعدات الحربية اللازمة لتطويره، وتكون مدة سريان الاتفاق هي 25 عاماً.
ومع أهمية مضامين وتوقيت الاتفاق، فإن القراءة الاستراتيجية للاتفاق تكتسب أهميتها، خاصة في ظل تصريحات رسمية سودانية خلال السنوات السابقة للاتفاق على أنه ليس سوى جزء من التعاون العسكري الأوسع بين الدولتين بما يشمله ذلك من مسارات أخرى من بينها دعم روسيا لقدرات الجيش السوداني هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية فإن المشهد الإقليمي الأوسع يعكس ثلاث دلالات مهمة، الأولى: أنها المرة الأولى التي سيكون لروسيا قاعدة بحرية في إفريقيا وهي إحدى المناطق التي تشهد تنافساً محتدماً بين روسيا ودول حلف شمال الأطلسي «الناتو» فلطالما تحدث مسؤولو الحلف عن تنامي النفوذ الروسي في دول الشمال الإفريقي وهو ما حدا بالحلف لإصدار وثيقة استراتيجية في عام 2024 لمستقبل علاقة الحلف بدول الجنوب والآن روسيا تتمدد نحو خاصرة القارة الإفريقية في أحد مفاصل الأمن الإقليمي والعالمي وهي منطقة البحر الأحمر، والثانية: مع أهمية الوجود الروسي بالقرب من مضيق باب المندب وهو أحد الممرات المائية المهمة للتجارة العالمية ومن بينها بالطبع حماية السفن التجارية الروسية في تلك المنطقة، فإن إضافة القاعدة الروسية الى قائمة دولية تضم الولايات المتحدة والصين ونفوذ جديد للهند من خلال إرسال قطع بحرية أيضاً لتلك المنطقة يعني ببساطة عسكرة التنافس بالقرب من ذلك الممر المائي ومن غير المستبعد حدوث مواجهة غير محسوبة بين القوات البحرية لتلك الدول في تلك المنطقة، على الرغم من تأكيد المصادر أن الاتفاق تضمن أنها قاعدة دفاعية وليست هجومية أو موجهة ضد أحد، والثالثة: ظهور روسيا كحليف استراتيجي لبعض القوى الإقليمية وخاصة في القارة الإفريقية وربما تخطط للمزيد من الاتفاقات المماثلة مستقبلاً مع دول إفريقية أخرى في الوقت الذي تراجع فيه نفوذ حلف الناتو في تلك المنطقة من خلال مغادرة بعثة الحلف «درع المحيط» التي أرسلها الحلف لمكافحة القرصنة قبالة سواحل الصومال والقرن الإفريقي عام 2008، حيث غادرت عام 2016 تجاه منطقة البحر الأسود وفقاً لما أعلنه مسؤولو الحلف بشأن الأولويات الأمنية للحلف آنذاك.
وفي تقديري أن السياق الاستراتيجي لتلك القاعدة سوف يطول أيضاً التنافس مع الأطراف الدولية الأخرى منها الاتحاد الأوروبي فلم تعد فقط جبهة أوكرانيا هي التحدي الأول للصراع الأوروبي مع روسيا وخاصة أن أوروبا لن تكون طرفاً في المفاوضات الأمريكية- الروسية حول أوكرانيا، ولكن أيضاً التحدي الروسي لأوروبا قرب الممرات المائية في ظل رمزية البعثة الأوروبية في البحر الأحمر، حيث لم ترغب العديد من الدول الأوروبية أن تكون جزءًا من تحالف حارس الازدهار الذي أعلنت الولايات المتحدة تأسيسه من قوات متعددة الجنسيات لحماية الملاحة البحرية في البحر الأحمر، من ناحية ثانية فإن ثمة تحدياً آخراً للدول الغربية وهو تطوير إيران علاقاتها أيضاً مع كل من روسيا والسودان ضمن شراكة عسكرية تتضمن أوجه تعاون عديدة أخذاً في الاعتبار أن روسيا لم تصنف الحوثيين كمنظمة إرهابية على غرار قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في هذا الشأن.
وقد يكون من المبكر الحديث عن مجمل المشهد الإقليمي في تلك المنطقة إلا أنه لا بد من التأكيد على أمرين الأول: هو وجود اهتمام متنامٍ من جانب الدول الإقليمية أيضاً بتعزيز وجودها البحري في تلك المنطقة ومن ذلك قاعدة برنيس العسكرية المصرية بالبحر الأحمر وتتضمن قاعدة بحرية وجوية مهمتها الأولى حماية وتأمين السواحل المصرية الجنوبية، والثاني: أن الجهود العسكرية الراهنة لمواجهة هجمات الحوثيين لم تؤت ثمارها على الرغم من مرور أكثر من عام على بدء عمليات تحالف حارس الازدهار بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، مما يثير الجدل حول الآليات البديلة للحفاظ على الملاحة البحرية في تلك المنطقة وربما تكون مدونة السلوك هي الخيار المطروح بما يتيحه ذلك من إمكانية مشاركة أطراف دولية من بينها روسيا في تلك المدونة على غرار ما هو معمول به في بعض مناطق العالم الأخرى.
حجم وطبيعة عمل القاعدة البحرية الروسية في السودان ومسار علاقات روسيا مع دول القارة الإفريقية الأخرى في تلك المنطقة الاستراتيجية من العالم سوف يحددان طبيعة التنافس الدولي بالقرب من الممرات المائية والذي أضحى محتدماً وسيكون مجالاً للمزيد من تنافس القوى العالمية، فضلاً عن استقطاب المواقف الإقليمية في ظل صراعات دولية وإقليمية محتدمة تتيح أدوارا دولية جديدة.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك